كانت هُرَيْرة ومُلَيْكَة وقُتَيْلَة، القَيْنات الفاتنات اللاتي سلطهن النضْر ابن الحارث على مرثد الخير، تصنعن مائدة كثيرة الألوان. فلقد أمرهن سيدهن باستدراج مرثد الخير في هذه الليلة، فقال لهـن: ”إنه أحد الصُّبَّاة من حاج اليمن، يدعى مرثد الخير بن حناطة الحميري، وهو رجل طويل متمدد بيِّنُ الجُعودة نحاسي اللون. ادعينه إلى الصبا وأطعمنه، وأسقينه، وتغنين له حتى لا يبقى له ميل إلى دعوة محمد!“ بثثن الفرش المزينة بالوشي والألوان المختلفة، ورفعن سريرا نثرن عليه الوسائد، ووضعن بقربه خوانا رفعن فوقه دَنًّا مقطوع الرأس على نصائبه، فيه صهباء مما عتَّقت بَابِل، ووضعن أمامه إبريقا أبيض لمَّاعا في فوهته إكليل من الريحان، وقد طابت رائحته مما عليه من طيب. وبين الدّن والإبريق جرة ضخمة ملأى بالماء. أترعت هُرَيْرَةُ كوبا فطفا الزبد فوقه. وضعت على الخوان صفاحا فيها الخل والأبزار والتوابل وصفيف الشواء. أشعلن البخور والطيب، فاصَّاعدت الدواخن اللطيفة في أنحاء القبة، تشقها أشعة شمس الأصيل المتسللة، فترتفع الأبخرة في الهباء المُنْبثِّ. قالت هُريرة وهي تشد حزامها على خصرها الدقيق:
- قُتَيْلَة تذوَّقي الصَّهْباء!
- ويحك يا هريرة! خففي على نفسك! فصاحبنا الليلة من أعراب اليمن الجفاة، ولن يميز القهوة الـمُزَّة من صهباء بابل المعَتَّقة!
- ويحك! ألا يجعلنا ذلك نسقيه مما لم يطعم قط؟!
قالتها هريرة وهي تضع في أركان القبة مصابيح قوية الفتيلة. مالت إلى الخوان وهي تَرنَّم بمطْروفةِ لم تُشَدَّد... سُمع طنين يقترب من القبة، فصاحت مُلَيْكة:
- ها هو محمود قد أقبل، وما أخفَّ خطاه! يمر خلف القاعد، مع عظم بدنه، فلا يشعر بوطئه ولا يحس بسيره... أين هي الجرار؟ أدخل يا محمود، لقد تأخرت عنا اليوم، نفد الماء عندنا!
رد عليها محمود بصوت ضئيل، وهو ينثني ليدخل قائلا:
- ذلك لأنني اليوم كنت أهدي...
أقبل كالطود، لكن بخطوٍ خفيف، وهو عار إلا من إزار قصير من جلد نِيءٍ. كان يحمل قربة في كل منكب وأخرى تتدلى من ساعده، وفي جناحه الأيسر طستات وأباريق نُظمت في السلاسل.
- تهدي؟! – قالتها مليكة بنبرة استهزاء وهي تضحك– حتى أنت يا محمود تسوق الهدي؟! ولأي الآلهة أهديت؟
لم يجبها محمود لتوه، كان منبهرا بما يراه حوله، يجول نظره، يُحَمْلق بعينيه الصغيرتين. أذناه العريضتان كفضل الثوب، منتشرتان على كتفيه، تحفان رأسه الصغير؛ أنفه طويل، رِخْوٌ كالخرطوم، يرفعه في السماء ويصرفه كيف يشاء. كان أجرد كالحصن، رحيب الجوف، قصير النعلين والعنق، مشرف اللحي، أفقم، طويل النابين أعقفهما، جاسئ الجلد، فاحش القبح.
- محمود! لم تجبني قل لي لأي الآلهة أهديت؟
نظر إليها نظرة مَلِك عظيم الكِبْر، راجح الحلم:
- أهديتُ لله! قالها وهو يصب الماء في الجرار.
- نعم، ولكن لأي الآلهة؟
- أعوذ بالله من أن أذبح على النصب!
- صابئ ورب الكعبة! صرخت بها قُتَيْلَةُ في استغراب.
قالت مليكة:
- أنت أيضا يا محمود؟! والله لأخبرن بها سيدي!
ثم سألته بفضولية:
- وماذا سُقْتَ؟ كبشا أقرن أم بَدَنَةً؟
- سُقتُ دَوْحَةً...
- دوحة؟! هل تهزأ بي يا محمود؟!
- لا مَكْذوبة! أهديت دوحة تفوح صمغا كنت غرستها في نَمِرة منذ دهر. لما كنت لا أطعم إلا أوراق الأشجار، كان لزاما علي أن لا أهدي إلا شجرة. دوْحتي التي غرست في نمرة هي كالنَّعَم الذي يُساق من الحل للهدي، غير الوحوش والسِّباع...
- لكن أين هو الدم المهراق؟
- دم أو صمغ لا يهم! فالذي ينال الله هو التقوى منا...
- أما واللات والعزى ما سمعت أغرب من حديث صاحبكِ هذا يا مليكة!
بعد ما فرغ محمود من ملء الجرار، هم بالخروج. فقالت له مُلَيْكَة:
- عد إلي ليلة غد فسأريك عجبا!
- إذا أمكنني ذلك...
- كن عندي وإلا لقيتك بِهِرٍّ شِرِّير!
- أمركِ! أمركِ! لا تفعلي أناشدك! سأكون معك، أفعل ما شئت!
خرج مسرعا يشيعه الطنين والصليل والقلقلة. قالت قُتيلة:
- وَيْحَك يا مليكة! مالك تراودين هذا المشوَّه عن نفسه؟!
- لا تزدريه! إنه والله مع ضخمه لهو أملح وأظرف داجِّ منى، يفوق في ذلك كل خفيف الجسم رشيق الطبيعة...
- لماذا دعوته ليلة غد؟
- لا أريده لنفسي، أريده لنوْمَةِ الضُّحى...
- ويحك! نومة الضحى مع محمود؟!
- كل زَواني مكة يأتين إلى منى في طلبه. فأمر محمود عجيب! فهو إن جامعك ولو مرة واحدة، فلن تحملي تلك السنة ولو وطئك الرجال كلهم! يصيح من أنفه عند الجماع ويعرق عرقا غليظا غير سائل يكون أطيب رائحة من المسك، وموضع ذلك الينبوع في جبينه. فعرقه هذا تجتنيه المومسات وتجعلنه على بعض الأدهان، فيكون أغلى طيبهن، والمستطرف عندهن. ويستعملنه لطيب الرائحة والتجمل، واستعماله يُظهر الشبق من الرجال والنساء وطلب الباه والاغتلام والطرب والنشاط والأريحية. وأكثر ما يغزر هذا العرق في جبين محمود في حال اغتلامه وهيجانه...
- وما الذي يمنع نومة الضحى من أن تستقدمه إلى مكة؟
- لأن محمودا يرفض دائما الذهاب إلى مكة ويبقى في منى، لا يجوزها إلا باتجاه مُحَسِّرٍ...
النهاية
- قُتَيْلَة تذوَّقي الصَّهْباء!
- ويحك يا هريرة! خففي على نفسك! فصاحبنا الليلة من أعراب اليمن الجفاة، ولن يميز القهوة الـمُزَّة من صهباء بابل المعَتَّقة!
- ويحك! ألا يجعلنا ذلك نسقيه مما لم يطعم قط؟!
قالتها هريرة وهي تضع في أركان القبة مصابيح قوية الفتيلة. مالت إلى الخوان وهي تَرنَّم بمطْروفةِ لم تُشَدَّد... سُمع طنين يقترب من القبة، فصاحت مُلَيْكة:
- ها هو محمود قد أقبل، وما أخفَّ خطاه! يمر خلف القاعد، مع عظم بدنه، فلا يشعر بوطئه ولا يحس بسيره... أين هي الجرار؟ أدخل يا محمود، لقد تأخرت عنا اليوم، نفد الماء عندنا!
رد عليها محمود بصوت ضئيل، وهو ينثني ليدخل قائلا:
- ذلك لأنني اليوم كنت أهدي...
أقبل كالطود، لكن بخطوٍ خفيف، وهو عار إلا من إزار قصير من جلد نِيءٍ. كان يحمل قربة في كل منكب وأخرى تتدلى من ساعده، وفي جناحه الأيسر طستات وأباريق نُظمت في السلاسل.
- تهدي؟! – قالتها مليكة بنبرة استهزاء وهي تضحك– حتى أنت يا محمود تسوق الهدي؟! ولأي الآلهة أهديت؟
لم يجبها محمود لتوه، كان منبهرا بما يراه حوله، يجول نظره، يُحَمْلق بعينيه الصغيرتين. أذناه العريضتان كفضل الثوب، منتشرتان على كتفيه، تحفان رأسه الصغير؛ أنفه طويل، رِخْوٌ كالخرطوم، يرفعه في السماء ويصرفه كيف يشاء. كان أجرد كالحصن، رحيب الجوف، قصير النعلين والعنق، مشرف اللحي، أفقم، طويل النابين أعقفهما، جاسئ الجلد، فاحش القبح.
- محمود! لم تجبني قل لي لأي الآلهة أهديت؟
نظر إليها نظرة مَلِك عظيم الكِبْر، راجح الحلم:
- أهديتُ لله! قالها وهو يصب الماء في الجرار.
- نعم، ولكن لأي الآلهة؟
- أعوذ بالله من أن أذبح على النصب!
- صابئ ورب الكعبة! صرخت بها قُتَيْلَةُ في استغراب.
قالت مليكة:
- أنت أيضا يا محمود؟! والله لأخبرن بها سيدي!
ثم سألته بفضولية:
- وماذا سُقْتَ؟ كبشا أقرن أم بَدَنَةً؟
- سُقتُ دَوْحَةً...
- دوحة؟! هل تهزأ بي يا محمود؟!
- لا مَكْذوبة! أهديت دوحة تفوح صمغا كنت غرستها في نَمِرة منذ دهر. لما كنت لا أطعم إلا أوراق الأشجار، كان لزاما علي أن لا أهدي إلا شجرة. دوْحتي التي غرست في نمرة هي كالنَّعَم الذي يُساق من الحل للهدي، غير الوحوش والسِّباع...
- لكن أين هو الدم المهراق؟
- دم أو صمغ لا يهم! فالذي ينال الله هو التقوى منا...
- أما واللات والعزى ما سمعت أغرب من حديث صاحبكِ هذا يا مليكة!
بعد ما فرغ محمود من ملء الجرار، هم بالخروج. فقالت له مُلَيْكَة:
- عد إلي ليلة غد فسأريك عجبا!
- إذا أمكنني ذلك...
- كن عندي وإلا لقيتك بِهِرٍّ شِرِّير!
- أمركِ! أمركِ! لا تفعلي أناشدك! سأكون معك، أفعل ما شئت!
خرج مسرعا يشيعه الطنين والصليل والقلقلة. قالت قُتيلة:
- وَيْحَك يا مليكة! مالك تراودين هذا المشوَّه عن نفسه؟!
- لا تزدريه! إنه والله مع ضخمه لهو أملح وأظرف داجِّ منى، يفوق في ذلك كل خفيف الجسم رشيق الطبيعة...
- لماذا دعوته ليلة غد؟
- لا أريده لنفسي، أريده لنوْمَةِ الضُّحى...
- ويحك! نومة الضحى مع محمود؟!
- كل زَواني مكة يأتين إلى منى في طلبه. فأمر محمود عجيب! فهو إن جامعك ولو مرة واحدة، فلن تحملي تلك السنة ولو وطئك الرجال كلهم! يصيح من أنفه عند الجماع ويعرق عرقا غليظا غير سائل يكون أطيب رائحة من المسك، وموضع ذلك الينبوع في جبينه. فعرقه هذا تجتنيه المومسات وتجعلنه على بعض الأدهان، فيكون أغلى طيبهن، والمستطرف عندهن. ويستعملنه لطيب الرائحة والتجمل، واستعماله يُظهر الشبق من الرجال والنساء وطلب الباه والاغتلام والطرب والنشاط والأريحية. وأكثر ما يغزر هذا العرق في جبين محمود في حال اغتلامه وهيجانه...
- وما الذي يمنع نومة الضحى من أن تستقدمه إلى مكة؟
- لأن محمودا يرفض دائما الذهاب إلى مكة ويبقى في منى، لا يجوزها إلا باتجاه مُحَسِّرٍ...
النهاية