رياض نصور - أنا والله والمجنون!...

كثيراً ما أشعر بانقباض في صدري، وبألم عميق يسيطر على كياني، فأتخاذل وأضعف أمام واقع الحياة، وأفقد ثقتي وطمأنينتي، وأحس بالدوار في رأسي، فأقع بما يشبه هذيان المحموم .. في أول العام الجديد علمت أن الفتاة التي أحبها خانتني، وخطبت لرجل آخر، بعد حبٍّ جارف دام بيننا بضع سنوات.
أذكر ها، بالأمس القريب كانت إلى قربي. أشعر بدفئها، أحس بحرارة جسدها اللدن، يذوب بين يدي، وصدرها الناعم الطري يتحسس صدري، وصدى صوتها يتجاوب عميقاً في مسمعي:
- لن أتزوج، سأبقى لك، ما حييت ولكن !..
" تتساقط دموعها من عينيها السوداوين الساحرتين، فحبنا صعب المنال .." كنت أعلم ذلك، ولكنني كنت أتجاهل الواقع، الذي يقضي بفراقنا، وأستسلم للأحلام، تحلق بي عالياً، لكنني سرعان ما أعود على الأرض، وأشعر بثقل الواقع، واستحالة تلك الأحلام.
لقد انتهى الأمر، وخسرت حبيبتي السمراء ... تناولت صورنا معاً ورسائلها المعطرة إليّ، تلك الأشياء الغالية العزيزية على قلبي .. ودسستها في جيبي، وخرجت من المنزل، لأفاجأ بجثة معلقة, لقد جحظت منها العينان, وانكفأ الرأس على الصدر ، وكان الناس ينظرون إلى الجسد المتراقص تحت الخشبة، وعنقه ملفوف بالحبل القاسي. بينما الثوب الأبيض تتلاعب بأطرافه الرياح.
لم أقصد تلك الساحة، إنما وجدت نفسي بين الجماهير المحتشدة، ورؤية الناس المستضعفين تثير بي المشاعر والمتناقضة والآلام المبرحة .. غضضت طرفي عن الجسد المعلق، وأخذت أصغي إلى أحاديث الناس وتعليقاتهم .. كهلة بصقت وهي تهتف:
- هذا النذل قتل أمه.
وتصرّ على أسنانها وتتابع:
- أرضعته من ثدييها. ربّته وتعبت عليه, وهاهو يذبحها ذبح النعاج.
أحد الشبان يردف:
- يقولون أنّه قتلها من أجل سبع ليرات، صرفها على ملذّاته.
ردّد آخر:
- من أجل سبع ليرات يقتل الأم المسكينة, ويذبحها من الوريد إلى الوريد!!. إنه يستحقُّ الشنق.
يتابع رجل مسنّ الأحاديث قائلاً:
- قال الله تعالى: ((وبشر القاتل بالقتل)). لقد نال جزاء ما اقترفت يداه.
تعود المرأة الكهلة إلى الحديث:
- أولادي لا يجرؤون حتى على النظر إلي.. أصبحوا شباباً, ولم أزل أضربهم, لو اقترفوا ذنباً.. هم..
فيردّد الرجل المسن:
- إنه والله عصر العجائب.. جيل فاسق..
تردّ المرأة الكهلة:
- تختلف أخلاق الناس, إن الله بصير عليم بما في القلوب. وهو العلي العظيم قد جعل من هذا المجرم عبرة للخاطئين.
فجأة, من خلال المجموع المحتشدة رأيت (علي) المصاب بالصرع, المسمّى بالمجنون, في شبه ذهول يصغي, كما أصغي إلى أحاديث الناس, وفي عينيه دمعة أبت إلا أن تظهر جلية واضحة.. تمتم بصوته الخفيض بضع كلمات, سرعان ما ارتفع صوته بعدها مردّداً:
- مسكين هذا الإنسان المعلّق, كان رجلاً طيباً, لكن حكمت عليه المحكمة بالإعدام. الذي حكم عليه رجل مثله.. وجده ضعيفاً, ولا من يدافع عنه.. أما ما دفعه إلى ارتكاب جريمته, فهو, بلا شك, الفقر. الحاجة تولّد اليأس, وتخلق الجنون. في ثورة من ثورات يأسه قتل أمه... أما أن يكون قتلها من أجل سبع ليرات, ليصرفها على ملذاته.. هذا محض افتراء, لأن هذه الليرات قليلة جداً, لاتكفي من أجل أي شيء.. أمّا هؤلاء الذين يسرقون, ويصرفون الآلاف على ملذّاتهم, فهؤلاء ليسوا مجرمين, أليس كذلك؟!..
أشعل علي لفافة, أخذ منها أنفاساً طويلة, وتابع:
- غداً, سيقولون عنّي الأقوال نفسها.. سيبصقون في وجهي, ويرددون ((لص, قذر, مجرم, لأني ضقت ذرعاً بالحياة)).
بالأمس كانت محاكمتي مع أحد التجار, أعطاني أوراق يانصيب, لأبيعها..
فاجأني الصرع في الطريق, قبل آخر يوم قبل السحب.. عندما أعدتها رفض التاجر استلامها, بعد أن مضت مدّتها.. كان لي بحوزته ثلاثون ليرة, لم يشأ إرجاعها إلي, بل أقام الدعوى علي, مطالباً بثمن أوراق اليانصيب.. حكمت المحكمة لصالحه دون مراعاة لوضعي الصحي.. أنا لا أستطيع دفع القيمة الباقية.. التاجر لم يرحمني.. سأقتله حتماً.
سأضغط على عنقه بيديّ الاثنتين, وسيحكم عليّ بالإعدام.. سأشنق هنا في الموضع نفسه.. سيقولون: إنها مشيئة الله, ومشيئته أن أصاب بداء الصرع, وأن، أفقد دراهمي, وأن أقتل هذا الرجل, وأسلّم عنقي للحبل.. ومشيئة الله أن أطرد من المدرسة صغيراً, لأني مريض, لأتابع دروسي مع إخوتي في المنزل.. ومشيئة الله أن يقال عني مجنون.. أروّح عن نفسي, أرقص أحياناً, أغني, يلتفّ الناس من حولي وهم يردّدون:
(( مجنون, مجنون )).
ويأبى الله إلا أن أكون مجنوناً, دون علم أو مال أو حياة.. أجوع ولا أطلب صدقة.. تراودني فكرة الانتحار.. أنا ضعيف منبوذ كهذا الذي علّقوه وأعدموه, و قالوا:
- إنها إرادة الله.
كأن الله هذا الكائن الأعلى الذي يعبدون.. شرير!
خفض من صوته كثيراً, فلم أعد أفهم من حديثه شيئاً.
قلت لنفسي:
((كلانا مجنون يا علي.. أنت تفكّر وتحلم مثلي.. لك الأخيلة نفسها, التي تراود ذهني كلّما سرت وحيداً... الفرق بيننا أنك تصرّح وبجرأة أمام الناس, أما أنا فأدفن أسراري في أعماقي...))
سار (علي) ذاهلاً متباطئاً, ومضيت أنا في طريقي..
كان يدي تضم حزمة رسائل الحبيبة وصورها, فأستعيد ذكرياتنا ووعودنا, ثم أعود إلى الواقع الذي أعيشه, وإلى العالم وتقاليده.. تلك العادات والتقاليد المهترئة, التي وقفت حاجزاً دون حبّنا... يمرّ الناس من حولي, ويتدافعون, يسعون في طرقات مختلفة نحو أهدافهم وغاياتهم... و كنت أسعى إلى دار الحبيبة, والشوق إلى رؤيتها يعبث بي..
فقد انقطعت عني أخبارها ورسائلها, منذ فترة طويلة.
سأقرأ عليها الرسائل التي كتبتها بخط يدها, وسأريها الصور التي تجمعنا معاً, وإن رفضت رؤيتي, سأنقضّ عليها.. قد أقتلها, أو أقتل الرجل الذي أخذها مني.
ارتطمت يدي بالخنجر المخبّأ داخل ثيابي... قالوا: إن المشنوق قد ذبح أمه من الوريد إلى الوريد.. سأذبح الفتاة التي أحب, لن أتركها لسواي مطلقاً.
رأيت طفلين يقتتلان, كانا يتضاربان بشراسة.. اقترب منهما عابر سبيل, وفرّق بينهما.. كنت أودّ أن يستمرّا, فقد يفقأ أحدهما عين الآخر.. الناس يسرّون بمآسي الآخرين, وقد أكون مثلهم.. لا.. أنا أكره هذا.. لقد تألّمت لمرأى المشنوق, وقد أقتل الفتاة التي أحب بعد ثورة غضب, أو أي شخص آخر قد يقدم على إهانتي, وقد أرتكب حماقة ما... وإلاّ لماذا أحمل هذا الخنجر؟!.. اصطدمت برجل منتفخ كالبرميل, يرتدي قبعة حمراء, ويضع في جيبي بنطاله. عندما واجهني بكلمة "عفواً", وددت لو طعنته بخنجري, فأنا بحاجة إلى إنسان أقتله..
انعطفت في شارع جديد.. وجدت فيه الناس يرك من كل ناحية وصوب, وعلي المجنون يقف معفّر الثياب, وخيط من الدماء يصبغ جبهته وخدّه, كان يردّد بعض أحاديثه بأسلوب جديد, هو في حالة يأس مريع. وكان سائق إحدى السيارات يقول:
- أنت تريد أن تموت يا هذا, فما هو ذنبي أنا, لتُلقي بنفسك تحت عجلات سيارتي؟.
لم يعبأ علي بكلام السائق.. كان يتابع خطابه وقد أحاط به الناس, يضحكون, ويصرخون:
(( مجنون! مجنون! ))
تابعت طريقي وأنا أنظر إلى الفضاء البعيد, نحو الشيء الكبير الذي يلصق الناس بإرادته أخطاءهم وشرورهم وآثامهم, وكل ما يتعلّق بالحياة, هذا الخضم الواسع حيث تتكرر المآسي, وتتشابك الخطوب... هكذا ضعت ثانية في خضم الناس, وعاودتني الأخيلة الشريرة:
((الحبيبة الخائنة المشنوق، على المجنون)).
أحسّ دبيباً شريراً، يغذّي خيالي، ويسبح بي إلى أعماق بعيدة القرار, فأجمع الماضي بالحاضر, بسلسلة لا تنتهي... تتعلّق أحياناً بالسماء، ثم تهبط إلى الأرض.
رغم كل شيْ وجدت نفسي، ألقي الخنجر بعيداً بعيداً، وأرفع يدي عالياً عالياً، ناظراً إلى السماء، وأنا أضحك وأضحك بصوت عال عال، لا هوادة فيه.

* نشرت في مجلة (الأحد) العدد (218)، عام 1955


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى