كرم الصباغ - هواء راكد...

اقتحمتْ الغرفة المعتمة بجموحٍ. كان الهواء راكدًا، وكان زوجها كعادته يلوذ بنومه الثَّقيل. سارعتْ إلى فتح الشُّبَّاكِ؛ فتدفَّق تيارٌ من الهواء الطلق داخلَ الغرفة، بينما غمرتْ أشعةُ الشَّمس الأرجاء الرَّطبة، والفراش البارد، وَسُرعانَ ما لفح حرُّ الشَّمس وجهَ الزَّوج؛ فتململ في فراشه، وهبَّ من نومه مغمغمًا، وراح يزفر بحنقٍ، وأخذ يتلفَّتُ حوله، كأنَّما كان في حيرةٍ من أمره، لا يدري أيصبُّ جام غضبه على الشمس، أم على زوجته، الَّتي نغَّصتْ عليه منامه. خرجتْ بعض العبارات السَّاخطة من فمه ملتهبةً كسهام النَّار، ولَمَّا لَمْ تأبه زوجته بشيءٍ مِمَّا قال، تمالك أعصابه المنفلتة، وراح يتأملها، وقد مالتْ بجذعها، وغاصتْ بنصفها العلويِّ داخلَ خزانة الملابس، وانهمكتْ في البحث، والَّتنقيب عن شيءٍ ما، أفرغتْ من أجل العثور عليه محتويات الخزانة بأكملها، رغم حرصها الدَّائم على بقاء جميع الأشياء من حولها مرتبةً.
أطلقت الزوجة صيحة الفرح، واستدارت، فجأةً، وهي تحمل بين يديها كيسًا بلاستيكيًّا أسودَ، فكَّتْ عقدته سريعًا، وأخرجتْ من داخله سترةً صغيرةً من الصُّوف، رفعتها في مواجهة أشعة الشَّمس؛ فالتمعتْ ألوانها الزَّاهية، الَّتي احتفظت بنضارتها، رغم مرور عشرين سنةً على أقلِّ تقديرٍ.
يَذْكُرُ تلك الأيَّام جيدًا، كانتْ تغزل تلك السُّترة بيدها، وكانتْ الفرحة تشرق في وجهها، كُلَّما عقدتْ عقدةً بإبرة الغزل، أخبرته وقتئذٍ بأنَّها ستوصي القابلة بأنْ تُلْبِسَ وليدها تلك السَّترة بمجرد أنْ تقطع الحبل السُّرِّيَّ، و بمجرد أن تغسل ما عَلِقَ بجسد طفلها من دم الميلاد.. مرَّت السَّنوات ثقيلةً بطيئة كخطى السُّلحفاة، والسُّترة ظلَّتْ حبيسةً داخلَ الكيس، لم تفارق خزانة الملابس قَطْ، والوجهان طالتهما بعض التَّجاعيد، وشعر رأسيهما خالطه شيءٌ من الشَّيب، والحرمان شوكٌ، أدمى وخزه المؤلم قلبيهما، والدَّارُ خُيَّلَ لكُلِّ مَنْ مرَّ بجوارها أنَّها مقبرةٌ من فرط ما جثم عليها من الصَّمت، والوحشة، والسُّكون.
لقد استغرقته الذكريات تمامًا؛ فنسى أمر الشباك، والشَّمس، والنَّوم، وراح يراقب زوجته الَّتي ارتسمت على وجهها ابتسامةٌ عريضةٌ، بدَّدتْ ما أَلِفَ رؤيته من العبوس. ضمَّتْ السُّترة إلى صدرها، ثُمَّ التفتتْ إليه بشكلٍ مباغتٍ، و بشَّرته دونما مقدماتٍ بحملها المفاجئ، و لَمَّا كان قد يئس تمامًا من تحقُّق تلك الأُمْنِيَّة العصيَّة، لم يأخذ كلامها مأخذ الجدِّ؛ إذْ ظن أنَّ الأمر لا يعدو كونه نوبة من نوبات الشَّوق، الَّتي طالما اعترتها على مدار السَّنوات الفائتة؛ لهذا أطرق مؤثرًا الصَّمت؛ ففطنتْ زوجته إلى ما يدور بخلده، وأرادتْ أن تزيل ما في نفسه من توجُّسٍ، و شكٍّ؛ فاندفعتْ تقصُّ عليه بحماسٍ خبر القابلة، الَّتي غادرتْ الدَّار منذُ قليلٍ، تلك العجوز الخبيرة الَّتي بشَّرتها بالجنين.
مرَّتْ لحظاتٌ أرقص الفرحُ خلالها قلبَ الزَّوج، لكنَّه انتبه بعدها مذهولًا؛ إذْ وجد نفسه لا يزال في فراشه، تطبق عليه العتمة من كُلِّ جانبٍ؛ فراح يلتهم الظَّلام بعينيه، و بعد لحظاتٍ من التَّحديق استطاع أن يبصرَ الخزانة المغلقة، في حين سمع نحيب زوجته؛ فراحتْ عيناه تفتشان عنها؛ فأبصرها متكورةً في ركنٍ باردٍ من أركان الغرفة، وأبصر جسدها يهتزُّ؛ إذْ كانتْ منخرطةً في نوبةٍ من نوبات البكاء الحارِّ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى