ثناء درويش - بالأبيض والأسود

علا صوتُ أمّ خالد تنادي على ابنِها ربما للمرّةِ العاشرةِ:
- خالد.. برضاي عليك يا حبيبي اتركْ آلةَ التصوير وتعالَ اجلسْ معنا، فالشاي كاد أن يبرد، ولحظاتُ الصفوِ لا تعوّض، إن ذهبتْ لا تعود.
- يا الله يا ماما، ها أنا آتٍ في الحال، فقط دعيني ألتقطُ بعضَ الصورِ لكِ ولجدّتي في ظلّ هذه الشجرةِ الوارفة، المنظرُ ساحرٌ، فكيف وأنتما فيه؟!
ذهبتْ نداءاتُ الأمّ أدراجَ الرياحِ، فقد كانَ خالدٌ منشغلاً عن بهجةِ اجتماعِ الأسرةِ في أحضانِ الطبيعةِ ببهجةٍ أخرى وهي هوايته التي أحبّها وتعلّقَ بها منذ نعومةِ أظفاره، فراحَ ينتقلُ بخفّةٍ ملتقطاً الصورَ بعينِ الفنّانِ مع تغييرِ زاويةِ الرؤيةِ من حينٍ لآخر، فيرصدُ أبسطَ حركاتِ أفرادِ الأسرةِ ويوثّق للذكرى تفاصيلَ المشوارِ، فالبعضُ كانَ يرقصُ، والآخرُ رفعَ عقيرتَه بالغناء غير آبهٍ للنشازِ في الصوتِ واللحنِ، فيما يتلاشى نداءُ من يقفُ قربَ موقدِ شوي اللحمِ يهوّي على الجمرِ طالباً من يريحهُ قليلاً، أما الأطفال فكانوا في شغلٍ شاغل، ضاعوا كبراعم في المرجِ الأخضر، وفرحهم الأكبر هو بُعدهم عن تنبيهاتِ الأمّهاتِ التي لا تنقطع.. بين لا ناهية كالمطرقةِ على الرأس، وفعلِ أمرٍ يغلّ كلّاً منهم كقماطِ الوليد.
كانت أمّ خالد سعيدةً جدّاً وسط أولادها وإخوتها وأخواتها وبشكل خاصّ لقبولِ أمّها التي جاوزتِ العقدَ السابعَ من العمر المجيء معهم في هذه النزهةِ للترويحِ عن النفسِ، فهي بركتُهم جميعاً كيفما وأينما كانوا، وراحت تتأمّل انفراجَ أساريرِها والتجاعيدَ التي خفّتْ بنسبة النصفِ، ونسيانَها وجعِ المفاصلِ، وتحمدُ اللهَ على نعمةِ أنها معهم، فكلّ فرحٍ ناقصٌ إن غابتْ.
أما خالدٌ فلم يقرّ له قرارٌ دائم الحركة بينهم لاختيارِ الزاويةِ الأنسبِ والإضاءةِ الأوضحِ في ابتسامةٍ لم تحجبْها الآلةُ السوداءُ عن قلبِ أمّه.
آه كم بقيتْ آلةُ التصويرِ هذه حلماً يداعبُ خياله، وكم كان عذابُ الأمّ كبيراً لعجزها عن أن تحقّقَ له حلمَه، ويزدادُ عذابها حين ترى نظراتِ الرغبةِ والحسدِ بعينيه كلما رأى واحدةً في يد أيّ شخص أو معروضةً على واجهة محلّ، بينما راتبها بالكاد يسدّ احتياجاتِ أولادها بعد وفاةِ والدهم.
لم تكن أمّ خالد تؤمنُ بقانونِ الجذب كثيراً، وتردّد دوماً أنّ إرادةَ الإنسانِ والصبرَ الجميلَ كفيلان بتحقيقِ أحلامنا، وما فيه خيرٌ يقدّمه الله لنا، لكنّ ما حدثَ معها بشكلٍ غير متوقّع جعلها لا تقطعُ بأمرٍ ما في وجود لا نعلمُ عنه شيئاً.
هكذا في يومٍ كبقية الأيام، تمضيه أمّ خالد مع أولادها في البيت برضاً مع الكثير من التعبِ المشوبِ بالحزنِ، يأتيها اتّصالٌ من مؤسسةِ البريدِ يدعوها لاستلامِ طردٍ مُرسلٍ إليها، وعبثاً حاولتْ أن تتكهّنَ نوعَ الطردِ ومن أرسله، لكنها لم تعرفْ للحظة فضّ الغلاف.. كانت كاميرا حديثةٌ بمواصفاتٍ عاليةِ الجودة، مع كلماتٍ مؤثّرةٍ من صديقٍ افتراضيّ لا تعرفُ عنه إلا طيبته وإنسانيته:
"أختي الكريمة قرأتُ على مدوّنتكِ منشوراً منذ فترة، فعلقتْ بقلبي جملةٌ عابرةٌ تفضحُ حسرتَكِ على ابنكِ وحلمهِ البسيطِ عسيرِ التحقيقِ على أمّ تنحصرُ همومُها في ألّا يباتُ أطفالُها جائعين..
أرجو أن تقبلي مني آلةَ التصويرِ هذه هديةً بلا مقابل ماديّ أو معنويّ، وحسبي أن أتخيّلَ فرحةَ ابنك الغامرةَ بها".
اليوم.. وبعد سنواتٍ من آخر صورةٍ التقطها خالد، تجلسُ الأمّ مع ألبومِ الصور، تبحثُ عنه في كلّ ما التقطهُ، فتتناوبُ الفصولُ على وجههِا، تبكي حيناً كشتاءٍ ماطرٍ وتبتسمُ حيناً كربيعٍ واعدٍ، وتتمنّى لو كانَ يومها هواتف محمولة مزودة بعدسة كاميرا تصوّر ما يدعى "سيلفي"، لكانت وجدتْ له صورةً أخذها لنفسه، لكن للأسف لا شيء إلا بعض الصورِ القديمةِ بالأبيض والأسود.
تغفو على دموعها وهي تتمتمُ:
خالد.. حبيبي.. أرسلْ لي صوراً حديثةً من غربتكَ التي طالتْ كثيراً، أم أنك الآن فقط.. تتذكّرُ دعوتي لك بأن تحيا، ولا تنشغلْ بالتصويرِ وتوثيقِ اللحظةِ، عن أن تحياها بسعادة!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى