خلَتْ (هُدَى) إلى نفسها تتدبّر أمرها وتزن ماضيها وحاضرها؛ كانت تشعر أنها قادمة على أمر ذي بال، وأَنها الساعةَ في مرحلةٍ بين مرحلتين من حياتها، وثَمّةَ طريقان عليها أن تختار أيَّهما تسلك؛ فإما إلى سعادةِ تُنسيها الماضي بما فيه من لذة ونشوة وسحر، وإما. . .
ولكنها لا تعرف السعادةَ إلا ما كانت فيه قَبل؛ فما هذا الجديد الذي يحاول أهلها أن يزيَّنوه لها ويحملوها عليه؟
الزواج! والبيت! والأسرة!
ما أجمل هذه الأسماء وألطفَ موقعَها من قلب كل فتاة! ولكن ما بال (هدَى) إذ تسمعها الساعةَ كأنما تَخِزها وخزَ السنان، فما تطرق أُذنَها إلا فارغةً من معناها أو معدولاً بها عنه، فليس لها في نفسها إلا معاني القلق والوحشة والحرمان!
أتراها وقد جاوزت العشرين لم تفكر في الزواج والبيت والأسرة قبل اليوم؟ بلى! ولكن. . .، ولو أن أحداً غير أبيها وأمها ألقى إليها هذه الكلمات قبْل، لكان لها معنى حقيقٌ بأن يسرَّها ويملأها سعادة ومرحاً؛ أعني لو أنه هو. . . ولكن، أين هو؟ وهل يدري. . .؟
وطارت خواطرها سريعاً إلى (ماجد) وتمثلتْه جالساً مجلسَه ينتظرها لموعدها الذي طالما التقيا فيه منذ سنواتِ. . . يتلفْت ويمدْ عينيه يَتنورَّها قادمةً من بعيد، فيلقاها مبتسماً ويبسط لها يمينه!
آه: ماذا تُراه يفعل حين يبلغه النبأ، فيعرف أن (هدى) لن توافيه لموعده منذ اليوم، ولن تلقاه، ولن يراها؛ لأن حياةً جديدة قد باعدت بينهما فلا سبيل إلى اللقاء!
ورانت على عينيها غشاوة من الدمع، وتدحرجت على خذها عبره؛ أَّمحى خياله من خيالها، ثم عاد، ورأته - كما نظرتْ في مرآتها - عابساً مقطِّباً، في جبينه ذلة المخذول وفي عينيه ذبول السهر ولهفة الحرمان!
وغلبتْها نفسُها فأرسلت عينيها، وأطرقتْ، وأصابعُها تعبث بمنديل بللته الدموع!
ورن جرس المِسرَّةَ، فهبْت واقفة كأنها من رنين الجرس على ميعاد، ثم ذكرتْ موقفَها، فقمعتْ في صدرها رغبة تختلج وعادت إلى مجلسها. لا ينبغي أن يسمع (ماجد) صوتها في المسرة بعد اليوم!
لم يَحسب ماجد وهدى حساباً لهذا اليوم من قبل، لوم يدُر في خاطر واحد منهما لحظة أن هذه الساعة آتية؛ لقد كانا من الحب في سكرة ذاهلة لا تدع لهما سبيلاً إلى الفكر والتدبير وتَوَقُّع ما لم يقع بعد. . . وفجأة تغيْر الموقف وكان ما لا بد أن يكون؛ وطرق الباب طارق مجهول يطلب يد هدى. . .
. . . وسأل أبوها وتقصَّى أمرَه، فرضِيَه لفتاته، ولكنه تلبِّث حتى يسمع رأيها، وسألها فلم تُجب، وفزعت إلى خلوتها تتدبَّر أمرها وتزن ماضيها وحاضرها، وتبكي. . .
أكانت تبكي حُباً لماجد أم شفقة عليه؟ مَن يدري؟ ولكنها ظلت تبكي؛ وماذا تملك أن تفعل غير البكاء؟
أتُراه يعرف؟ يا ليت. . .! إنه هو وحده الذي يستطيع أن يفعل أشياء كثيرة غير البكاء! لو أنه جاء الساعةَ يطلب يدها! إذن لاستطاعت أن يكون لها رأي، وأن يكون لرأيها اعتبار ومكان. . .!
ولكنه جالس مجلسه هناك، ينتظرها لموعدها؛ فَمَن له بأن يعرف؟ مَن له بأنه لن يرى هُدى بعدُ، ولن تراه؟
. . . أم تراه لو عرف يسرع إلى بابها فيزحم هذا الخاطبَ المجهول بما لَه من سَابقةٍ قريبة؛ فما مَنَعَه من ذلك قبلُ لو أنه كان يريد؟
. . . ومضت أيام قبل أن تعلن هدى رأيّها إلى أبيها؛ لقد حاولتْ في هذه الأيام أشياءً كثيرة ولكن محاولاتها جميعاً لم تستطيع أن تحمل فتاها على ما أرادتْ؛ ليت شعري أكان ذلك منه غباءً أم تغابياً؟
ولم تَجد الفتاةُ سبيلاً إلى الخلاص بعد، فرضيتْ!
لم تكن هدى من الغفلة بحيث تجهل أنها مقبلة على عهدٍ جديد ليس بينه وبين ماضيها سبب، وأن ذلك الماضي بما فيه من أماني وذكريات قد ذهب إلى غير رجعة؛ فإن هي لم تستطع أن تنزع من نفسها كل ما يربطها به، فقد ضلَّتْ وأَثِمتْ وبذلتْ ما لا تملك لمن لا يملك - فراحت من أول يوم تحاول أن تدفن ذلك الماضي في أعمق أغوار النسيان، فلا تدع سبباً يذكّرها به إلا أبعدته وعفَّتْ آثاره؛ فلا رسالة، ولا صورة، ولا جريدة فيها شيء من معناه أو معنى يتصل به إلا أحرقتها وأذْرَتْ رمادها، وحتى المخدع الذي كان يُلمّ بها طيفُه إذ تأوي إليه، لم تَدَعه في موضعه؛ والصورة التي تصوّرتها يوماً لتهديها إليه حين يطلبها - ولم يطلبها -، لم تُبقِ عليها؛ والمسرة التي طالما تحدث فيها إليها وتحدثت إليه في غفلة من أهلها وأهله، لم تحاولْ أن تمسك سمّاعتها بعدُ مرةً واحدة لتنادي أحداً أو تجيب نداء. . .
ولكن هدى مع كل ما فعلتْ وما غيِّرتْ من نظام حياتها كانت من أوهامها ووساوسها على حذر ورِقْبة، تخشى يوماً يستيقظ فيه ذلك الشبحُ الراقد في قلبها فيفسد عليها حياتها ويُزِلّها!
وتركتْ ما كانت فيه من أسباب اللهو ومتاع الشباب إلى الصلاة والعبادة، لعل الله أن يجدد لها السعادة ويهب لها السلوان؛ وجلست في مُصَلاَّها ورفعتْ يدين ضارعتين إلى الله تدعو: (يا ربّ! هذه طاقتي فيما أملك؛ فجنَّبني الإثم والخطأ فيما لا أملك!)
ولما حُدِّد يومُ العُرس بعد أيام، رَجَتْ أباها وخطيبَها أن يَنْسآ الأجل؛ فما تريد أن تذهب إلى زوجها إلا فارغة القلب له، مغسولة الصفحة من ذكريات الماضي جميعاً!. . .
وجلست هدى إلى خطيبها وجلس إليها، ورأتْ فتىً يستحق الحبَّ لو أنها تملكه؛ فمنحته الاحترام والطاعة!
وكثر لقاؤها خطيبَها، وطالت مجالسهما وطابت. وخلا إليها ذات مساء يحدثها وتحدثه، ومضى الحديثُ فنوناً، وكشف لها عن صدره ووضع بين يديها أمانيه؛ ونظر إليها بعينين صافيتين فيهما طهر وبراءة، ونظرت إليه فأغضَتْ من حياءِ، ونهضت معتذرة فأوت إلى مخدعها تبكي!
أرأيت دموع الندم في عيني فتاة قط!
لكأنما كانت تحاول أن تغسل بالدموع سرّاً أطلَّ عليه من عينيها حين نظرتْ ونظر، فلم ترقأ دمعتُها ليلتئذ!
ولما جلست إليه في الزورة التالية بعد أيام، حاولتْ أن تقول شيئاً ثم أمسكتْ؛ قلد خُيِّل للمسكينة أنها تستطيع أن تَتَخفّف من وقر ذلك الماضي الذي تثقل ذكراه على ضميرها لو باحتْ به بين يديه؛ ولكنها لم تقدر، فسكتتْ على ألم! وراحت الأيام تدنيهما قلباً إلى قلب وروحاً إلى روح حتى صفا الود بينهما، وتراءيا نفساً لنفس، وكشفت لها الأيام منه كنواً من الإخلاص والوفاء والرجولة؛ فمنحته الإعجاب إلى الاحترام والطاعة!
وأخذ الماضي يتلاشى من خيالها ويستتر في حجاب وراء حجاب من فضائل خطيبها، حتى نسيت؛ فلم يعد شيء من ذلك الماضي يلم بها أو يخطر لها، وأتست إلى حاضرها وسعدت به!
وصحبتْ زوجها إلى داره، والتقيا روحاً وجسداً وعاطفة، وثابت نفسها إلى الاطمئنان والرضى؛ فراحت تبذل لزوجها ما تستطيع أن تبذل وراح زوجها يبذل لها، ورفرف طائر السعادة على عشهما يغرَّد ألحانه. ومضى عام، وصار الاثنان ثلاثة؛ واجتمع شمل الأسرة السعيدة على الوفاء والحب والإيثار؛ وكما يشرق الصبح في أعقاب ليل داج فيغسل ظلماته بفيض من النور ويمسح على وجه السماء فإذا هي مشرقة تتألق - كذلك كان حاضرها من ماضيها، وتلفَّف الماضي في أكفانه ودفنته الأيام في أعمق أغوار النسيان!
ثم كان مساء، وكانت هدى تسابق طفلها في شارع خالٍ على شط النيل حين برز لها شبح فألقى ظلاله في طريقها ثم تراءى لها. وانبعث الماضي إنساناً حياً يحدق في وجهها بعينين فيهما ظمأ وجوع، وانطوى الزمان فكأن ما مر من سِنيه لم يكن إلا خفقة طرف سافرت فيها النفس ثم آبت؛ وطفت الذكريات الراسبة في أعمق الأغوار بسمات على الشفاه تختلج وتناجياً في العيون تتلاحظ؛ وهتف ماجد في هَمس: هُدى!
وهمَّتْ هدى أن تجيب النداء فما أطاقت، ورانت على عينيها غشاوة من الدمع، ودار رأسها فأوشكت أن تسقط، فاستندت إلى جذع شجرة قائمة وأغمضت عينيها، وتعاقبت على الواعية الباطنة صورٌ وذكريات، وخيل إليها أن أصواتاً كثيرة تهتف بها، وأن متكلما يتكلم ويسأل ويجيب ولا سميع، وأفاقت على صوت ناعم يناديها ويجذب ثوبها: ماما! ماما! أنا سبقتك!
وانحنت على طفلها فحملته بين ذراعيها وكرت راجعة، وأوت إلى مخدعها تبكي!
وكعهدها في ليلةٍ منذ سنوات - كانت في تلك الليلة؛ وخلت إلى نفسها تتدبر أمرها وتزن ماضيها وحاضرها؛ وشعرت كما شعرت مرة من قبل، أنها قادمة على أمر ذي بال، وأنها الساعة في مرحلة بين مرحلتين من حياتها؛ ولكنها هذه المرة لم تكن في شك من الطريق الذي ينبغي أن تسلكه وإن كانت تطأ فيه الشوك وتدوس على الجمر!
ودنا الطفل من أمه وعلى شفتيه كلمة صامتة وفي عينيه سؤال. . .
ومدت أمه إليه يداً فضمته إلى صدرها وانحنت عليه وراحت تبكي بلا دموع!
(يا ولدي!. . .)
ولم تتم حديثها! ترى بماذا كانت تريد أن تحدث طفلها؟ أتراها كانت تريد أن تتخفف من ثقل يئودها فتفضي إليه بالسر الذي عجزت من الإفضاء به إلى أبيه. . .
وذكرت الرجل الذي وضع أمانيه بين يديها وأخلص لها؛ لقد منحته من نفسها الاحترام والطاعة حين عجزت أن تمنحه الحب؛ ولقد خُيل إليها في فترة من حياتها أنها تحبه؛ فما بالها اليوم قد صبأت حين ذكرت ذلك الماضي الذي كانت تظنه قد غاب في مَدْرَجة النسيان؟
وتعاقبت الأيام، وهُدى من داء قلبها في همٍّ واصب، والزوج يرى ويحس ولا يكاد يدري، والطفل يذبل ويذوي عوده؛ إذ كانت أمه في شغل عنه بما تصارع في نفسها مِن هم!
وعاد الزوج إلى الدار ذات مساء ومعه ضيف. . . وكان الماضي طيفاً يُلمّ فعاد ضيفاً يزور!
واستقبلته هدى بشعور بين الأنس والوحشة، واتخذت مجلسها بإزاء الرجلين اللذين فرض عليها القدر أن تكون منهما بين شِقَّي مقصَ لا يجتمعان إلا على فرقة وشتات!
ونهض الزوج لبعض شأنه، فهمَّت أن تلحقه حين ناداها ماجد، ونظر إليها ونظرتْ؛ وكان في عينيه نظرة ضارعةٌ، وفي عينيها نظرةُ تساؤل، وتحركت شفتاه هامساً: (هدى! لقد التقينا أخيراً. . .)
وفي نبرة صارمة متكبرة أجابته ووجهها إلى الباب: (خيرٌ ألا تعود. . .!)
ولما خلت إلى نفسها بعدُ ومَثَلَتْ صورته في خيالها، كان رجلاً لآخر غير مَن كان؛ بلى، إنها كانت تحبه، وكانت تحفظ له في أعماقها أجملَ الذكرى، ولكنها لم تعرفه على حقيقته إلا الساعة؛ لقد كانت له يوماً بقلبها وعواطفها تحفظ له غَيْبَه ومَشْهده؛ فما له يحاول اليومَ أن يكون له منها غَيْب ومشهد؟ أتراه لم يصحب زوجها إلى داره إلا ليقول لها في همس: (هدى! لقد التقينا أخيراً. . .) أم تراه يحاول أن يُزِلَّها بالمكر والخديعة لتمنحه في غفلةٍ من زوجها بعضَ ما لا تملك!
ونبذتْهُ مذ عرفتْه وسقط من حسابها، وتحطم التمثالُ الجميل الذي أقامتْه في قلبها تقدْسه وتتعبّد له؛ ومحت كلمةٌ من شفتيه ما لم تمحه السنون من ذكريات الماضي فصار هباءً وعاد كما بدا!
ووازنتْ بين رجلٍ ورجل فشالت موازينُ ورجعتْ موازين، وانجابت الغشاوة عن عينيها فبعد لأيّ ما أبصرتْ، وعرفتْ. . .
. . . وشيعه زوجها إلى الباب وقفل إليها كأنه عائد من سفر طويل، ودفنت وجهها في صدره لتذرف آخر دمعةٍ على الماضي الذي ذهب ولن يعود؛ ورفعت إليه عينين مخضلَّتين بالدمع وعلى شفتيها كلمة حب لم يسمعها قط ولم تقلها منذ أظلمها سقف.
وكأنما كان قلبها في سجنٍ فحطّم أقفالَه وانطلق، وبدأ الحب يكتب تاريخاً جديداً في صفحة بيضاء!
محمد سعيد العريان
مجلة الرسالة - العدد 368
بتاريخ: 22 - 07 - 1940
ولكنها لا تعرف السعادةَ إلا ما كانت فيه قَبل؛ فما هذا الجديد الذي يحاول أهلها أن يزيَّنوه لها ويحملوها عليه؟
الزواج! والبيت! والأسرة!
ما أجمل هذه الأسماء وألطفَ موقعَها من قلب كل فتاة! ولكن ما بال (هدَى) إذ تسمعها الساعةَ كأنما تَخِزها وخزَ السنان، فما تطرق أُذنَها إلا فارغةً من معناها أو معدولاً بها عنه، فليس لها في نفسها إلا معاني القلق والوحشة والحرمان!
أتراها وقد جاوزت العشرين لم تفكر في الزواج والبيت والأسرة قبل اليوم؟ بلى! ولكن. . .، ولو أن أحداً غير أبيها وأمها ألقى إليها هذه الكلمات قبْل، لكان لها معنى حقيقٌ بأن يسرَّها ويملأها سعادة ومرحاً؛ أعني لو أنه هو. . . ولكن، أين هو؟ وهل يدري. . .؟
وطارت خواطرها سريعاً إلى (ماجد) وتمثلتْه جالساً مجلسَه ينتظرها لموعدها الذي طالما التقيا فيه منذ سنواتِ. . . يتلفْت ويمدْ عينيه يَتنورَّها قادمةً من بعيد، فيلقاها مبتسماً ويبسط لها يمينه!
آه: ماذا تُراه يفعل حين يبلغه النبأ، فيعرف أن (هدى) لن توافيه لموعده منذ اليوم، ولن تلقاه، ولن يراها؛ لأن حياةً جديدة قد باعدت بينهما فلا سبيل إلى اللقاء!
ورانت على عينيها غشاوة من الدمع، وتدحرجت على خذها عبره؛ أَّمحى خياله من خيالها، ثم عاد، ورأته - كما نظرتْ في مرآتها - عابساً مقطِّباً، في جبينه ذلة المخذول وفي عينيه ذبول السهر ولهفة الحرمان!
وغلبتْها نفسُها فأرسلت عينيها، وأطرقتْ، وأصابعُها تعبث بمنديل بللته الدموع!
ورن جرس المِسرَّةَ، فهبْت واقفة كأنها من رنين الجرس على ميعاد، ثم ذكرتْ موقفَها، فقمعتْ في صدرها رغبة تختلج وعادت إلى مجلسها. لا ينبغي أن يسمع (ماجد) صوتها في المسرة بعد اليوم!
لم يَحسب ماجد وهدى حساباً لهذا اليوم من قبل، لوم يدُر في خاطر واحد منهما لحظة أن هذه الساعة آتية؛ لقد كانا من الحب في سكرة ذاهلة لا تدع لهما سبيلاً إلى الفكر والتدبير وتَوَقُّع ما لم يقع بعد. . . وفجأة تغيْر الموقف وكان ما لا بد أن يكون؛ وطرق الباب طارق مجهول يطلب يد هدى. . .
. . . وسأل أبوها وتقصَّى أمرَه، فرضِيَه لفتاته، ولكنه تلبِّث حتى يسمع رأيها، وسألها فلم تُجب، وفزعت إلى خلوتها تتدبَّر أمرها وتزن ماضيها وحاضرها، وتبكي. . .
أكانت تبكي حُباً لماجد أم شفقة عليه؟ مَن يدري؟ ولكنها ظلت تبكي؛ وماذا تملك أن تفعل غير البكاء؟
أتُراه يعرف؟ يا ليت. . .! إنه هو وحده الذي يستطيع أن يفعل أشياء كثيرة غير البكاء! لو أنه جاء الساعةَ يطلب يدها! إذن لاستطاعت أن يكون لها رأي، وأن يكون لرأيها اعتبار ومكان. . .!
ولكنه جالس مجلسه هناك، ينتظرها لموعدها؛ فَمَن له بأن يعرف؟ مَن له بأنه لن يرى هُدى بعدُ، ولن تراه؟
. . . أم تراه لو عرف يسرع إلى بابها فيزحم هذا الخاطبَ المجهول بما لَه من سَابقةٍ قريبة؛ فما مَنَعَه من ذلك قبلُ لو أنه كان يريد؟
. . . ومضت أيام قبل أن تعلن هدى رأيّها إلى أبيها؛ لقد حاولتْ في هذه الأيام أشياءً كثيرة ولكن محاولاتها جميعاً لم تستطيع أن تحمل فتاها على ما أرادتْ؛ ليت شعري أكان ذلك منه غباءً أم تغابياً؟
ولم تَجد الفتاةُ سبيلاً إلى الخلاص بعد، فرضيتْ!
لم تكن هدى من الغفلة بحيث تجهل أنها مقبلة على عهدٍ جديد ليس بينه وبين ماضيها سبب، وأن ذلك الماضي بما فيه من أماني وذكريات قد ذهب إلى غير رجعة؛ فإن هي لم تستطع أن تنزع من نفسها كل ما يربطها به، فقد ضلَّتْ وأَثِمتْ وبذلتْ ما لا تملك لمن لا يملك - فراحت من أول يوم تحاول أن تدفن ذلك الماضي في أعمق أغوار النسيان، فلا تدع سبباً يذكّرها به إلا أبعدته وعفَّتْ آثاره؛ فلا رسالة، ولا صورة، ولا جريدة فيها شيء من معناه أو معنى يتصل به إلا أحرقتها وأذْرَتْ رمادها، وحتى المخدع الذي كان يُلمّ بها طيفُه إذ تأوي إليه، لم تَدَعه في موضعه؛ والصورة التي تصوّرتها يوماً لتهديها إليه حين يطلبها - ولم يطلبها -، لم تُبقِ عليها؛ والمسرة التي طالما تحدث فيها إليها وتحدثت إليه في غفلة من أهلها وأهله، لم تحاولْ أن تمسك سمّاعتها بعدُ مرةً واحدة لتنادي أحداً أو تجيب نداء. . .
ولكن هدى مع كل ما فعلتْ وما غيِّرتْ من نظام حياتها كانت من أوهامها ووساوسها على حذر ورِقْبة، تخشى يوماً يستيقظ فيه ذلك الشبحُ الراقد في قلبها فيفسد عليها حياتها ويُزِلّها!
وتركتْ ما كانت فيه من أسباب اللهو ومتاع الشباب إلى الصلاة والعبادة، لعل الله أن يجدد لها السعادة ويهب لها السلوان؛ وجلست في مُصَلاَّها ورفعتْ يدين ضارعتين إلى الله تدعو: (يا ربّ! هذه طاقتي فيما أملك؛ فجنَّبني الإثم والخطأ فيما لا أملك!)
ولما حُدِّد يومُ العُرس بعد أيام، رَجَتْ أباها وخطيبَها أن يَنْسآ الأجل؛ فما تريد أن تذهب إلى زوجها إلا فارغة القلب له، مغسولة الصفحة من ذكريات الماضي جميعاً!. . .
وجلست هدى إلى خطيبها وجلس إليها، ورأتْ فتىً يستحق الحبَّ لو أنها تملكه؛ فمنحته الاحترام والطاعة!
وكثر لقاؤها خطيبَها، وطالت مجالسهما وطابت. وخلا إليها ذات مساء يحدثها وتحدثه، ومضى الحديثُ فنوناً، وكشف لها عن صدره ووضع بين يديها أمانيه؛ ونظر إليها بعينين صافيتين فيهما طهر وبراءة، ونظرت إليه فأغضَتْ من حياءِ، ونهضت معتذرة فأوت إلى مخدعها تبكي!
أرأيت دموع الندم في عيني فتاة قط!
لكأنما كانت تحاول أن تغسل بالدموع سرّاً أطلَّ عليه من عينيها حين نظرتْ ونظر، فلم ترقأ دمعتُها ليلتئذ!
ولما جلست إليه في الزورة التالية بعد أيام، حاولتْ أن تقول شيئاً ثم أمسكتْ؛ قلد خُيِّل للمسكينة أنها تستطيع أن تَتَخفّف من وقر ذلك الماضي الذي تثقل ذكراه على ضميرها لو باحتْ به بين يديه؛ ولكنها لم تقدر، فسكتتْ على ألم! وراحت الأيام تدنيهما قلباً إلى قلب وروحاً إلى روح حتى صفا الود بينهما، وتراءيا نفساً لنفس، وكشفت لها الأيام منه كنواً من الإخلاص والوفاء والرجولة؛ فمنحته الإعجاب إلى الاحترام والطاعة!
وأخذ الماضي يتلاشى من خيالها ويستتر في حجاب وراء حجاب من فضائل خطيبها، حتى نسيت؛ فلم يعد شيء من ذلك الماضي يلم بها أو يخطر لها، وأتست إلى حاضرها وسعدت به!
وصحبتْ زوجها إلى داره، والتقيا روحاً وجسداً وعاطفة، وثابت نفسها إلى الاطمئنان والرضى؛ فراحت تبذل لزوجها ما تستطيع أن تبذل وراح زوجها يبذل لها، ورفرف طائر السعادة على عشهما يغرَّد ألحانه. ومضى عام، وصار الاثنان ثلاثة؛ واجتمع شمل الأسرة السعيدة على الوفاء والحب والإيثار؛ وكما يشرق الصبح في أعقاب ليل داج فيغسل ظلماته بفيض من النور ويمسح على وجه السماء فإذا هي مشرقة تتألق - كذلك كان حاضرها من ماضيها، وتلفَّف الماضي في أكفانه ودفنته الأيام في أعمق أغوار النسيان!
ثم كان مساء، وكانت هدى تسابق طفلها في شارع خالٍ على شط النيل حين برز لها شبح فألقى ظلاله في طريقها ثم تراءى لها. وانبعث الماضي إنساناً حياً يحدق في وجهها بعينين فيهما ظمأ وجوع، وانطوى الزمان فكأن ما مر من سِنيه لم يكن إلا خفقة طرف سافرت فيها النفس ثم آبت؛ وطفت الذكريات الراسبة في أعمق الأغوار بسمات على الشفاه تختلج وتناجياً في العيون تتلاحظ؛ وهتف ماجد في هَمس: هُدى!
وهمَّتْ هدى أن تجيب النداء فما أطاقت، ورانت على عينيها غشاوة من الدمع، ودار رأسها فأوشكت أن تسقط، فاستندت إلى جذع شجرة قائمة وأغمضت عينيها، وتعاقبت على الواعية الباطنة صورٌ وذكريات، وخيل إليها أن أصواتاً كثيرة تهتف بها، وأن متكلما يتكلم ويسأل ويجيب ولا سميع، وأفاقت على صوت ناعم يناديها ويجذب ثوبها: ماما! ماما! أنا سبقتك!
وانحنت على طفلها فحملته بين ذراعيها وكرت راجعة، وأوت إلى مخدعها تبكي!
وكعهدها في ليلةٍ منذ سنوات - كانت في تلك الليلة؛ وخلت إلى نفسها تتدبر أمرها وتزن ماضيها وحاضرها؛ وشعرت كما شعرت مرة من قبل، أنها قادمة على أمر ذي بال، وأنها الساعة في مرحلة بين مرحلتين من حياتها؛ ولكنها هذه المرة لم تكن في شك من الطريق الذي ينبغي أن تسلكه وإن كانت تطأ فيه الشوك وتدوس على الجمر!
ودنا الطفل من أمه وعلى شفتيه كلمة صامتة وفي عينيه سؤال. . .
ومدت أمه إليه يداً فضمته إلى صدرها وانحنت عليه وراحت تبكي بلا دموع!
(يا ولدي!. . .)
ولم تتم حديثها! ترى بماذا كانت تريد أن تحدث طفلها؟ أتراها كانت تريد أن تتخفف من ثقل يئودها فتفضي إليه بالسر الذي عجزت من الإفضاء به إلى أبيه. . .
وذكرت الرجل الذي وضع أمانيه بين يديها وأخلص لها؛ لقد منحته من نفسها الاحترام والطاعة حين عجزت أن تمنحه الحب؛ ولقد خُيل إليها في فترة من حياتها أنها تحبه؛ فما بالها اليوم قد صبأت حين ذكرت ذلك الماضي الذي كانت تظنه قد غاب في مَدْرَجة النسيان؟
وتعاقبت الأيام، وهُدى من داء قلبها في همٍّ واصب، والزوج يرى ويحس ولا يكاد يدري، والطفل يذبل ويذوي عوده؛ إذ كانت أمه في شغل عنه بما تصارع في نفسها مِن هم!
وعاد الزوج إلى الدار ذات مساء ومعه ضيف. . . وكان الماضي طيفاً يُلمّ فعاد ضيفاً يزور!
واستقبلته هدى بشعور بين الأنس والوحشة، واتخذت مجلسها بإزاء الرجلين اللذين فرض عليها القدر أن تكون منهما بين شِقَّي مقصَ لا يجتمعان إلا على فرقة وشتات!
ونهض الزوج لبعض شأنه، فهمَّت أن تلحقه حين ناداها ماجد، ونظر إليها ونظرتْ؛ وكان في عينيه نظرة ضارعةٌ، وفي عينيها نظرةُ تساؤل، وتحركت شفتاه هامساً: (هدى! لقد التقينا أخيراً. . .)
وفي نبرة صارمة متكبرة أجابته ووجهها إلى الباب: (خيرٌ ألا تعود. . .!)
ولما خلت إلى نفسها بعدُ ومَثَلَتْ صورته في خيالها، كان رجلاً لآخر غير مَن كان؛ بلى، إنها كانت تحبه، وكانت تحفظ له في أعماقها أجملَ الذكرى، ولكنها لم تعرفه على حقيقته إلا الساعة؛ لقد كانت له يوماً بقلبها وعواطفها تحفظ له غَيْبَه ومَشْهده؛ فما له يحاول اليومَ أن يكون له منها غَيْب ومشهد؟ أتراه لم يصحب زوجها إلى داره إلا ليقول لها في همس: (هدى! لقد التقينا أخيراً. . .) أم تراه يحاول أن يُزِلَّها بالمكر والخديعة لتمنحه في غفلةٍ من زوجها بعضَ ما لا تملك!
ونبذتْهُ مذ عرفتْه وسقط من حسابها، وتحطم التمثالُ الجميل الذي أقامتْه في قلبها تقدْسه وتتعبّد له؛ ومحت كلمةٌ من شفتيه ما لم تمحه السنون من ذكريات الماضي فصار هباءً وعاد كما بدا!
ووازنتْ بين رجلٍ ورجل فشالت موازينُ ورجعتْ موازين، وانجابت الغشاوة عن عينيها فبعد لأيّ ما أبصرتْ، وعرفتْ. . .
. . . وشيعه زوجها إلى الباب وقفل إليها كأنه عائد من سفر طويل، ودفنت وجهها في صدره لتذرف آخر دمعةٍ على الماضي الذي ذهب ولن يعود؛ ورفعت إليه عينين مخضلَّتين بالدمع وعلى شفتيها كلمة حب لم يسمعها قط ولم تقلها منذ أظلمها سقف.
وكأنما كان قلبها في سجنٍ فحطّم أقفالَه وانطلق، وبدأ الحب يكتب تاريخاً جديداً في صفحة بيضاء!
محمد سعيد العريان
مجلة الرسالة - العدد 368
بتاريخ: 22 - 07 - 1940