شهادات خاصة حسن بيريش - بديعة الراضي... مبدعة تغريني بالحَاسَّة الْأُولَـى لبَيَاض دهشتها

(1)
"ولوج النص له دهشة تشبه البرق،
أبدا لا تتكرر مرتين".
على مدى أشهر طوال، قمت بإغلاق أطراف أصابع حبري. لم أنبس بعبارة فيها، عنها، خوفا عليها مني، وخشية مني عليها.
حَتَّى لا أقترف ما لا يصعد نحو أعاليها. حَتَّى لا أكشف أسفل سقفي. لذا، تلعثم حرفي حين أزمعت على كتابتها. ربما لكي تقرأني دون أن يتلعثم إعجابها !
أجل: لطالما تهيبت من مقاربتها. وكثيرا ترددت في الطوفان حول كعبة سرودها. أعترف وفي يدي دلائل من نصوص لها، تشهد على حقي في الاندهاش، مثلما تقر بحقها في الخيلاء. ولا مفر منها إلا إليها، مهما شَطَّ الظَّنُّ.
كيف أعلّمها أبجديات إعجابي بيراعها، هذا الذي يضيء في عتمات النوازل، وأنا منها هي - بديعة الراضي - تعلَّمت كيف أكتب بقلب منخرط في زمنه، موار بنسوغ واقعه، ومفجوع بتحولات الأنا داخل الٱخر ؟!
"لم يكن حمدون يدري ذلك المساء،
أَنَّه سيتوجَّه إلى المقبرة المحاذية لبيته.
قال لصديقه حمان إنه يحسُّ بضيق كبير
وباختناق، وأَنَّ حياته تجره نحو نهاية في
منحدر قريب. كان صديقه بالكاد يفتح
عينيه بسبب تناوله لكمية من الحبوب
المهلوسة التي تباع علانية في رأس الدرب".
(2)
"ربما كُنْتُ في الظل
الذي لم أصله".
كُنْتُ أُهيّءُ لَهُ، نصها المُباغِت، مفاجأة مِنْ جِهَةِ الْقَلْب. بيد أنّهُ اخضرّ في حقل يدي، وفاجأني مِنْ جِهَةِ العمر. وشرع يغريني بالحَاسَّة الْأُولَـى لبَيَاضه، وهو محمّل بإغواء يتَفَصَّد من جبهة أَشْوَاقِه، ويُومِضُ فِي سيولة خطوي.
في حضرة بديعة الراضي، عليك أنْ تفتح قلبَ الذي لم تعرفه قبلها. وتغمض كلَّ ما عداه من جوارح قراءتك. أجَلْ: إنك في معية شسع تأويلها. وإنِّي أراك على موعد مع رحيل غميس لا يلتفت خلف ما تكرس. لا تخونه اشتعالات العبارة. لا يشبه إلا ذاكرة نسيانه. فاحذر أنْ تفتح أزرار قميص دهشتك، كي تنجو من زمهرير أقاصيها !
ولكم تلاعبت بي هذه الروائية التي امتلأ بها فراغي، وأفرغت فيها امتلائي. وقادني قلبها الحافي نحو كتابة تشبه البلاد في
خرافة حلمها، في انشطار واقعها.
"أنا كاتبة يغويني الهامش
فأنساق إليه نشدانا لزيف المركز" !
(3)
"الواقع المعيش عنصر أساسي في‮ ‬الكتابة،‮ ‬
لكن العالم الشاسع للرواية‮ ‬يعيد تركيبه وينسجه
في‮ ‬قوالب إبداعية‮ ‬يحضر فيها الخيال بقوة".
إنِّي حافي اليدين أجيء إليها. إنها "حافية القدمين" تأتي إلي.
إِذَا جَمَعتْنَا المَجَامِعُ، في هذا النص أو ذاك الشجو، أجاهر: هُنَا وُلِدْتُ، وَهُنَا أقيم.
أحذرك، يا قارىء بديعة، من أمرين عصمة ثالثهما في يدها لا في يدك، في جعبتها لا في قوسك:
أولهما لا تفتح أزرار معطفك وأنت تلج زمهرير نصها الروائي، حَتَّى لا تتعرض لنزلة ذهول حادة. ثانيهما لا تشرع في التلقي وكأنك أمام وجبة طعام مستعجلة، لأن الدسم أكثر من قليل تناولك. ولأن مذاقه أرسخ من عجلة عبورك !
وحَتَّى لا تضطر إلى تغيير مجرى قراءتك لها في رحب مصب تأثيرها فيك، عليك أن لا تقدم لها جواب سؤالها اللغوي، وإنما دع سؤال افتتانك معلقا على مشجب جواب حكيها. ثم احذر أنْ تضع جرح نسيانك في مهب مرهم ذاكرتها !
"العمل الروائي‮ ‬دائم البحث عن قارئه
وتغيير منظومته،‮ ‬لأنه فضاء شاسع
للتعبير ومعانقة الحلم‮". ‬
(4)
"الكتابة الحداثية تحاول أن تجعل من الرواية
ملتقى للأجناس التعبيرية،‮ ‬ربما كي‮ ‬تكون‮ ‬غدا
أم الفنون‮،‮ ‬إلى جانب الشعر باعتباره أب الفنون‮".
من تبديات الأسئلة المشتعلة في “‬حافية القدمين‮”‬،‮ ‬إلى ضوء الذاكرة الثكلى في "غرباء المحيط‮”، وصولا إلى شقوق الحلم المؤجل كما تتراءى "في‭ ‬عمق‭ ‬الشرق‭”‬،‮ شيدت بديعة لخطوها الروائي مسافاته المشتهاة.
هي نصوص تمنحك امتلاك مهارتك في أنْ تعيد كتابتها، بينما أنت منهمك في قراءتها. ومتفرقة كانت، أو مضمومة، نصوص السرد والركح تلك، تقبض عليك من أول بياض المعنى، وحَتَّى منتصف ٱخر دفق الرمز.
هُنَا قرية ‮"المنسية" الغارقة في ٱثام الذاكرة. هُنَا عوالمها‮ الثرة التي تشيد بنيانا سرديا منسابا في فضاء الأحداث، في أزمنة الشخوص، وفي مصائر الحياة، عبر عكاز المكون السيرذاتي‮، الذي يهب للنص نسغه المتفرد.
هُنَا ثمة تشابك مع المتلقي على مدار لحظات الصوغ. الرواية تستدعيه، والكتابة الركحية تستحضره، وهو حاضر بكل ثقله، دون أن يؤدي ذلك إلى "موت المؤلف". إذ في إبداع بديعة لن تجد سوى حياة الكاتب وحياة القارىء !
"الكتابة الروائية‮ ”العالمة‮” ‬المبنية
على وعي‮ ‬بمتطلبات الكلمات والأشياء‮،‮ ‬
هي‮ ‬التي‮ ‬تستطيع أن تستحضر المتلقي‮
‬الضمني‮ ‬كي‮ ‬تستهدفه في‮ ‬الواقع‮". ‬
(5)
"اللغة خطونا المرتجى
نحو فهم الواقع، ونحو بنائه إبداعيا".
ثمة استعمال كيفي، لا كمي، للغة عند هذه الكاتبة الضاجة بما لا ينتظر المتلقي. هي لا تكسر أفق انتظاره. إنما هي تمشي به صوب تكسير انتظار أفقه. تغدو اللغة، هُنَا وهُنَاك، ذات معجم يبحث عن طزاجة الفكرة، قبل فتوحات المعنى. لهذا، لن تجد الحلي الفاقع في بدائع التعبير. بل ستعثر على مواقف جريئة
من الذات، وعلى مواجهة حامية مع العالم، وعبر لغة تتخطى نفسها، تلقائيا، من خلال تعدد في مستوياتها التعبيرية، وفق متون توهج السرد، وحسب هوامش الخبء الرمزي.
"تلك الليلة لم أَعد إلى بيتي، كان معطفي يحميني
من برد البحر. بدأت أَجرُّ رجلي على الصُّخور المجاورة.
تابعت سيري وأَنا أُفكِّر في سميرة. قلتُ:
كم من سميرة في هذا الوطن؟ وكم من نسائنا قادتهنَّ
ظروفهنَّ إلى المستقبل المجهول؟ وهل يمكن للفقر أَن
يصبح مطيَّة لكلِّ هذا الجبروت؟".
(6)
"أن تقول الحقيفة، كل الحقيقة،
من أجل القضية والوطن".
لن أقول عنها: "اتحادية"، لأنها أرحب من حزب. وسأقول عنها: "وطنية"، لأنها بشسوع الانتماء. عبر مسيرها وحده، ودون أي ادعاء، أراها بحجم علو يراعها. أتملاها بخطو اقتدارها. أرمقها من مسافات تفوقها.
وإذن، لا أنا بحاجة إلى الانتصار لها، أدبا وحضورا، ولا هي في حاجة إلى أن ترميني بوردة، لغة ونصا، ويكفينا، معا، أن نلجأ إلى خيمة الكتابة، أن نلوذ بحضن الوطن.
"عندما تتضخم الذوات أمامك،
فتش عن أقرب فتحة للإنسحاب".
(7)
"أن تمشي دون الاستناد على عكاز"، مهما فغرت فاها جراحات العمر المفتوح على الأسى. هذا ما علَّمتنا إياه بديعة، من معبر الكتابة المنصتة إلى ٱهات الوجع الجماعي.
وَذَاكَ ما أبدأ به خاتمتي، عساني ألتقيها بين هذا المنعطف، أو ذاك الرصيف، لنعيد - هي وانا - ما يخلق في الكتابة صرختها المدوية بهمس أخاذ. ثم ما يعيد للوطن نبضه في العبارة، لأنه هو سيد اختلاجاتها، وهو الٱمر بانسكابها.
"مجتمع‮ ‬يعج بكثير من الأسئلة الحارقة
النابعة من محيط مليء بالمعاناة اليومية‮".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى