د. يوسف حطّيني - "اليوسُفيّات"...

1 ـ
وسَمّيتَني يوسفاً يا أبي
وما كنتَ تدري
بأنّ النّبوءةَ تكسرُ ظَهري
تُراني سأمكثُ في الجبّ ـ وا غربتاهُ ـ
بقيّةَ عُمْري؟!
2 ـ
لأنّك سمَّيتني يوسفاً
فرَّ مِنْ ليليَ النجمُ
جَافَانيَ الحلمُ
يا أبتي، كيفَ أعددتني للكنايةِ
في زمنٍ يرتدي الشّعرُ فيه ثيابَ الضجرْ؟
وكيفَ ألوّنُ تلكَ السّماءَ
أبي..
لا الكواكبُ تعرفني، لا القمرْ
ولا الشَّمسُ تَسْجُدُ لي في المنامْ
عليهِ السَّلامْ
وأما أنا فَعَلَيَّ رَحى الحَرْبِ
تَطْحَنُ عَظْمي
وسيفُ الرّدى والظلامْ
3 ـ
وقيل له: لا تقصّ عليهم رؤاكْ
يكيدوا لك الكيد
أمّا أنا..
فما كنتُ أجرؤُ حتّى على الحلمِ
حتى على الهمهماتِ
وفي روحيَ القيد
والجبُّ صمتٌ ثقيلْ
4 ـ
أخافُ، حبيبةَ عمريَ، سيّارةً أن تمرَّ
أخافُ تهيلُ التراب عليّْ
وها أنا أهربُ منيّ إليكِ
وأهرب منكِ إليّْ
خيالكِ يملؤني يا "سرايا"[1]
برائحة المريميّةِ
بين حقول الجليلْ
وحاولتُ ألا أحبّك
حاولتُ ألا أحبّك
حاولتُ..
لكنني في الغيابةِ
ما زلتُ أنتظرُ المستحيلْ
5 ـ
فدَلّي إليَّ جدائلَكِ المسدلاتِ..
لكي أتسلّقَ
حتى أرى نورَ وجهكِ..
حتى أدسَّ المُخدّر في (كاسة) الغول..
دلّي إليّ الجدائل
فالغولُ والذئبُ ليسا بريئين من دمنا
والمنونْ
كؤوس تعدّ على مَهَلٍ
والحديثُ شجون:
إخوتي يفعلونَ ما يُؤمرون
6 ـ
وحاولتُ ألا أحبّكِ
لكنّ طيفَكِ ما زالَ يملأُ قلبي
برائحة المريميهْ
تعالي "سرايا"
لكي تُسكري الروحَ
من خمرة الأبجديهْ
ودَلّي إليّ جدائلَكِ المُسْدَلاتِ
لكي (أتعمشقَ) نحوَكِ
فالبئر صمتٌ ثقيلْ
وإني أحبّكِ
أيتها المجدليّهْ
7 ـ
وواللهِ يا أبتي
ما حلمتُ بليلةِ صيفْ
ولا مرَّ طيفْ
فكيف أحدّثُهم عن نجومٍ وشمسٍ
وعن أغنياتِ السّمَرْ؟
وكيف أحدثّهم عن سجودِ القمرْ؟
وما كنتَ فيهم..
وما كنتُ فيهم..
ولكنّهم جلسوا حولَ طاولةٍ مستديرهْ
وجاءت ذئابٌ،
وجاءت كلابٌ،
تحاصرُ صمتَ الحظيرهْ
وتعطي أوامرَها للعشيرهْ:
ـ لكم كلُّ بطشِ الجيوشِ
ودفءُ العروشِ
وملءُ الكُرُوشِ
ـ وماذا علينا؟
ـ ضَعوا يوسفاً داخل الجُبّ كي يستريحْ
أخرِجوا أرضَ كنعانَ من قلبِهِ
واجعلوا قلبِهُ قبضَ ريحْ
وانثروا زهرةَ الوقتِ فوقَ الضريحْ
8 ـ
وما كنتَ فيهم،
وقد مالت الشّمسُ نحوَ المغيبْ
وراحتْ تهبُّ نسائمُ مُثْقلةٌ بالنحيبْ
كأنَّ البرودةَ تشحذُ ذاكرتي
في الظَّلامْ
كأنَّهمُ الآنَ في ظلمةِ الجُبِّ
قد حاصروني
وراحوا يعيدونَ قيْءَ الكلامْ:
ـ دعِ الأمرَ، يوسفُ، وانسَ الغرامْ
لك الآنَ منّا الدراهمُ والأمنياتُ الجميلهْ
وأحلى نساءِ القبيلهْ
ـ وماذا سأنسى؟
ستنسى المثلّثَ والقدسَ والمريميّهْ
وداليةً عرّشتْ في الخليلْ
وتنسى بأنَّ دماءَكَ تنبضُ
في جَسَدِ امرأةٍ في الجليلْ
وتنسى أباكْ
فتنجو.. ويغدو جناحاكَ
خارجَ هذي الشِّباكْ
9 ـ
وأنتَ الّذي قلتَ لي: لا تصالحْ
وأنتَ الّذي شئتني أن أكونْ
كظلِّ الغمامْ
وحدِّ الحسامْ
كأنَّ جروحكَ كانت معي
يومَ واجهتَهُمْ في ابتسامْ:
فلو زرعُوا الوردَ في وجنتيَّ
ولو وضعُوا الشَّمسَ بينَ يديَّ
ولو زيَّنُوا قمراً حالماً كالبريقْ
ولو وسَّدوا عنقي حجراً في الطّريقْ
ولو ذبحونيَ
أو قيدوني فلستُ أبالي
وأنتَ ببالي
قصيدةَ عشقٍ أثيرهْ
وحبي بقلبي سيبقى على كلِّ حالِ
لتلكَ الأسيرهْ
ولو زادَ ظلمُ العشيرهْ
وهاهم أولاء، يشدّونَ حولي الوثاقْ
أراهم، وهم يرجعونَ إليكَ
وإذ يذرفونَ دموعَ النفاقْ
وآهاتهم تسبقُ الخطواتْ
وأنتَ تزلزلُ خيبَتَهم في ثباتْ
وتخبرهم أنني لم أمتْ
وأنّيَ ما زلتُ حيّاً وحيّاً
وأنّك مثلي تحبُّ الحياةْ
10 ـ
سحائبُ صدرِك تهطلُ عطراً
لتسقيَ قبرَ الشهيدْ
وعيناكِ زيتونتانِ
وضوءُ جبينِكِ
ترنيمةٌ للصّباحِ الجديد
وفي شفتيكِ نشيدُ الطّلى
واشتهاءُ النّدى
وابتسامُ الوليدْ
وأما صريعُك في العشقِ
يوسفُ، كاتبُ هذي الجراحْ
فليس كصاحبهِ
في اجتذابِ الملاحْ
وقد كان يعلمُ
أنّ النّدوبَ تغضّن وجهاً
وتُبلي شفاها
وأنّ حروقَ المساجد في وجهِهِ
لحظةَ العشقِ تحتَ الرّمادِ
يشبُّ لظاها
وأنّ الرؤى ليس من حقّه أن يراها
فيصنعُ رؤياه من نفسه،
ويثيرُ الخيالْ
وفي حلكةِ الظُّلماتِ
يطالعُ وجهَ المُحالْ
ويبحث عن دفء نارْ
11 ـ
رأى، فيما يرى الحالمون،
نساءً يُحِطْنَ بهِ كالسّوارْ
مدافئَ
رائحةَ الكستناءِ
سكاكينَ تلمعُ
فاكهةً في الصحونِ..
وغدرَ انتظارْ
وكنت تلوذين آهٍ "سرايا" بظلّ الجدار
بغير دثارْ
12 ـ
أنا كنتُ ذاكْ
وكنتِ هناكْ
ولم أدرِ كيفَ اختفى فجأةً
كلُّ ذاكَ الهديلِ
وأينْ؟
وقفنَ ورحنَ يقطّعن لحمي بأيديهنّ
ويكسرْنَ عظمي
يقيّدنَ منّي اليدينْ..
وما زلت أذكر صمتاً
سرى بعد ذاك الرحيلْ
وما زلتُ أذكرُ وجهاً
تجلّى كوجهِ المسيحِ
وما زلت أذكرُ فوق الثرى دمعتينْ
13 ـ
وقدْ مَرّ بي قـومٌ عَلـى البئـرِ غـدوةً
وكانـتْ جِراحي تَمْلأُ البـــرّ والبحْرا
وقدْ بَعَثُــوا عَـبْداً ليُرسل دَلْوَهُـــم
وحينَ أتــــاني الحَبْلُ أمسـكتُهُ فوْرا
ولمّا أحسَّ الثقلَ في الحبــلِ فجــأةً
سَرَى صوتُه الجَذلانُ للقوم: يا بُشـرى
وإذ عَرفـوا في البئرِ صـوتيَ غادَرُوا
وإن يســتطيعوا أفرغُـوا فوقه قِطْرا
ولكـنَّ ضوءاً في الضّــلوعِ أضَاءَها
يَقولُ: سَيأتي النّــصْرُ بالفِتْكَةِ الكُبْرى
14 ـ
وها قد مضت سبعةٌ ثم ستونَ عاماً
وما زلتُ أحملُ حُلْماً
وخبزاً وخُبَّيزةً في الضّلوعْ
وما زلتُ أشعلُ في عتمةِ الجُبّ
قافلةً من شموعْ
قميصي الّذي قُدّ من قُبُلٍ
ثمَّ من دُبُرٍ
ثمَّ من كلِّ صوبٍ
أراهُ يرفرفُ حولَ المكانْ
أراهُ يمدّ على الأفقِ
جسراً من الأرجوانْ
يمرّ على دير ياسينَ،
يسمعُ نوحَ الحمائمْ
يمُرُّ على كفر قاسمْ
عجوزاً تهدْهدُهُ همهماتُ الأنينْ
ليغرسَ سنبلةً في جـِنينْ
ويطردَ ليلَ الحَلَكْ
تقولُ لهُ سِدْرةُ المنتهى: هيتَ لكْ
فيلقي بعكّازِهِ
ثم يرجعُ عالي الجبينْ
15 ـ
وما زالَ طيفُكِ
أمنيةً في سماءِ الهَديلْ
يزورُ اغترابي
وينشدُ في دميَ الغضِّ
أنشودةَ المستحيلْ
وينمو على ظلِّ بابي
تعالي "سرايا"
وكوني حُضُوراً شَهِيّاً
كَلَيْلِ العَبَقْ
أبي ما يَزَالُ أسيرَ الحَكَايَا
يَعيشُ ضريرا
خذي شَتْلَةً من حَبَقْ
وألقي بِها فوقَ عينينِ مبيضّتينِ
فيأتي بَصِيرا
تعالي "سَرَايا"
فما زال في فِضّةِ الرّوحِ
نَسْغُ الذَّماءْ
تعالي "سَرَايا"
فبئري معطّلةٌ
وحضورُكِ خيلٌ ووَرْدٌ وماءْ
16 ـ
أبي.. لستُ أحلمُ
لا.. لستُ أحلمُ
هذي "سرايا" حبيبةُ رُوحي
وظلُّ جُروحي
تمدّ ضفائرَها المُثْقَلات بحُزْنِ النّدى
تقولُ، وفي ظُلمَةِ البِئْرِ أيضاً،
ينادي الصَّدى:
تعالَ حَبيبي إليّ..
ضفائرُهَا الآنَ بينَ يديّ
وأصعدُ..
رأسي يدورْ
وحلمٌ بطعمِ العناقِ يمورْ
وأصعدُ..
أصعدُ..
أصعدُ
يا أبتي..
في نهاية هذا الصُّعودِ
أرى وهجَ نورْ



[1] سرايا بنت الغول أسطورة تحكي حكاية فتاة فلسطينية، مشهورة بطول شعرها الذي لم يمسّه مقص، خطفها الغول وأسكنها قصره العالي، وحين ذهب ابن عمها ليبحث عنها في البراري، كان ينادي: "يا سرايا، يا بنت الغول، دلِّي لي شعرك لأطُول"‍ فسمعته فدلَّتْ له جديلةً، فتسلّقها وصعد إلى القصر، وعاد بابنة عمه إلى القرية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى