لألف ليلة وليلة تاريخٌ سرّي لم تُفتح كلّ سجلّاته إلى الآن، ويجدّ الباحثون في فتحها، وتمكّنوا من بعضها. في هذه المقالة صفحة واحدة من تفاصيل أوفى وردت في ( كتاب المقالات، عبدالله إبراهيم، ص53-81)
***
كتمُ صوتٍ أصيل
في سياق ترجمة "أنطوان غالان" لكتاب "ألف ليلة وليلة" إلى اللّغة الفرنسيّة، خلال العقديْن الأوّليْن من القرن الثّامن عشر، قيل الكثير عن شابّ حلبي، يُدعَى "أنطوان حنّا دياب"، زوّده بأكثر من عشر حكايات، وجد بعضها موقعه في إطار الكتاب، حتّى أمسى ينظر إليها على أنّها من أشهر حكاياته، وما عاد من المتاح الاستغناء عنها، شأنها في ذلك شأن الحكايات الّتي يعود أصلها إلى ألف عامٍ مضى. وعلى الرّغم من الدّور الكبير الّذي قام به حنّا دياب، فقد خمل ذكره، ولم تقع الإشارة إليه إلّا في يوميّات غالان؛ إشارة متوارية لا يكاد يعرف بها أحد، حتّى من بني جِلدَته، وأحسبُها لا ترتقي إلى رتبة الاعتراف به إلّا بوصفه مكمّلا لنقصٍ في عدد حكايات اللّيالي، وكأنّه يجب تملّك كتاب اللّيالي من طرف غالان، حتّى قيل أنّه مؤلّف الجزء الأوفر من حكاياته، صاغها بأسلوبه ليوافق الأذواق السّائدة في فرنسا آنذاك. وبإبعاد دور أنطوان دياب، وإحضار دور أنطوان غالان، بدا كتاب اللّيالي وكأنّه دخيلٌ في أصله، كتاب خديج جرى تسمينه في ديار الإفرنج، وذلك يخالف واقع حاله، فقد نما، واستجلب إليه مزيدا من الحكايات منذ القرن العاشر الميلادي، وتشهد على ذلك أصوله المبكّرة الّتي أفاض الدّارسون في تبيانها.
لا ضرر في القول بأنّ غالان أطلق كتاب اللّيالي في فضاء الثّقافة العالميّة بعد أسر طويل في معقله العربي. وذلك دور محمود لا يسوّغ التّقليل من شأنه، ولكن، يلزم التّفريق بين الأدوار بنحوٍ لا يشوبه الارتياب؛ فترجمة نصّ من لغة إلى لغة أخرى شيء، وتكوينه في أصوله الثّقافيّة شيء آخر. صحيح أنّ الفضل يعود إلى غالان في جمع حكايات متناثرة من الكتاب لإصدار نشرته الفرنسيّة، وتدوين حكايات مرويّة لها صلة به، وإخراج صيغة خلعت عليه هويّته في آداب العالم، ولكنّ ذلك لا يحلّل إنكار الموارد الأصليّة للكتاب، أي إنكار سلالة الرّواة الّذين حملوا مرويّاته، أو مخطوطاته، عبر الزّمن. فلكي يستقيم الأمر، يلزم إعادة الحقّ إلى نصابه. ولــ "حنّا دياب" نصيب وافر في رواية حكايات اندرجت في إطار الكتاب، وبعضها لم يُعرَف له مصدر سواه.
وبالعثور على الأصول العربيّة لحكايات ألف ليلة وليلة، بدأت تلك الأصول تغالب ما أُخذ عن الصّيغة الفرنسيّة، ثم غلبتها بظهورها مطبوعة، وصار الاتّكال عليها أوثق من الاتّكال على غيرها. حيث تتداخل النّصوص الشّفويّة حينما تغيب الحدود بينها، ويعود ذلك إلى أنّ التّقاليد الشّفويّة لا تأبه بالمفهوم الضّيّق للتملّك في حمل المرويّات السّرديّة، ذلك التّملّك المنسوب إلى مؤلّف بعينه، إنّما تفطّن إلى التّملّك الثّقافي واسع المعنى، حيث يحمل السّياقُ المضيِّفُ النّصَّ إلى العالم، ويخلع عليه هويّته، وقد حدث ذلك لحكايات ألف ليلة وليلة، فيكون "حنّا دياب" قد وقع ضحيّة تداخل نسق شفويّ بنسق كتابيّ. ومع الأخذ في الحسبان أنّ استئثار آداب الأمم المهيمِنة بآداب الأمم الواهنة ظاهرة تكشف علاقة التبعيّة في ثقافات الأمم، ولا يكاد يُسمع صوت التّابع، وكما قالت "سبيفاك": ينبغي للتّابع أن يتكلّم، وإلّا يبقى مكتوم الصّوت كالأخرس الّذي يدرك كلّ شيء ولا ينطق به.
كُتم صوت حنّا دياب بفعل ثقافة مهيمِنةٍ، جعلته تابعًا بمعنييْن: تابع حقيقيّ، لرحّالة فرنسي شبه مغمور يُدعى "بول لوكا"، طاف بلاد الشّام لجمع مقتنيات نفيسة للبلاط الفرنسي، بأمر من الملك لويس الرّابع عشر، وجعل من حنّا دياب خادمًا ومترجمًا له، وبعد أن فرغ من مهمّته، اصطحبه بوعد العمل في خزانة الكتب العربيّة، في المكتبة الملكيّة بباريس. وتابع رمزيّ، حيث جعله غالان في رتبة الرّاوي المكمّل لنقص في حكايات اللّيالي، الّتي ينبغي أن تكون بألف ليلة وليلة. وفي أحوال مماثلة لما حدث بين دياب الحلبي وغالان الفرنسي يُصار إلى الاحتفاء بالآخذ على حساب المانح؛ يُكلَّل الحائز بتيجان الفخر، ويُثنَى عليه، ويُغمَر بالذّكر حيثما يكون، إذ أنّه انتشل جواهر الكلام من طيّات النّسيان، بينما ينزوي الواهبُ، ويُنتَبَذ، كأنّه فضلة من فضلات التّاريخ.
باعتراف غالان الموثّق في يوميّاته، حاز على حكايات رواها له راوية حلبي أو دوّنها بالمحكيّة الشّاميّة، فتصرّف غالان بها، ولم يقع التّعريف بالحيثيّات الثّقافيّة لحنّا دياب من حيث تجربته، وحَمْله جملة من الحكايات من حلب إلى باريس، حتّى أنّ غالان لم يذكُرْه باسمه، إنّما انتحل له اسم "جان ديبي" الّذي أغفل هويّته الخاصّة، وإن وقع نعته بالحلبي أو الدّمشقي أو الماروني. وما خلا ذلك- وهو أمر له صلة بالسّجلّ التّاريخي لكتاب ألف ليلة وليلة- فقد وقع إغفال ذِكر رحّالة بارع الأسلوب وقويّ العزيمة، نجح في الوصول إلى باريس، وزيارة القصر الملكي في أعلى مرتفعات "فرساي"، ومجالسة لويس الرّابع عشر وبطانته، وقدّم عن البلاط الفرنسي، وعن ساكنيه، وصفًا خلّابًا، يماثل الأوصاف العمرانيّة والبشريّة في القصور الملكيّة لدى كبار الرحّالة. لكنّ كلّ ذلك بقي طيّ الكتمان إلى أن عُرف في العقد الثّاني من القرن الحادي والعشرين، حينما كُشف اللّثام عن رحلة قام بها حنّا دياب في مطلع القرن الثّامن عشر إلى فرنسا.
وفضلًا عن مغامرته المبكّرة في العالم الأوربّي، فقد دوّن حنّا دياب رحلته بأسلوب يقارب ما يعثر عليه القارئ في أسمار ألف ليلة وليلة؛ حيث تلبّسته روحُ كبار الحكّائين المتمرّسين بمحافل السّرد الشّفوي. وفيها ظهرت براعته في الأخذ بأسلوب يتردّد بين المحكيّة الشّاميّة والعربيّة الميسّرة بما يوافق وعيه وتجربته. غير أنّه، في جميع الأحوال، دوَّن نصًّا عميقَ الدّلالة في حمل تجربة رجل خاض مشاقّ رحلة أخذته من بلاد الشّام إلى بلاد غريبة عنه، دوّنها صاحبها، وكأنّه يرويها. وفيها اتّخذ دور مَنْ يروي عن نفسه وعن تجاربه بجسارةِ مَن عرف صعاب التّرحّل في عالم غير مألوف لديه، وفيها أعاد بناء تجربة ثريّة، ترحّل بها في عالم غربي مختلف الاختلافَ كلّه عن عالمه الشّرقيّ.
ظهرت رحلة حنّا دياب بعنوانيْن؛ الأوّل هو: (رحلة من حلب إلى باريس) في عام 2017، عن منشورات دار الجمل، بغداد، والثّاني هو: (كتاب السّياحة) في عام 2021، عن منشورات المكتبة العربيّة، نيويورك. وبصرف النّظر عن مقدّمات المحقّقين والنّاشرين، فإنّ متن الرّحلة هو نفسه في النّشرتيْن، ما خلا النّفع المضاف، الّذي جادت به نشرة دار الجمل، وذلك بإدراج ملحق يتضمّن يوميّات غالان عن مجمل لقاءاته بدياب. ومن بين كلّ ما حدث له في باريس، اكتفى بتدوين فقرة قصيرة عن لقائه بغالان، حتّى أنّه لم يذكر فيها اسمه، وكأنّه يبادل غالان الخطأ نفسه: خطأ الإنكار. حدث اللّقاء الأوّل في يوم 17 مارس من عام 1709 في منزل لوكا.
لم يُولِ حنّا دياب الاهتمامَ الكافي بغالان، فمرّ على وصف اللّقاء به مرور الكرام، وقد يكون نسي اسمه بعد أكثر من نصف قرن على لقائه. وأحسبُ أنّه لم تبلغْه أنباء كتاب ألف ليلة وليلة الّذي ملأ أسماع المجتمع الثّقافي الفرنسي، خلال العقود الّتي أعقبت زيارته لباريس، واشتهر أمر غالان كثيرا، كما اشتهر أمر الكتاب. وَوِفق ذلك، لو كان على صلة بالثّقافة الفرنسيّة، وهو عارف بِلُغتها، لَبَلغته تلك الأنباء الّتي له دور في صنعها. إلّا أنّه لم يَرِدْ ذكر أيّ شيء من ذلك في كتابه، حتّى من قبيل الذّكرى. لقد تحدّث، بعد عودته إلى حلب، عن لوكا، وعن بعض التّجّار الفرنسيّين، وفصّل القول في وقائع بالغة الدّقّة، لكنّه أغفل ما جعله حاضرًا على الدّوام في كلّ نقاش له صلة بمصادر ألف ليلة وليلة؛ كلّ ما راح يتداوله المعنيّون بألف ليلة وليلة لم يطرق أسماعه، ولا أسماع قومه. لم يستحقّ الأمر الجلل الّذي قام به إلّا بضعة أسطر.
في القرون اللّاحقة تضاربت الأقوال حول تلك اللّقاءات الّتي استقينا وقائعها من أهلها، واختُلِف بشأن الحكايات الّتي أوصلها حنّا دياب إلى غالان، ثمّ عددها، وموقعها في كتاب اللّيالي، وخيّم الغموض على راويها أو مدوّنها، ومن ذلك، فقد جانب بورخيس الصّواب بقوله أنّ غالان اصطحب معه من إسطنبول "مساعدًا مارونيًّا، يتمتّع بذاكرة ليست أقلّ إلهاما من ذاكرة شهرزاد"، فذلك الماروني لم يرافق غالان بعد عودته من حلب، ولم يلتقيا في بلاد الشّام، إنّما قدّمه له لوكا في باريس، وما إن وقع التّعارف بينهما حتّى أدرك غالان أنّه عثر على بغيته في إتمام اللّيالي الّتي ما كانت قد بلغت حدّها عنده. ولم يبخل عليه دياب، فزوّده بما كان يحتاجه من الحكايات الّتي اندرجت في إطار اللّيالي. ولمّا أمست صيغة غالان للكتاب أصلًا اعتمدت عليه التّرجمات الأخرى في معظم لغات العالم الحيّة، فقد أصبح من غير المتاح انتزاع حكايات دياب من خضمّ ذلك المجموع الخرافي الباهر، وإبعادها عنه بذريعة عدم أصالتها، ولم يتجاسر أحد على فعل ذلك.
إنَّ لقاءَ غالان بحنَّا دياب- كما يذهب بعض من الباحثين في شأن كتاب ألف ليلة وليلة- حدثٌ بالغ الأهمّيّة، فلولاه لما تيسَّر وجود تلك الحكايات العجيبة في إطار اللّيالي. وربّما يذهبون إلى ما هو أكثر من ذلك بالقول بأنّ كتاب اللّيالي سوف يتأخّر كثيرًا بسبب النّقصان الّذي كان فيه، أو يظهر غير وافٍ لما ينبغي أن يكون عليه. حضر ذلك في مؤلّفاتهم بصورة أو بأخرى، وربّما يتوسّع البحث في سياق دراسة موارد كتاب اللّيالي، ويعيد الاعتبار لرواته، غير أنّ كلّ ذلك بقي طيّ النّسيان إلى أن ظهرت مذكّرات غالان، وفي وقت متأخّر جدًّا ظهرت رحلة دياب. وما إن عُرِف الأمر حتّى تضاربت الأقوال حول أمريْن؛ أوّلهما: عن الحكايات الّتي تلقّاها غالان من دياب؛ ما هي الّتي رواها له مشافهة؟ وما هي الّتي زوّده بها مكتوبة؟ وهل حملها معه من سوريا أم أنّه دوّنها من ذاكرته في باريس؟ وثانيهما: كيف تعامل غالان مع تلك الحكايات؟ هل تولّى ترجمتها كما سمعها من دياب؟ وهل نقلها إلى الفرنسيّة كما اطّلع عليها مدوّنةً من طرف دياب، أم أنّه كان يعيد كتابتها بالفرنسيّة مُبقيًا على خطوطها السّرديّة العامّة؟
وفي ضوء ما أثير من لغط حول أصول حكايات حنّا دياب، وما إذا كانت شفويّة أم مدوّنة، يستطيع الباحثون إجراء مقارنات بين أسلوبه في رحلته المنشورة، وأسلوب الحكايات الّتي زوّد بها غالان. ويبدو لأوّل وهلة، وجود مظاهر شَبَهٍ بين أسلوب كتابة دياب للأحداث الّتي مرّ بها خلال رحلته، والأسلوب الّذي ظهرت به حكايات ألف ليلة وليلة. لكنّ معظم تلك الحكايات تعرّضت للتّهذيب منذ بداية ظهور نشراتها الهنديّة والمصريّة، بهدف الارتقاء بها، من رتبة لغويّة دنيا إلى رتبة أعلى.
***
كتمُ صوتٍ أصيل
في سياق ترجمة "أنطوان غالان" لكتاب "ألف ليلة وليلة" إلى اللّغة الفرنسيّة، خلال العقديْن الأوّليْن من القرن الثّامن عشر، قيل الكثير عن شابّ حلبي، يُدعَى "أنطوان حنّا دياب"، زوّده بأكثر من عشر حكايات، وجد بعضها موقعه في إطار الكتاب، حتّى أمسى ينظر إليها على أنّها من أشهر حكاياته، وما عاد من المتاح الاستغناء عنها، شأنها في ذلك شأن الحكايات الّتي يعود أصلها إلى ألف عامٍ مضى. وعلى الرّغم من الدّور الكبير الّذي قام به حنّا دياب، فقد خمل ذكره، ولم تقع الإشارة إليه إلّا في يوميّات غالان؛ إشارة متوارية لا يكاد يعرف بها أحد، حتّى من بني جِلدَته، وأحسبُها لا ترتقي إلى رتبة الاعتراف به إلّا بوصفه مكمّلا لنقصٍ في عدد حكايات اللّيالي، وكأنّه يجب تملّك كتاب اللّيالي من طرف غالان، حتّى قيل أنّه مؤلّف الجزء الأوفر من حكاياته، صاغها بأسلوبه ليوافق الأذواق السّائدة في فرنسا آنذاك. وبإبعاد دور أنطوان دياب، وإحضار دور أنطوان غالان، بدا كتاب اللّيالي وكأنّه دخيلٌ في أصله، كتاب خديج جرى تسمينه في ديار الإفرنج، وذلك يخالف واقع حاله، فقد نما، واستجلب إليه مزيدا من الحكايات منذ القرن العاشر الميلادي، وتشهد على ذلك أصوله المبكّرة الّتي أفاض الدّارسون في تبيانها.
لا ضرر في القول بأنّ غالان أطلق كتاب اللّيالي في فضاء الثّقافة العالميّة بعد أسر طويل في معقله العربي. وذلك دور محمود لا يسوّغ التّقليل من شأنه، ولكن، يلزم التّفريق بين الأدوار بنحوٍ لا يشوبه الارتياب؛ فترجمة نصّ من لغة إلى لغة أخرى شيء، وتكوينه في أصوله الثّقافيّة شيء آخر. صحيح أنّ الفضل يعود إلى غالان في جمع حكايات متناثرة من الكتاب لإصدار نشرته الفرنسيّة، وتدوين حكايات مرويّة لها صلة به، وإخراج صيغة خلعت عليه هويّته في آداب العالم، ولكنّ ذلك لا يحلّل إنكار الموارد الأصليّة للكتاب، أي إنكار سلالة الرّواة الّذين حملوا مرويّاته، أو مخطوطاته، عبر الزّمن. فلكي يستقيم الأمر، يلزم إعادة الحقّ إلى نصابه. ولــ "حنّا دياب" نصيب وافر في رواية حكايات اندرجت في إطار الكتاب، وبعضها لم يُعرَف له مصدر سواه.
وبالعثور على الأصول العربيّة لحكايات ألف ليلة وليلة، بدأت تلك الأصول تغالب ما أُخذ عن الصّيغة الفرنسيّة، ثم غلبتها بظهورها مطبوعة، وصار الاتّكال عليها أوثق من الاتّكال على غيرها. حيث تتداخل النّصوص الشّفويّة حينما تغيب الحدود بينها، ويعود ذلك إلى أنّ التّقاليد الشّفويّة لا تأبه بالمفهوم الضّيّق للتملّك في حمل المرويّات السّرديّة، ذلك التّملّك المنسوب إلى مؤلّف بعينه، إنّما تفطّن إلى التّملّك الثّقافي واسع المعنى، حيث يحمل السّياقُ المضيِّفُ النّصَّ إلى العالم، ويخلع عليه هويّته، وقد حدث ذلك لحكايات ألف ليلة وليلة، فيكون "حنّا دياب" قد وقع ضحيّة تداخل نسق شفويّ بنسق كتابيّ. ومع الأخذ في الحسبان أنّ استئثار آداب الأمم المهيمِنة بآداب الأمم الواهنة ظاهرة تكشف علاقة التبعيّة في ثقافات الأمم، ولا يكاد يُسمع صوت التّابع، وكما قالت "سبيفاك": ينبغي للتّابع أن يتكلّم، وإلّا يبقى مكتوم الصّوت كالأخرس الّذي يدرك كلّ شيء ولا ينطق به.
كُتم صوت حنّا دياب بفعل ثقافة مهيمِنةٍ، جعلته تابعًا بمعنييْن: تابع حقيقيّ، لرحّالة فرنسي شبه مغمور يُدعى "بول لوكا"، طاف بلاد الشّام لجمع مقتنيات نفيسة للبلاط الفرنسي، بأمر من الملك لويس الرّابع عشر، وجعل من حنّا دياب خادمًا ومترجمًا له، وبعد أن فرغ من مهمّته، اصطحبه بوعد العمل في خزانة الكتب العربيّة، في المكتبة الملكيّة بباريس. وتابع رمزيّ، حيث جعله غالان في رتبة الرّاوي المكمّل لنقص في حكايات اللّيالي، الّتي ينبغي أن تكون بألف ليلة وليلة. وفي أحوال مماثلة لما حدث بين دياب الحلبي وغالان الفرنسي يُصار إلى الاحتفاء بالآخذ على حساب المانح؛ يُكلَّل الحائز بتيجان الفخر، ويُثنَى عليه، ويُغمَر بالذّكر حيثما يكون، إذ أنّه انتشل جواهر الكلام من طيّات النّسيان، بينما ينزوي الواهبُ، ويُنتَبَذ، كأنّه فضلة من فضلات التّاريخ.
باعتراف غالان الموثّق في يوميّاته، حاز على حكايات رواها له راوية حلبي أو دوّنها بالمحكيّة الشّاميّة، فتصرّف غالان بها، ولم يقع التّعريف بالحيثيّات الثّقافيّة لحنّا دياب من حيث تجربته، وحَمْله جملة من الحكايات من حلب إلى باريس، حتّى أنّ غالان لم يذكُرْه باسمه، إنّما انتحل له اسم "جان ديبي" الّذي أغفل هويّته الخاصّة، وإن وقع نعته بالحلبي أو الدّمشقي أو الماروني. وما خلا ذلك- وهو أمر له صلة بالسّجلّ التّاريخي لكتاب ألف ليلة وليلة- فقد وقع إغفال ذِكر رحّالة بارع الأسلوب وقويّ العزيمة، نجح في الوصول إلى باريس، وزيارة القصر الملكي في أعلى مرتفعات "فرساي"، ومجالسة لويس الرّابع عشر وبطانته، وقدّم عن البلاط الفرنسي، وعن ساكنيه، وصفًا خلّابًا، يماثل الأوصاف العمرانيّة والبشريّة في القصور الملكيّة لدى كبار الرحّالة. لكنّ كلّ ذلك بقي طيّ الكتمان إلى أن عُرف في العقد الثّاني من القرن الحادي والعشرين، حينما كُشف اللّثام عن رحلة قام بها حنّا دياب في مطلع القرن الثّامن عشر إلى فرنسا.
وفضلًا عن مغامرته المبكّرة في العالم الأوربّي، فقد دوّن حنّا دياب رحلته بأسلوب يقارب ما يعثر عليه القارئ في أسمار ألف ليلة وليلة؛ حيث تلبّسته روحُ كبار الحكّائين المتمرّسين بمحافل السّرد الشّفوي. وفيها ظهرت براعته في الأخذ بأسلوب يتردّد بين المحكيّة الشّاميّة والعربيّة الميسّرة بما يوافق وعيه وتجربته. غير أنّه، في جميع الأحوال، دوَّن نصًّا عميقَ الدّلالة في حمل تجربة رجل خاض مشاقّ رحلة أخذته من بلاد الشّام إلى بلاد غريبة عنه، دوّنها صاحبها، وكأنّه يرويها. وفيها اتّخذ دور مَنْ يروي عن نفسه وعن تجاربه بجسارةِ مَن عرف صعاب التّرحّل في عالم غير مألوف لديه، وفيها أعاد بناء تجربة ثريّة، ترحّل بها في عالم غربي مختلف الاختلافَ كلّه عن عالمه الشّرقيّ.
ظهرت رحلة حنّا دياب بعنوانيْن؛ الأوّل هو: (رحلة من حلب إلى باريس) في عام 2017، عن منشورات دار الجمل، بغداد، والثّاني هو: (كتاب السّياحة) في عام 2021، عن منشورات المكتبة العربيّة، نيويورك. وبصرف النّظر عن مقدّمات المحقّقين والنّاشرين، فإنّ متن الرّحلة هو نفسه في النّشرتيْن، ما خلا النّفع المضاف، الّذي جادت به نشرة دار الجمل، وذلك بإدراج ملحق يتضمّن يوميّات غالان عن مجمل لقاءاته بدياب. ومن بين كلّ ما حدث له في باريس، اكتفى بتدوين فقرة قصيرة عن لقائه بغالان، حتّى أنّه لم يذكر فيها اسمه، وكأنّه يبادل غالان الخطأ نفسه: خطأ الإنكار. حدث اللّقاء الأوّل في يوم 17 مارس من عام 1709 في منزل لوكا.
لم يُولِ حنّا دياب الاهتمامَ الكافي بغالان، فمرّ على وصف اللّقاء به مرور الكرام، وقد يكون نسي اسمه بعد أكثر من نصف قرن على لقائه. وأحسبُ أنّه لم تبلغْه أنباء كتاب ألف ليلة وليلة الّذي ملأ أسماع المجتمع الثّقافي الفرنسي، خلال العقود الّتي أعقبت زيارته لباريس، واشتهر أمر غالان كثيرا، كما اشتهر أمر الكتاب. وَوِفق ذلك، لو كان على صلة بالثّقافة الفرنسيّة، وهو عارف بِلُغتها، لَبَلغته تلك الأنباء الّتي له دور في صنعها. إلّا أنّه لم يَرِدْ ذكر أيّ شيء من ذلك في كتابه، حتّى من قبيل الذّكرى. لقد تحدّث، بعد عودته إلى حلب، عن لوكا، وعن بعض التّجّار الفرنسيّين، وفصّل القول في وقائع بالغة الدّقّة، لكنّه أغفل ما جعله حاضرًا على الدّوام في كلّ نقاش له صلة بمصادر ألف ليلة وليلة؛ كلّ ما راح يتداوله المعنيّون بألف ليلة وليلة لم يطرق أسماعه، ولا أسماع قومه. لم يستحقّ الأمر الجلل الّذي قام به إلّا بضعة أسطر.
في القرون اللّاحقة تضاربت الأقوال حول تلك اللّقاءات الّتي استقينا وقائعها من أهلها، واختُلِف بشأن الحكايات الّتي أوصلها حنّا دياب إلى غالان، ثمّ عددها، وموقعها في كتاب اللّيالي، وخيّم الغموض على راويها أو مدوّنها، ومن ذلك، فقد جانب بورخيس الصّواب بقوله أنّ غالان اصطحب معه من إسطنبول "مساعدًا مارونيًّا، يتمتّع بذاكرة ليست أقلّ إلهاما من ذاكرة شهرزاد"، فذلك الماروني لم يرافق غالان بعد عودته من حلب، ولم يلتقيا في بلاد الشّام، إنّما قدّمه له لوكا في باريس، وما إن وقع التّعارف بينهما حتّى أدرك غالان أنّه عثر على بغيته في إتمام اللّيالي الّتي ما كانت قد بلغت حدّها عنده. ولم يبخل عليه دياب، فزوّده بما كان يحتاجه من الحكايات الّتي اندرجت في إطار اللّيالي. ولمّا أمست صيغة غالان للكتاب أصلًا اعتمدت عليه التّرجمات الأخرى في معظم لغات العالم الحيّة، فقد أصبح من غير المتاح انتزاع حكايات دياب من خضمّ ذلك المجموع الخرافي الباهر، وإبعادها عنه بذريعة عدم أصالتها، ولم يتجاسر أحد على فعل ذلك.
إنَّ لقاءَ غالان بحنَّا دياب- كما يذهب بعض من الباحثين في شأن كتاب ألف ليلة وليلة- حدثٌ بالغ الأهمّيّة، فلولاه لما تيسَّر وجود تلك الحكايات العجيبة في إطار اللّيالي. وربّما يذهبون إلى ما هو أكثر من ذلك بالقول بأنّ كتاب اللّيالي سوف يتأخّر كثيرًا بسبب النّقصان الّذي كان فيه، أو يظهر غير وافٍ لما ينبغي أن يكون عليه. حضر ذلك في مؤلّفاتهم بصورة أو بأخرى، وربّما يتوسّع البحث في سياق دراسة موارد كتاب اللّيالي، ويعيد الاعتبار لرواته، غير أنّ كلّ ذلك بقي طيّ النّسيان إلى أن ظهرت مذكّرات غالان، وفي وقت متأخّر جدًّا ظهرت رحلة دياب. وما إن عُرِف الأمر حتّى تضاربت الأقوال حول أمريْن؛ أوّلهما: عن الحكايات الّتي تلقّاها غالان من دياب؛ ما هي الّتي رواها له مشافهة؟ وما هي الّتي زوّده بها مكتوبة؟ وهل حملها معه من سوريا أم أنّه دوّنها من ذاكرته في باريس؟ وثانيهما: كيف تعامل غالان مع تلك الحكايات؟ هل تولّى ترجمتها كما سمعها من دياب؟ وهل نقلها إلى الفرنسيّة كما اطّلع عليها مدوّنةً من طرف دياب، أم أنّه كان يعيد كتابتها بالفرنسيّة مُبقيًا على خطوطها السّرديّة العامّة؟
وفي ضوء ما أثير من لغط حول أصول حكايات حنّا دياب، وما إذا كانت شفويّة أم مدوّنة، يستطيع الباحثون إجراء مقارنات بين أسلوبه في رحلته المنشورة، وأسلوب الحكايات الّتي زوّد بها غالان. ويبدو لأوّل وهلة، وجود مظاهر شَبَهٍ بين أسلوب كتابة دياب للأحداث الّتي مرّ بها خلال رحلته، والأسلوب الّذي ظهرت به حكايات ألف ليلة وليلة. لكنّ معظم تلك الحكايات تعرّضت للتّهذيب منذ بداية ظهور نشراتها الهنديّة والمصريّة، بهدف الارتقاء بها، من رتبة لغويّة دنيا إلى رتبة أعلى.