سيدة بن جازية - بوصلة الحرية...

في الشارع الخلفي لحيِّ الأحرار بالعاصمة لا تنقطع الحياة ليلا رغم الظلام ، يتوزَّع البعض في أماكنَ مخصوصةٍ كبيوت لهم بالإيجار، لتنطلق أجواؤهم و شهواتهم و مهاتراتهم... ليسوا بجماعة " تحت السور" لكن يعرفهم الجميع بجماعة " خفافيش الظلام " ... ينتعشون بعد سبات المدينة، في حركة مشبوهة يتنقلون بين الفينة والٱخرى، يحسنون رصد حركة كل غريب أو دخيل بينهم فلا يمنع من قبضتهم حتى يعرفوا عنه كل صغيرة وكبيرة ، فهم كأرقام مخصوصة لنشاطاتهم الليلية المتباينة، يقظون رغم سكرهم ، واعون رغم خدرهم ، كرام رغم الفاقة الظاهرية ،متآلفون في سرائهم وضرائهم كفريق موحَّدٍ ...
تنتصب الظلال جنودا خفيَّةً تحرُسُ حدودهم و أسرارهم ...

تسترسل حركته بينهم دون هوادة حتى يتعبَ ، يتَّخذ لنفسه زاويةً ، يرقب المكان في حيطة من تحت النظارة الدكناء المقعّرة، يترصّد رجال الشرطة والمارة وكل المارقين كرادار سري ؛ حريص ألا يجلب الشبهات أو التتبعات؛ يتسابق مع كل ظل يقترب منه كمعتوه أخرق حتى ضلّ الطريق المعهود ...

يتكوّر داخل معطفه الترابيّ الرثّ و حذائه الأسود المطاطيّ المهترئ فلا تشكُّّ أنه منهم و إليهم قد دمّره الإدمان و السهر الطويل ...

اقترب منه ظلّ طويل جدًّا آخر الزقاق يترنّح في مشيته ، بادله تحية مخصوصة ، بلباقةٍ و حرفيّةٍ تسلّم منه الرسالة المشفَّرة . استدار ... أومأ ثلاثا ... جذب هاتفه من بين طيات صداره المهمل، أجرى اتصالا سريعا معدود الكلمات ثم عاد يغازل الغربان الناعقة في استبلاه... ابتعد قليلا ، تكوّم تحت شجرة الصنوبر ، يلوك كسرة يابسة أخرجها من جيبه. لم يعره أحد أيَّ انتباه غيري .

طال انتظار الإشارة الثانية ... جال ببصره في كل أركان الحي الممتدّ ، ما من مجيب . حملق ، زفر ، حنق، نفر ، ضرب كفّا بكفّ ...

طفقنا نرشقُه بنظرات لم يطمئنّ لها. ارتاب في أمره ..من معه ومن عليه؟ اندسّ في ثنايا كوفيّة تلفُّ عنقه الأعوج ... متناعسا...

حاول كبح جماحه... تصَبَّر َ... تذمّر... أصابته الخيبة، و أخذت الهلاوس تتقاذفه؛ أيكون.. قد استغنَوْا عن الخطة أم وقع اكتشاف الكمين؟
لماذا تبدّلت حركاتهم عن المعتاد دون إعلامي ؟
لِمَ لم ترسلْ الإشارة الضوئية النهائية رغم استقرار الوضع شكليًّا ؟ من يُخبرني... ؟ من يفعلها...؟

تعدَّدَت الأفكارُ و راح يحدِّثُ نفسَه مستنكِفا مما يحدث :

ــ أشتمُّ رائحةَ غدر وخيانة تزكم أنفي، كيف أتصرّف الآن؟

أجال بصره في كلِّ زاويةٍ كعقارب ساعة حائطية موزونة ، يتفحّص المكان و الشخوص و الأشياء و السماء ، لاحت له كل العيون ترمق خيبته العارية ... أوجعته سِهامٌ حادّة موجّهة نحوه دون شفقةٍ، وخزت كبرياءه ، كادت تسقطه لولا...

بعد أن خلع النظارة عن عينيه الملتهبتين ، أبصر نورا وهَّاجا يسْطع من بعيد خلف ظلال طويلة تداهمه،توشك أن تقترب منه في حركةٍ موقّعةٍ، ساق ترفع وأخرى تخفض تتبعها حركة يد مستقيمة وأخرى ماسكة السلاح،" دوم تاك دوم تاك ... "
لا مفرّ من المصير.

دسّ يديه في جيبيه استعدادا و تلا أدعيةً.وابتهالاتٍ جعلت البعض يلتفت إليه، حــتــى الجـدران و الأشـجــار البـاسـقــة و الطيور و الأبــواب الـمـوصـدة ارتــــعــــدت مـــحـــاولـــة الــــ فـــــ ـرا ر...
صاح في الجمع مدوّيا، لا يقترب أحد ، أنجوا بحياتكم...
آخر تنبيهاتي...
غاب الكل وسط الزحام واختلط الحابل بالنابل في تجمع رهيب لكل الموجودين والمندسّين ناحية الرحبة الواسعة القفراء ...
ظلامٌ كثيفٌ متلبس بالضباب يغمرُ المكان .. ودموعٌ سخية تذرف قبل اللحظة "صـ ف ر"، تقهقرت الآهات قبل سماع تفجيرات بعيدة هناك ... ما الذي حصل؟! من فعلها غيري؟

_ لن أجيب.

لقد أفسدتُ مخطط الإنقاذ بسبب إهلاساتي وسوء ظني بالقادة. لقد دمّرتُ كل شيء ولن يمرّ الأمر بسلام. لكن في الٱمر سرّ !
كوكبة من رجال الشرطة تقودني نحو السيارة الإدارية، لم يركلني أحد، لم يصح بي العريف الأول والثاني، لم يشتمني الملازم..
لم أفهم شيئا، هل أنا بريء أم متّهم؟ مذنب أم محسن؟
هل نجحت الخطة أم فشلت أم...؟ لقد غيّروا التمشي المتّفق عليه. ربما لم أحسن تقدير الأمور.

حسمت أمري و ضغطت على الزرّ ، لم تنفجر العبوات، هناك كمين آخر أكبر من كل الكمائن ، لم أفهم شيئا، الله أكبر، الله أكبر...
راقبت بذهول ردّة فعله في صمت رهيب ، أشفقت عليه .

صاح منتشيا : المهمّ، انتصرت الدولة من جديد وهزمت الظلال المتخفية... خفافيش الظلام ... يحسب لحماقتي منذ اليوم ألف حساب ... يحيا الحمق و الحمقى ...

لكن لم أكن الأحمق الوحيد هذا اليوم، على ما يبدو صالوا وجالوا كما شاؤوا وشئنا. و انتثرت أشلاء من كانوا يقاسمونني هذا المكان منذ فترة التدريب القاسية ، بصيحة واحدة سقناهم إلى مصيرهم المحتوم قبل أن يخرّبوا حياة المزيد من شبابنا. فجّروا أنفسهم بعيدا عنا في اجتماعهم الرهيب.

لم أفهم كل ما قاله لكنني لم أُخْلِ سبيله وواصلت تعقُّب أثره المعفر بالعثرات.
انتظرُ منذ ذلك الإنجاز وحتى يومي هذا المكافأة و لِمَ لا التتويج ! رسمت لوسامي عدة أشكال و معادن لكنني لم أتخيّل أن أصفّدَ بالأغلال و أنسى هنا .
من الأحمق المسؤول عن هذا المصير؟ أنا أم هم؟!
لِمَ لم يزرني أي أحد منذ قبعت بهذا المكان؟
ألم يقولوا أنه إجراء تحفظيّ؟ لقد آمنت بالفكرة أكثر منهم أعطيتها أكثر من ستة أشهر عملا وتضحيات و مخططات و علاقات حتى كدت أفقد حقيقتي...

شعرت بالإشفاق عليه ووددت لو أكشف له البعض مما رصدت عدستي لكن...

...اقتربت رائحة الغدر مني أكثر فأكثر، لعلها تجاورني بالمركز المقابل لباب السجن الانفرادي...
دبيب الحركة الخارجي يبعث فيّ إحساس أن أمرا ما يطبخ على مهل مع اقتراب موعد التنصيب. هل وقعت في الفخ طوّعيا ؟ تغيّر الاتجاه دون علم مني لست مسؤولا عن النتائج... بغباء حاولت أن أخترق الحرية فوجدتني أخترق العبودية من جدارها الواهي. لن أدين أحدا مجددا...

نقلت كل الأحداث بأمانة و انتظر معكم بزوغ شمس الحقيقة مع استقراء صادق للوقائع لكن الأمر أظنه يتطلب عقودا من الزمن. سأعرض الشريط لكنني لن أطمع بجائزة.

ســيـدة بــن جــازيـة
تــونـس

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى