صلاح عيد - ذقن الباشا

إختلفنا في تسمية تلك الشجرة الضاربة بجذورها في أرض قريتنا الصغيرة القابعة في أعماق دلتا نيل مصر، منا من سماها "ذقن الباشا" و منا من سماها "اللبخة" أو"الشمامة"نسبةً إلى رائحتها الزكية التي كنا نلتمسها من زهرتها الشقراء ذات اللون الأصفر المائل للخُضرة بأهدابها الكثيفة. كانت شجرة ضخمة يتخطى عمرها المائة عام أو أكثر،حيث نشأنا و نشأ أباؤنا و أجدادنا و هي قائمةٌ تصلي في محراب الطبيعة شامخة كشموخ مسلة مصرية قديمة.

كانت مهيبة ذات جزعٍ ضخم و أفرعٍ كثيفة ترتفع لأعلى ثم تمتد يُمنةً و يسرةً فوق الأبنيةِ البسيطة المتراصة في أحضانها كأنها أم تبسُط ذراعيها على أبنائها ضامتهم إليها بحنو و عطف،و كانت دائمة الخضرة ذات رائحةٍ عَطِرةٍ تتوغل في شتىَ الأرجاء لتصل إلى داخل منازلنا،بل و تبحرُ في الهواء ليعُبَّ من أريجها كل قادمٍ إلى القرية قبل دخوله إلى حيزها العمراني.و كان أهل القريةِ يألفونها و يأنسونَ الجلوسَ تحت ظلالها،ليتجاذبوا أطرافَ الحديثِ إلى جوارها،لا سيما و أن ثمَّة باحة كبيرة تمتد أمامها لتنتهي إلى الجامع العمري، ذلك المبنى المهيب الذي قيل أنه من أقدم المساجد في المنطقة حيث يُعْتَقَد أنه بُنيَّ في عهد الصحابي الفاتح عمرو بن العاص رضي الله عنه و قد أعيد تحديثه مرات عدة. أما مئذنته القديمة فلم تعبثْ بها يد التجديد العشوائي التي أثرت على الشكل الأصلي "للجامع" فظلت خير برهان على عراقته. و أذْكر أنه كان يرْبِضُ على أطراف هذه الساحة ثلاثةٌ من أحجارِ البازلت البني الداكن المائل إلى السواد والتي رُسِمَت عليها بعض النقوش البدائية غير المفهومة مما يرجح أنها كانت أثراً من العهودِ الغابرة لم يتنبه إلى قيمتها التاريخية أهل البلدة البسطاء،و كنا نتخذها لهوا فنتسلقها و نقفز من فوقها على الأرض و نجعل منها مقاعد للسمع أو لرؤية المارة في شارع القرية العمومي،الذي كان يطوِّق البلدة بشكل دائري و بطريقة هندسية دقيقة غير مقصودة،و تتفرع منه أزقةٌ و حارات تُقسِّم هذه الدائرة إلى مثلثات تتراص داخلها البيوت البسيطة التي كان جلها من الطوب اللبن المسقوف بعروق الخشب و القش سوى نذر يسير من البيوت قد بُنيَّت بالحجارة و الإسمنت .

ظلت الحال على هذا المنوال طيلة السنوات الأولى من حياتي،حيث كنت أتخذ تلك الساحة القريبة من بيتي مرتعاً للهو و ملتقىً لي بأصحابي ، نلعبُ بالكرة تارة و نتسلق "اللبخة" تارة أخرى و نجلس معاً لنستمع لأحاديث الكبار أو ننتظر صعود المؤذن إلى ذروة المئذنة ليؤذن خاصة في أيام رمضان كي يعلن وجوب صلاة المغرب فنهلل و نعدو عائدين لبيوتنا لنبشر ذوينا بوجوبِ الإفطار و نحن في قمة التِيهِ لأدائِنا تلك المهمة. و رغم دخول الكهرباء إلى القرية و ما ترتب عليها من إنارة للشوارع و البيوت و اقتحام جهاز التلفاز لحياتنا و شَغله لحيز كبير من أوقاتنا فقد ظلت ساحة الجامع العمري ملتقىً للجميع و ظلت "اللبخة" هي المظلة التي يستظلُ بها من يريد أخذ قسط من الراحة أو من يريد أن يتواصل مع المجتمع المحيط به،كان الكل يحس أنه مالكٌ لهذه الشجرة أو على الأقل له كِقلٌ منها أو أن ثمَّةَ صلة ما تربط بينه و بينها ، فالجميع موثوق بحبلٍ سُري بها.

و مرت الأيام على المنوال نفسه إلى أن قذفتنا "شواديفُ" الحياة فجأةً من هدأة الجدول إلى فوران المحيط الشاسع،فقد نضجنا كسنابلِ القمح في حقولها، و وجدنا قطاراً يحملنا إلى المدن الكبيرة حيت الدراسة الجامعية ثم انخرطنا في دوامة العمل و البحث عن الذات فتحولت ساحةُ القريةِ إلى مجرد ممر لنا و ملتقىً على فترات متباعدة،ثم شيئاً فشيئاً تناثرنا على مناكب الأرض كحبيباتِ قلادةٍ منفرطة يصعب تجميعها مرة أخرى،ثم أتتْ أجيال جديدة تربت على وسائل اللهو الحديثة من تلفاز و غيره،و انحسرت التجمعات حول "اللبخة" سوى من ثُلة ممن بقوا على قيد الحياةِ من الأجيال السابقة أو بعض من الباعة الجائلين،و بدأت الخريطة في التغير شيئا فشيئا و زحفت البنايات الخرسانية على القرية نتيجة للانفتاح الكبير على العالم الخارجي و هجرة بعد أهالي القرية للعمل خارج مصر مما ترتب عليه تَوَفُر للسيولة في أيديهم،و شَرَعتْ الأُسرة تلو الأخرى في هدم منزلها القديمِ و تشييد الشاهق من البنيان بدلاً منه و تم التضييق على الشجرة و محاصرتها شيئاً فشيئا .

و في إحدى الليالي اجتمع أصحاب المنازل المتاخمة للشجرة للتباحث في شأنها كونها أصبحت رقماً غير منطقي في حسبتهم، و عائق أمامهم يمنعهم من اللحاق بجيرانهم و بناء منازلهم على الطراز الجديد،حيث كانت الفروع الممتدة فوق أسطح منازلهم تمثل هاجساً مزعجاً لهم،لذا فقد اتخذوا قراراً بالتخلص منها و استدعوا فريق متخصص في قطع الأشجار،ليقوم بتمزيقها إرباً بآلات القطع الكبيرة فيما يشبه المذبحة و بيعت أخشابها بثمنً بخس لا يضاهي قيمتها المعنوية،و قد حكى لي من حضر هذا الحدث عن مدى أسف و حزن كل من كانت له ذكرى تحت هذه الشجرة و كيف أن تمزيقها قد أسال تاريخ القرية بحوراً تحت أقدام الحضور،و بقطعها تعرت الساحة و انكشفت سوءاتها،و ولى عهدٌ لن يرجع مرةً أخرى.

و بعدها تم إعادة بناء البيوت المحيطة بالساحة بصورة أحدث و لكن للأسف لم يكن التغيير الحادث في المكان عِوضاً عن الجمال و الروح الإيجابية المبتوريّْن مع الشجرة العملاقة،و ما زاد المشهد عبثية هو إعادة تجديد الجامع العمري كونه قد بُنيَّ بشكل يفتقد إلى التخطيط المعماري اللائق الذي يحافظ على شكله التراثي الأصيل. وفي خضم هذه الأحداث تم أيضا إزالة الأحجار الأثرية التي كانت منتصبة في الساحة، و لا أدري يقينا أين اختفت. هل فَطِنَ لقيمتها التاريخية أحد و تصَرَّفَ فيها بشكل من الأشكال الغير قانونية؟ أم تخلص منها العمال كجزء من الأنقاض عن جهالة. و في جميع الأحوال خسرت القرية جانباً مهماً من وجهها العريق و مكوناً كان يميزها بطابع خاص.

زُرتُ القرية بعد ذلك مراراً و تكراراً، و كلما مررت بساحة طفولتي أنعي حد البكاء إرثاً دهسته عجلات الحداثة مثلما دهست الكثير من ملامح القرية الجميلة التي كان يتميز بها الريف المصري و التي لم يبق منها شيء سوى حفنة صور و مواقف من الماضي أحتفظ بها في مخيلتي،و أخاف أن تطمسها هي الأخرى ظلالُ النسيان أو تبددها رياح الشيخوخة التي بدأت تلوحُ لي في الأُفُقْ.
بقلم / صلاح عيد


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى