يدي تؤلمني، أتململُ في فراشي، يزداد الألم رسوخاً.
أخرج إلى الشرفة، أنظر إلى النجوم تزرع السماءُ، وإلى البواخر الجاثمة في الميناء. أنوارها تتلألأ.. وأضيع في متاهات لا نهاية لها بين السماء والبحر.
أرفع يدي، لا أستطيع أن ألوّح بها للنجوم السابحة في كبد السماء، ولا أن أهزّها للبواخرِ المقلعةِ من الميناء.
أخذت كتاباً، أدرت المفتاح الكهربائي، ظلّ الظلام دامساً. النجوم مازالت تنظر إلى الأرض العجوز الدائرةِ في فلكٍ أسود، وعبر متاهات مجهولة. لا نور. الظلامُ يخيمُ على الأرض التي تموت بفعل الشيخوخة. ألقيتُ الكتاب جانباً، صدري مثقلٌ، والموت يخيّمُ على العالم..
أشعلت شمعة. وضعت «الركوة» على الغاز، ألقمته ناراً. فارت القهوة، سقطت قطراتٌ مسفوحة منها على يدي، احترقت يدي، شربتُ الكثيرَ من القهوةِ، لا أنام.
الأضواء الخافتة في المرفأ القريب تومئ لي تعال. والأشعة الوسنانة المنداحة من النجوم البعيدة تناديني، وأنا وحدي هنا على الشرفة، بدون كتاب، ولا نور، أسبح حزيناً مع أحلامي التائهة، وآلام جسدي المتعب. تحملني النجومُ عَبر الاجواء وتلقي بي عند الشاطئ.
بالأمس قلت لحبيبتي الشقراء أحبك! ضحكت واستلقت على المقعد المخملي. كل ما فيها يضحك... رأيت عنفها المشرئب كعنق حمامة بيضاء، وانكشف الثوب عن المنحدر الفاصل بين ثدييها... ذلك المنحنى الجميل ألهب خيالي، تصورته يمتدُ صدراً لا مثيل له، ترتفع فوقه زبيبة لم تعتصر بعد. غامت عيناي. رأيت نفسي ألتهم الزبيبةَ بفمٍ جائعٍ ممتصّاً رحيقَ المحبةِ النائمة لتفورَ إشراقاً ورغبة. ذهبت حبيبتي. أحسست الضياع من جديد. فتحت المذياع لأنسى ما أنا فيه. اعتداءات متكررة على الجنوب الدامي، المدنُ تقصفُ من الجو والبحر. عشرات القتلى والجرحى. حوادث عنف وقتل، المجاعات تعمّ قاراتٍ بأسرها. الأمراض تحصد المئات من الناس. الأشقاء يتصارعون على الحدود، يقتتلون، طائرات تسقط، الحرائق في كل مكان. الزلازل تدمر مدناً وقرى بكاملها... فيضانات، حروب، اغتيالات.
صديقي وأحبّه، انسان حقيقي وأب لكل ما هو رقيق وصحيح في هذا العالم، ومع هذا قتلوه. أطلقوا عليه النار، أخمدوا أنفاسه الطاهرة وإلى الأبد.
يدي تؤلمني. أحسّها تفيضُ ألماً، أندفع في العتمة، أتناول زجاجة شراب، أجرع منها كؤوساً، الكؤوس تحرق جوفي. أتذكر ما قاله لي الطبيب. الشراب يحرق أمعاءَك. يجب أن لا تأكل إلا القليل، أمنعك عن الحبوب والدهون والمشروبات الروحية الخ... كنت أوَدُّ أن أقول له، لم يبق شيء فاتركني أمتْ جوعاً. لم أقبل بنصائح طبيبي. ظللت أتناول كل ما منعه وبرغبة أكثر.. لا أدري لماذا؟
أسرعت إلى صنبور الماء وأدرته، لم يتدفق الماء كعادته. أحس الاختناق، عطشي شديد، لا أقوى على الصمود، يدلي تؤلماني، وفمي جاف.. أسرعت إلى الهاتف لأسأل شركة المياه عن سبب الانقطاع. كان الخطُّ صامتاً كميت.
النجوم ما تزال تتلألأ في كبد السماء. الحزن يعمّ الكون. العالم يبكي. النجوم تبكي. عشرات الشهداء يموتون كل يوم.. يموت الأبرياء، تسيل دماؤهم أنهاراً... يضرّجون وجهَ الشمس بما يسفحونه على الأرض. دماؤهم قانية كما الحقيقة. كما الطهر يستنزفُ.. كما البراءة تموت.
وأنظر إلى البعيد.. وآخر باخرة تودع الشاطئ الحزين. أرفع يدي تحية الوداع تهوي يدي تموت إلى جانبي. أعود إلى الفراش، أحاول النوم لا أستطيع. أسرع إلى صيدلية المنزل، أتناول بضع حبات، ومع هذا، لا أقوى على الرقاد. أعود إلى الشرفة وبودّي لو أشتمَ النجمَ والشواطئ والعالم. واجبي يحتّمُ على الصبر والانتظار. يطول الليل، ويطول العذاب، ولا ينتهي الغدرُ من العالم.
يدي تؤلمني.. أحسسها رصاصاً، حروقاً، إشعاعاً ذرياً.
يدي مثقلة بآلام العالم، والليل طويل، والعالم يحترق.
لا الحب يقف في وجه العالم المتردّي.. لا الفلسفة، لا الثقافة، ولا التاريخ.
صدري مثقَلٌ، أنتظر الفجر القادم ولعلّه أشدُّ ظلاماً من الفجرِ الراحلِ.
وأضمّك إلى صدري يا حبيبتي، أضمّكِ خيال عطاءٍ جارفٍ أنوف. ألتهمُ لذائذك كطفل مقدام شره.
وأتوه في عالم عطائك، فأنسى نفسي، وأنسى وجودي، وأنسى واقعي الحزين، وأدمن عشقك وكأسي. وأدمن الهروبَ الذي أنا فيه، خاصة عندما أحسّ أني مقصوصَ الجناح. فأنظرُ إلى النجومِ البعيدة تسبح ُفي فلك أسود.
.. وأطلّ الصباح كئيباً ككل صباح. يطلُّ بعد طولِ انتظار، تافهاً كما الحياة، وافتحُ المذياعً على أخبار الكوارثِ والقتل والزلازلِ والعنفِ وحرب الأشقاء. أُقفلُ المذياع أركض في طريقي إلى الطبيب المختص، فيدي ما زالت تؤلمني.. أجلس بين يدي طبيبي، لا أفهم ما يقول، أردد بصوت عالٍ:
- يدي تؤلمني.. وكفى..!
يرفع يدي، يُخفِضُها ثانيةً. ينظرُ في عيني. يسألني عن عمري وعملي وحياتي.. لا يدري أنني نسيتُ الزمن وعمري. توقّفَ في نقطةٍ محدودة. قام بواجبه كطبيب، كنت صامتاً، رفعَ صوته، أبدى رغبته بمصادقتي، سألني إن كنت أكتبُ، وأحبُّ، وأتناولُ الكحولً. كنتُ ذاهلاً عما يقول طبيبي... كنت أنتظر حبيبتي بعدَ دقائقَ معدوداتٍ، لكنّه كان مشاكساً هزّني بانفعالٍ قائلاً:
- يجب أن تترك الكتابةَ والشرابَ والحب!!
كان يشدّد على الكلمات المتدفقة من فيه اشعاراً لي بخطورة المرض وواجب التنفيذ.
هرولتُ فارّاً آخذاً السلم بخطوتين. أَيظنُ أن هجر القلم سهل لمن قضى العمر مسوّداً بياض الصفحات، وهل يعتقدُ أن هجرَ الحبيبةِ هيّنٌ لمن ومضَ قلبه نوراً في هيكل عطائها؟؟
يدي ما تزال تؤلمني، وقلبي ما يزال ينبضُ، وأنا وكأسي والقلم والحب وحده ضياع وشرود.
العالم المجنون ما يزال يقتتل، ويغتال، ويّدمر.. والأبرياء يتساقطون.... والكوارث تجتاح الدنيا.
ويدي ما تزال تؤلمني. وما أزال أحنُ لصدر حبيبتي، لكأسي وللهدوء والاطمئنان في مدينتي وفي العالم...
وأن أكتبَ وأكتبَ و أكتبُ... أن أملأَ كل الدفاتر البيضاء والأوراق البيضاء.
أخرج إلى الشرفة، أنظر إلى النجوم تزرع السماءُ، وإلى البواخر الجاثمة في الميناء. أنوارها تتلألأ.. وأضيع في متاهات لا نهاية لها بين السماء والبحر.
أرفع يدي، لا أستطيع أن ألوّح بها للنجوم السابحة في كبد السماء، ولا أن أهزّها للبواخرِ المقلعةِ من الميناء.
أخذت كتاباً، أدرت المفتاح الكهربائي، ظلّ الظلام دامساً. النجوم مازالت تنظر إلى الأرض العجوز الدائرةِ في فلكٍ أسود، وعبر متاهات مجهولة. لا نور. الظلامُ يخيمُ على الأرض التي تموت بفعل الشيخوخة. ألقيتُ الكتاب جانباً، صدري مثقلٌ، والموت يخيّمُ على العالم..
أشعلت شمعة. وضعت «الركوة» على الغاز، ألقمته ناراً. فارت القهوة، سقطت قطراتٌ مسفوحة منها على يدي، احترقت يدي، شربتُ الكثيرَ من القهوةِ، لا أنام.
الأضواء الخافتة في المرفأ القريب تومئ لي تعال. والأشعة الوسنانة المنداحة من النجوم البعيدة تناديني، وأنا وحدي هنا على الشرفة، بدون كتاب، ولا نور، أسبح حزيناً مع أحلامي التائهة، وآلام جسدي المتعب. تحملني النجومُ عَبر الاجواء وتلقي بي عند الشاطئ.
بالأمس قلت لحبيبتي الشقراء أحبك! ضحكت واستلقت على المقعد المخملي. كل ما فيها يضحك... رأيت عنفها المشرئب كعنق حمامة بيضاء، وانكشف الثوب عن المنحدر الفاصل بين ثدييها... ذلك المنحنى الجميل ألهب خيالي، تصورته يمتدُ صدراً لا مثيل له، ترتفع فوقه زبيبة لم تعتصر بعد. غامت عيناي. رأيت نفسي ألتهم الزبيبةَ بفمٍ جائعٍ ممتصّاً رحيقَ المحبةِ النائمة لتفورَ إشراقاً ورغبة. ذهبت حبيبتي. أحسست الضياع من جديد. فتحت المذياع لأنسى ما أنا فيه. اعتداءات متكررة على الجنوب الدامي، المدنُ تقصفُ من الجو والبحر. عشرات القتلى والجرحى. حوادث عنف وقتل، المجاعات تعمّ قاراتٍ بأسرها. الأمراض تحصد المئات من الناس. الأشقاء يتصارعون على الحدود، يقتتلون، طائرات تسقط، الحرائق في كل مكان. الزلازل تدمر مدناً وقرى بكاملها... فيضانات، حروب، اغتيالات.
صديقي وأحبّه، انسان حقيقي وأب لكل ما هو رقيق وصحيح في هذا العالم، ومع هذا قتلوه. أطلقوا عليه النار، أخمدوا أنفاسه الطاهرة وإلى الأبد.
يدي تؤلمني. أحسّها تفيضُ ألماً، أندفع في العتمة، أتناول زجاجة شراب، أجرع منها كؤوساً، الكؤوس تحرق جوفي. أتذكر ما قاله لي الطبيب. الشراب يحرق أمعاءَك. يجب أن لا تأكل إلا القليل، أمنعك عن الحبوب والدهون والمشروبات الروحية الخ... كنت أوَدُّ أن أقول له، لم يبق شيء فاتركني أمتْ جوعاً. لم أقبل بنصائح طبيبي. ظللت أتناول كل ما منعه وبرغبة أكثر.. لا أدري لماذا؟
أسرعت إلى صنبور الماء وأدرته، لم يتدفق الماء كعادته. أحس الاختناق، عطشي شديد، لا أقوى على الصمود، يدلي تؤلماني، وفمي جاف.. أسرعت إلى الهاتف لأسأل شركة المياه عن سبب الانقطاع. كان الخطُّ صامتاً كميت.
النجوم ما تزال تتلألأ في كبد السماء. الحزن يعمّ الكون. العالم يبكي. النجوم تبكي. عشرات الشهداء يموتون كل يوم.. يموت الأبرياء، تسيل دماؤهم أنهاراً... يضرّجون وجهَ الشمس بما يسفحونه على الأرض. دماؤهم قانية كما الحقيقة. كما الطهر يستنزفُ.. كما البراءة تموت.
وأنظر إلى البعيد.. وآخر باخرة تودع الشاطئ الحزين. أرفع يدي تحية الوداع تهوي يدي تموت إلى جانبي. أعود إلى الفراش، أحاول النوم لا أستطيع. أسرع إلى صيدلية المنزل، أتناول بضع حبات، ومع هذا، لا أقوى على الرقاد. أعود إلى الشرفة وبودّي لو أشتمَ النجمَ والشواطئ والعالم. واجبي يحتّمُ على الصبر والانتظار. يطول الليل، ويطول العذاب، ولا ينتهي الغدرُ من العالم.
يدي تؤلمني.. أحسسها رصاصاً، حروقاً، إشعاعاً ذرياً.
يدي مثقلة بآلام العالم، والليل طويل، والعالم يحترق.
لا الحب يقف في وجه العالم المتردّي.. لا الفلسفة، لا الثقافة، ولا التاريخ.
صدري مثقَلٌ، أنتظر الفجر القادم ولعلّه أشدُّ ظلاماً من الفجرِ الراحلِ.
وأضمّك إلى صدري يا حبيبتي، أضمّكِ خيال عطاءٍ جارفٍ أنوف. ألتهمُ لذائذك كطفل مقدام شره.
وأتوه في عالم عطائك، فأنسى نفسي، وأنسى وجودي، وأنسى واقعي الحزين، وأدمن عشقك وكأسي. وأدمن الهروبَ الذي أنا فيه، خاصة عندما أحسّ أني مقصوصَ الجناح. فأنظرُ إلى النجومِ البعيدة تسبح ُفي فلك أسود.
.. وأطلّ الصباح كئيباً ككل صباح. يطلُّ بعد طولِ انتظار، تافهاً كما الحياة، وافتحُ المذياعً على أخبار الكوارثِ والقتل والزلازلِ والعنفِ وحرب الأشقاء. أُقفلُ المذياع أركض في طريقي إلى الطبيب المختص، فيدي ما زالت تؤلمني.. أجلس بين يدي طبيبي، لا أفهم ما يقول، أردد بصوت عالٍ:
- يدي تؤلمني.. وكفى..!
يرفع يدي، يُخفِضُها ثانيةً. ينظرُ في عيني. يسألني عن عمري وعملي وحياتي.. لا يدري أنني نسيتُ الزمن وعمري. توقّفَ في نقطةٍ محدودة. قام بواجبه كطبيب، كنت صامتاً، رفعَ صوته، أبدى رغبته بمصادقتي، سألني إن كنت أكتبُ، وأحبُّ، وأتناولُ الكحولً. كنتُ ذاهلاً عما يقول طبيبي... كنت أنتظر حبيبتي بعدَ دقائقَ معدوداتٍ، لكنّه كان مشاكساً هزّني بانفعالٍ قائلاً:
- يجب أن تترك الكتابةَ والشرابَ والحب!!
كان يشدّد على الكلمات المتدفقة من فيه اشعاراً لي بخطورة المرض وواجب التنفيذ.
هرولتُ فارّاً آخذاً السلم بخطوتين. أَيظنُ أن هجر القلم سهل لمن قضى العمر مسوّداً بياض الصفحات، وهل يعتقدُ أن هجرَ الحبيبةِ هيّنٌ لمن ومضَ قلبه نوراً في هيكل عطائها؟؟
يدي ما تزال تؤلمني، وقلبي ما يزال ينبضُ، وأنا وكأسي والقلم والحب وحده ضياع وشرود.
العالم المجنون ما يزال يقتتل، ويغتال، ويّدمر.. والأبرياء يتساقطون.... والكوارث تجتاح الدنيا.
ويدي ما تزال تؤلمني. وما أزال أحنُ لصدر حبيبتي، لكأسي وللهدوء والاطمئنان في مدينتي وفي العالم...
وأن أكتبَ وأكتبَ و أكتبُ... أن أملأَ كل الدفاتر البيضاء والأوراق البيضاء.