في حارة (قصر الشوق) من حيّ الجمالية بالقاهرة، وإلى الشمال الغربي من مسجد (أبي عبد الله الحسين) حيث لا تزال القاهرة التي بناها المعز لدين الله قائمة في هذه القباب والمآذن، وتلك الدُّروب والمسارب، وهذه الدُّور الرحيبة المتقادمة التي تفضي إليها من باب إلى باب إلى أبواب. . .
. . . هناك، حيث التاريخُ الغابر ما يزال حيّاً ناطقاً في كل ما تقع عليه العين من مشاهد وآثار وناس؛ كأنما اجتمع تاريخ مصر الإسلامية كله في زمان ومكان، فلا يزال النظر يتنقل من منظر إلى منظر يذكِّر بالماضي كعهده يوم كان، من جيل إلى جيل إلى أجيال. . .
. . . هناك، حيث لا تزال ترى وتنظر ألواناً من الناس في سمات وأزياء وملامح، كأنما تشهد بقايا من سلائل الفاطميين وأبناء المماليك وجند السلطان سليم. . .
. . . هناك في هذا الحي نشأ (توفيق). . .
تراه، فلولا طربوشه الأحمر ولسانه العربي لحسبتَه واحداً من أولئك السياح الأجانب الذين يفدون إلى بلادنا كل شتاء للدرس أو الرياضة. أما أبوه فله في الحيّ جاه واعتبار، وإن له ميراثاً من تاريخ هذا الحي العريق يمتد إلى أجيال، منذ دخلت مصر جيوش السلطان سليم. وأما أمه فنازحة من دمياط، فلعلها بقية من سلالة بني أيوب. وأما هو فإنه ابن أمه وأبيه. . .
ونشأ نشأة أهله عل صلاح وتقوى ودين؛ لا يعرف له طريقاً إلا إلى المدرسة أو المسجد، فلم يبعثْ به الهوى مرة ولم يَغْترَّه الشباب. . .
وأتم في التعليم في مرحلتين، فأراد أبوه أن يلحقه بالجامعة، ولكن ميراثاً في دمه كان يزين له ركوب البحر فسافر إلى إنجلترا ليدرس فنون الملاحة ويتهيأ لما أراد. . .
وانتقل توفيق من جو إلى جو: من حي الجمالية في ظلال القباب والمساجد وأضرحة الأولياء؛ إلى دنيا الهوى ومسارح اللهو وملاعب الجمال. . . ورأى، وسمع، وعرف. . .
ونظرت إليه جارته الحسناء، فما كان إلا نظرة وجوابها حتى كانا ذراعاً إلى ذراع. . .
وعاد توفيق إلى غرفته في الفندق وقد أوشك الصبح، وإنه من صاحبته على ميعاد؛ وكأنما كان في حلم فاستيقظ؛ فلم يأو إلى فراشه إلا بعد ما أخرج دفتره ليكتب في مذكراته. إنها لحادثة جديرة بأن يذكرها في تاريخه - ثم أغمض عينيه ونام. . .
وعرف توفيق منذ اليوم أن في الحياة أشياء غير ما كان يعرف!. . . . . .
وكان في طريقه إلى صاحبته ذات مساء، حين اعترضت سبيله فتاة؛ ونظر ونظرت، ثم كان تاريخ، وذاق توفيق لوناً جديداً من ألوان الحب!
وعاد إلى غرفته ليكتب في مذكراته، وطوى صحيفة وبسط أخرى، وكتب. . .
وخلع توفيق وقاره وألقى بنفسه في تيار الحياة؛ وتتابعت حوادثه في فصول وأبواب، وامتلأت حقيبته صوراً وذكريات. . .
وتجرَّد توفيق من ماضيه، فلم يبق في ذكراه من صورة الأمس إلا رسوم حائلة يكاد يبليها النسيان؛ ولكن شيئين اثنين لم يغفلهما توفيق: دروس الملاحة التي هجر من أجلها وطنه وأهله ومذكراته التي يثبت فيها مغامراته في الحب كل ليلة قبل أن ينام!
وانتهى توفيق من دروسه؛ فالتحق بشركة كبيرة من شركات الملاحة الإنجليزية التي تجول في البحار بين سواحل القارات الخمس؛ وركب ظهر البحر يتنقل بين البلاد، وفي يده (حقيبة الذكريات) يثبت فيها فصلاً من مغامراته كلما هبط ميناء من الموانئ. لم ينس واجبه قط في ليلة من ليالي الأرض أو ليلة من ليالي الماء. . .
لكأنما كان يجوب البحار على هذه السابحة لغاية واحدة، هي أن يذوق الحب في كل ميناء تّرسي فيه السفينة فيكتب ويصف. . .!
وذاق الحب في كل ألوانه، إلا اللون الواحد الذي يكون معه الدمع!
لقد كان يخلع حبه دائماً في الظلام قبل أن يفارق الغرفةَ المسدلة الستائر ويغلق الباب وراءه؛ فإذا عاد إلى غرفته من الفندق أو من السفينة بسط أوراقه وكتب؛ وتنتهي قصة حب؛ فلا يبقى منها إلا سطور مكتوبة! ومضى توفيق على وجهه، والشر يغري بالشر. . .!
واجتازت السفينة مضيق جبل طارق في طريقها إلى الشرق، وأسرَّ إليه صاحبه (ماجدو) حديثاً فابتسم؛ ومضت السفينة بهما تمخر عباب الماء، واجتازت الدردنيل إلى البحر الأسود، لترسى في ميناء (كوستازا) على ساحل رومانيا، بلاد الجمال والحب
وهبط توفيق وصديقه إلى البر، وراحا يضربان في المدينة ليذوقا الحب. . . الحب الذي ينتهي في الظلام، في غرفة مسدلة الستائر مغلَّقة الأبواب!
وقال ماجدو: إن في هذا المتجر يا صديقي فتيات للحب. . . لقد أخبرني صديقَّ زار (كوستازا) من قبل. . .!
ودخل الصديقان المجر وراحا ينظران، ووقف (ماجدو) يتحدث إلى بائعة المناديل وذهب توفيق إلى جارتها؛ ونظر إليها ونظرت إليه، وتحدثت عينان إلى عينين؛ وقالت الفتاة بصوت مطرب: هل يريد سيدي. . .؟
ولكن توفيق لم يكن يريد شيئاً غيرها. . .
لقد ذاق توفيق من الحب ألواناً وفنوناً، ولكنه لم ير من قبل مثل هذا الفن وهذا الجمال!
لكأنما كان ينتقل في البحار من شرق الأرض إلى غربها ليدرك موعداً واعده القدر في هذا المكان!
وإن صوتها لينفذ في أعماقه وله رجع بعيد كأنما كانت تهتف به من وراء البحار: إلي يا حبيبي إلي فأني أنتظرك منذ أزمان!
وأحس لأول مرة أنه وأنها. . . وأحست، وتواعدا على اللقاء!
والتقيا على موعدهما، وجلسا يتحدثان، وقال وقالت، وعرفت أن صاحبها مصري، فصاحت فرحانة: مصري؟ ما أجمل هذا! إن بيننا نسباً يا صديقي. إن أبي من تركيا، أعني جدِّي. إنني لست رومانية خالصة، ومع ذلك. . .
وسكتت (مارتزا) فلم تتم. لقد رأت في عيني صاحبها نظرة زعمت أنها تفهم معناها
وأحس توفيق إحساساً جديداً منذ الساعة. إنه ليشعر كأنما يتحدث إليه القدر بلسان هذه الفتاة حديثاً لا يكاد يعيه. . .
وتناول يدها بين راحتيه، ومال عليها فقبَّلها، واغرورقت عيناه! لقد جلس توفيق مثل هذا المجلس من قبل مراتٍ ومرات؛ ولكنه لم يكن في مرة منها في مثل حاله الليلة
هذه فتاة لم يعرفها إلا منذ ساعات؛ دعاها إلى خلوة للهو والشراب فما تأبَّتْ - ماله يُحس في مجلسها هذا الإحساسَ الغامض حتى لا يكاد ينظر إليها نظرةَ رجل إلى امرأة! وما باله يشعر في مجلسه منها كأنه قد ارتفع عن بشريته حتى ليستشعر الندم لأنه دعاها إلى هذا المجلس من مجالس اللهو الحرام!
وشعر كأن روحاً خفيّاً يهمس في نفسه، وشعاعاً لطيفاً من نور الله ينفذ إلى قلبه؛ فكأنما قام بينهما حجاب من الوهم يمنعه أن ينفذ إليها ويمنعها.
وأطاف به طائف فأطرق، ثم رفع إليها عينيه ونظر. . .
وامّحت فيه كلُّ معاني (الجنس) لتحل فيه معاني (الإنسان). . .
وفاء إلى نفسه بعد برهة فسخر من نفسه، وراح يقاوم هذا الطارئ الجديد في قلبه ويسكب في كأسها وفي كأسه؛ وأخذا يشربان!. . . وانتصف الليل وصحبته الفتاة إلى غرفته. . . فإنها لتعرف أن عليها لصديقها حقاً ينبغي أن تتهيأ له؛ فما يَدْعوها مثُله من روًَّاد البحار إلا لمثل ذلك. . .!
. . . ولكنه. . . ولكنه في تلك الليلة كان غيرَ من كان، ونام ونامت كما يقتسم الأخَوان الفراش!. . .
ولما قام ليودِّعها في الصباح إلى الباب، كانت مطرقة برأسها إلى الأرض وفي عينيها دموع!
وتلاقيا من بعد مرات، ودَعَتْه إلى زيارة أهلها فلبَّى، وتوثقت بينهما عقدة الحب على طهر وعفاف!
وذاق توفيق لوناً من الحب لم ينعم بمثله فيما فات من أيامه!
وقال لها: مارتزا! سنفترق يا حبيبتي؛ وستبحر السفينة بعد أيام لتضرب في مجاهل البحار؛ فاذكريني، واكتبي إليَّ كلما تهيأت لك فرصة!
وتغرغرت عينا الفتاة وقالت: توفيق! بربك لا تذكر الفراق! خذني معك! إنني لا أطيق!
وفكر الفتى قليلاً، ثم ذهب إلى الرُّبان يرجوه أن يقبل مارتزا وصيفة في السفينة. ولكن السفينة لم تكن في حاجة إلى وصيفة على من فيها؛ فعاد توفيق إلى صاحبته ينوه بهمه!
وأبحرت السفينة بعد أيام، وراحت مارتزا تودِّع صاحبها، وهي تتجلد؛ ووقفت على الرصيف تلِّوح بيدها ويجيبها؛ ثم صفرت السفينة، وراحت تشق الماء، وسقطت الفتاة بين يدي أمها في غشية!
وحملوها إلى دارها، وجاء الطبيب؛ ولكن مارتزا كانت من الصدمة التي نالتها بحيث لا يجدي عليها احتيال طبيب!
وجلست أمها بجانب فراشها تبكي، ووقف الطبيب جيران، ولم تفق مارتزا من غشيتها!
وراحت السفينة تشق البحر بحيزومها، وعلى ظهرها توفيق وخلَّفت على الشاطئ فتاة بين الحياة والموت!
ولكن السفينة لم تكد تمضي على وجهها، حتى جاءتها الأنباء بأن المجاز مغلق في طريقها، فعادت أدراجها إلى كوستازا، حتى يصدر إليها الأمر بالمسير
وأرست السفينة، فهبط توفيق مسرعاً إلى البر ليرى فتاته ويأنس بها ساعة، وهو لا يعرف من أمرها شيئاً
ودق الباب ودخل، وكانت تهذي باسمه، وفزع توفيق، وجرى إليها وهو يصيح: ماريتزا! ماريتزا!
وأفاقت ماريتزا بعد غشية يومين، وشفاها لقاءُ حبيبها حين عجز الطبيب
وثابت إلى الفتاة قوتها رويداً رويداً، ولكنها لم تفارق فراشها ولم يفارقها توفيق. ومضت أيام، وصدر الأمر إلى السفينة باستئناف رحلتها. وخاف توفيق أن ينال الفتاة ما نالها أول مرة لو علمت أنه موشك أن يفارقها؛ فأسر الخبر إلى أمها لتحتال في أمرها. . .
ومضى توفيق ليؤدي واجبه في السفينة، وهو محزونٌ أَسوان وكان باقياُ على إبحار السفينة ساعات حين جاءه الربان يسأله: (توفيق، إنك تعرف فتاة كانت تريد أن تعمل وصيفة في السفينة! فهل يمكن أن تدعوها الآن؟ إن إحدى وصيفاتنا مريضة وقد غادرت السفينة إلى المستشفى ونحن في حاجة إلى بديل!)
ولم يتلبث توفيق؛ فما هو إلا أن أسرع إلى صديقته يدعوها، وأبحرت السفينة وعلى ظهرها الحبيبان. . .
وكانت على رصيف الميناء امرأة عجوز تلوح بمنديلها!
توفيق وأخته، هكذا كان يعرفهما ركاب السفينة جميعاً: الملاحون والركاب
ومضت السفينة بهما تشق البحار من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال، ينعمان بالحب وسعادة اللقاء، لا يظنان أن سيفرق بينهما شئ. وتمازجت روحهما حتى ليس بينها سر، وسالمتهما الليالي. . . ومضت سنوات. . .
وكانا في أحد الموانئ حين جاءت الفتاة برقية بأن أمها تحتضر!.
وكان الفراق؛ وباعدت الحادثات بينهما، ولكنه لم ينس، ولكنها لم تنس؛ فإنه ليكتب إليها وإنها لتكتب إليه!
وفعل به الفراق ما فعل حتى لا قرار له؛ فليس له أمنية من بعد إلا أن يعود ما كان! وتصرمت السنون، والفتى في حنين دائم وشوق لا يُغْلَب!
وحنَّ توفيق إلى أهله، فآثر العمل في شركة مصر للملاحة ليكون جهاده لبلاده؛ ولم ينس (حقيبة الذكريات) فإنها لمعه أين يكون؛ يستروح منها نسمات الحب ويأنس إليها في ساعات الوحشة. . .
ومضت الباخرة (زمزم) تتهادى من ميناء السويس في طريقها إلى (جدة) في ديسمبر سنة 1938 وعلى ظهرها الملاح (توفيق) ثم أرستْ، وركب الحجاج الفلك إلى رصيف ميناء جدة، ومعهم توفيق مُحْرِما بالحج
وطاف الحجيج بالبيت ملبين ضارعين، ووقف الفتى حيث بدأ الناس، لا يتقدم ولا يتأخر؛ وحضرته الذكرى فرأى كتابه منشوراً على عينيه بما فيه من خطايا وآثام؛ وهمَّ يرفع رأسه، فما أطاق، كأنما يحمل أوزار السنين على كاهله؛ وتدَّنت عيناه بالدمع. . . وتذكر يوم كان. . . فتى يخطو إلى العشرين، في حارة (قصر الشوق) لا يحمل من همٍ وليس له ماض؛ فترامى على أستار الكعبة نادماً يستغفر، وانهملت دموعه على خديه. . .
وعادت (زمزم) تخطر على ثبج الماء، وعلى ظهرها ركابها مهللين داعين ترف على شفاههم بسمات الرضا والاطمئنان!
وعاد توفيق إلى غرفته من السفينة راضياً مبتسماً طاهر القلب كما كان يوم ركب السفينة أول مرة من ميناء الإسكندرية منذ تسع سنين ليتعلم الملاحة ونظر إلى متاعه فرأى. . . وكأنما برزت حقيبة الذكريات لعينيه أول ما نظر لترده إلى ذلك الماضي الذي رماه عن كتفيه منذ قريب!
ونازعته الذكرى فَخار عزمُه وأحس في نفسه الوَهن؛ واصطرعت في نفسه قوتان، فعاد ينظر إلى الحقيبة بين لهفة وندم وإشفاق، ثم دنا منها فتناولها ومشى بطيئاً ثقيل الخطو حتى بلغ ظهر السفينة. . . وطوَّح بها وهو يقول: (أيها الماضي الذي كان، اذهب إلى غير مَعَاد!)
. . . وفرغ صديقي من قصته؛ فما كان يبلغ نهايتها حتى اختلجت شفته وتندَّت عيناه بالدمع؛ ثم أردف:
يا صديقي! لقد أذكرتَني ما كنت أريد أن أنساه وحسبتُني قد فرغتُ من أمره منذ عام وبعض عام؛ فإني لأحسُّ الساعةَ أن الجرح الذي اندمل قد عاد يَدْمَي!. . . لا لا، ولكنه ماض قد انطوى وفرغتُ من أمره!
وصمت ساعة، وانطفأ بريق عينه وأطرق؛ ثم عاد فرفع رأسه وكأنه عائدٌ من سفر بعيد. . . ثم تناول قلمه وبسط بين يديه ورقة وراح يكتب إليها:
(عزيزتي مارتزا!
(. . . . . . . . . . . .)
محمد سعيد العريان
مجلة الرسالة - العدد 350
بتاريخ: 18 - 03 - 1940
. . . هناك، حيث التاريخُ الغابر ما يزال حيّاً ناطقاً في كل ما تقع عليه العين من مشاهد وآثار وناس؛ كأنما اجتمع تاريخ مصر الإسلامية كله في زمان ومكان، فلا يزال النظر يتنقل من منظر إلى منظر يذكِّر بالماضي كعهده يوم كان، من جيل إلى جيل إلى أجيال. . .
. . . هناك، حيث لا تزال ترى وتنظر ألواناً من الناس في سمات وأزياء وملامح، كأنما تشهد بقايا من سلائل الفاطميين وأبناء المماليك وجند السلطان سليم. . .
. . . هناك في هذا الحي نشأ (توفيق). . .
تراه، فلولا طربوشه الأحمر ولسانه العربي لحسبتَه واحداً من أولئك السياح الأجانب الذين يفدون إلى بلادنا كل شتاء للدرس أو الرياضة. أما أبوه فله في الحيّ جاه واعتبار، وإن له ميراثاً من تاريخ هذا الحي العريق يمتد إلى أجيال، منذ دخلت مصر جيوش السلطان سليم. وأما أمه فنازحة من دمياط، فلعلها بقية من سلالة بني أيوب. وأما هو فإنه ابن أمه وأبيه. . .
ونشأ نشأة أهله عل صلاح وتقوى ودين؛ لا يعرف له طريقاً إلا إلى المدرسة أو المسجد، فلم يبعثْ به الهوى مرة ولم يَغْترَّه الشباب. . .
وأتم في التعليم في مرحلتين، فأراد أبوه أن يلحقه بالجامعة، ولكن ميراثاً في دمه كان يزين له ركوب البحر فسافر إلى إنجلترا ليدرس فنون الملاحة ويتهيأ لما أراد. . .
وانتقل توفيق من جو إلى جو: من حي الجمالية في ظلال القباب والمساجد وأضرحة الأولياء؛ إلى دنيا الهوى ومسارح اللهو وملاعب الجمال. . . ورأى، وسمع، وعرف. . .
ونظرت إليه جارته الحسناء، فما كان إلا نظرة وجوابها حتى كانا ذراعاً إلى ذراع. . .
وعاد توفيق إلى غرفته في الفندق وقد أوشك الصبح، وإنه من صاحبته على ميعاد؛ وكأنما كان في حلم فاستيقظ؛ فلم يأو إلى فراشه إلا بعد ما أخرج دفتره ليكتب في مذكراته. إنها لحادثة جديرة بأن يذكرها في تاريخه - ثم أغمض عينيه ونام. . .
وعرف توفيق منذ اليوم أن في الحياة أشياء غير ما كان يعرف!. . . . . .
وكان في طريقه إلى صاحبته ذات مساء، حين اعترضت سبيله فتاة؛ ونظر ونظرت، ثم كان تاريخ، وذاق توفيق لوناً جديداً من ألوان الحب!
وعاد إلى غرفته ليكتب في مذكراته، وطوى صحيفة وبسط أخرى، وكتب. . .
وخلع توفيق وقاره وألقى بنفسه في تيار الحياة؛ وتتابعت حوادثه في فصول وأبواب، وامتلأت حقيبته صوراً وذكريات. . .
وتجرَّد توفيق من ماضيه، فلم يبق في ذكراه من صورة الأمس إلا رسوم حائلة يكاد يبليها النسيان؛ ولكن شيئين اثنين لم يغفلهما توفيق: دروس الملاحة التي هجر من أجلها وطنه وأهله ومذكراته التي يثبت فيها مغامراته في الحب كل ليلة قبل أن ينام!
وانتهى توفيق من دروسه؛ فالتحق بشركة كبيرة من شركات الملاحة الإنجليزية التي تجول في البحار بين سواحل القارات الخمس؛ وركب ظهر البحر يتنقل بين البلاد، وفي يده (حقيبة الذكريات) يثبت فيها فصلاً من مغامراته كلما هبط ميناء من الموانئ. لم ينس واجبه قط في ليلة من ليالي الأرض أو ليلة من ليالي الماء. . .
لكأنما كان يجوب البحار على هذه السابحة لغاية واحدة، هي أن يذوق الحب في كل ميناء تّرسي فيه السفينة فيكتب ويصف. . .!
وذاق الحب في كل ألوانه، إلا اللون الواحد الذي يكون معه الدمع!
لقد كان يخلع حبه دائماً في الظلام قبل أن يفارق الغرفةَ المسدلة الستائر ويغلق الباب وراءه؛ فإذا عاد إلى غرفته من الفندق أو من السفينة بسط أوراقه وكتب؛ وتنتهي قصة حب؛ فلا يبقى منها إلا سطور مكتوبة! ومضى توفيق على وجهه، والشر يغري بالشر. . .!
واجتازت السفينة مضيق جبل طارق في طريقها إلى الشرق، وأسرَّ إليه صاحبه (ماجدو) حديثاً فابتسم؛ ومضت السفينة بهما تمخر عباب الماء، واجتازت الدردنيل إلى البحر الأسود، لترسى في ميناء (كوستازا) على ساحل رومانيا، بلاد الجمال والحب
وهبط توفيق وصديقه إلى البر، وراحا يضربان في المدينة ليذوقا الحب. . . الحب الذي ينتهي في الظلام، في غرفة مسدلة الستائر مغلَّقة الأبواب!
وقال ماجدو: إن في هذا المتجر يا صديقي فتيات للحب. . . لقد أخبرني صديقَّ زار (كوستازا) من قبل. . .!
ودخل الصديقان المجر وراحا ينظران، ووقف (ماجدو) يتحدث إلى بائعة المناديل وذهب توفيق إلى جارتها؛ ونظر إليها ونظرت إليه، وتحدثت عينان إلى عينين؛ وقالت الفتاة بصوت مطرب: هل يريد سيدي. . .؟
ولكن توفيق لم يكن يريد شيئاً غيرها. . .
لقد ذاق توفيق من الحب ألواناً وفنوناً، ولكنه لم ير من قبل مثل هذا الفن وهذا الجمال!
لكأنما كان ينتقل في البحار من شرق الأرض إلى غربها ليدرك موعداً واعده القدر في هذا المكان!
وإن صوتها لينفذ في أعماقه وله رجع بعيد كأنما كانت تهتف به من وراء البحار: إلي يا حبيبي إلي فأني أنتظرك منذ أزمان!
وأحس لأول مرة أنه وأنها. . . وأحست، وتواعدا على اللقاء!
والتقيا على موعدهما، وجلسا يتحدثان، وقال وقالت، وعرفت أن صاحبها مصري، فصاحت فرحانة: مصري؟ ما أجمل هذا! إن بيننا نسباً يا صديقي. إن أبي من تركيا، أعني جدِّي. إنني لست رومانية خالصة، ومع ذلك. . .
وسكتت (مارتزا) فلم تتم. لقد رأت في عيني صاحبها نظرة زعمت أنها تفهم معناها
وأحس توفيق إحساساً جديداً منذ الساعة. إنه ليشعر كأنما يتحدث إليه القدر بلسان هذه الفتاة حديثاً لا يكاد يعيه. . .
وتناول يدها بين راحتيه، ومال عليها فقبَّلها، واغرورقت عيناه! لقد جلس توفيق مثل هذا المجلس من قبل مراتٍ ومرات؛ ولكنه لم يكن في مرة منها في مثل حاله الليلة
هذه فتاة لم يعرفها إلا منذ ساعات؛ دعاها إلى خلوة للهو والشراب فما تأبَّتْ - ماله يُحس في مجلسها هذا الإحساسَ الغامض حتى لا يكاد ينظر إليها نظرةَ رجل إلى امرأة! وما باله يشعر في مجلسه منها كأنه قد ارتفع عن بشريته حتى ليستشعر الندم لأنه دعاها إلى هذا المجلس من مجالس اللهو الحرام!
وشعر كأن روحاً خفيّاً يهمس في نفسه، وشعاعاً لطيفاً من نور الله ينفذ إلى قلبه؛ فكأنما قام بينهما حجاب من الوهم يمنعه أن ينفذ إليها ويمنعها.
وأطاف به طائف فأطرق، ثم رفع إليها عينيه ونظر. . .
وامّحت فيه كلُّ معاني (الجنس) لتحل فيه معاني (الإنسان). . .
وفاء إلى نفسه بعد برهة فسخر من نفسه، وراح يقاوم هذا الطارئ الجديد في قلبه ويسكب في كأسها وفي كأسه؛ وأخذا يشربان!. . . وانتصف الليل وصحبته الفتاة إلى غرفته. . . فإنها لتعرف أن عليها لصديقها حقاً ينبغي أن تتهيأ له؛ فما يَدْعوها مثُله من روًَّاد البحار إلا لمثل ذلك. . .!
. . . ولكنه. . . ولكنه في تلك الليلة كان غيرَ من كان، ونام ونامت كما يقتسم الأخَوان الفراش!. . .
ولما قام ليودِّعها في الصباح إلى الباب، كانت مطرقة برأسها إلى الأرض وفي عينيها دموع!
وتلاقيا من بعد مرات، ودَعَتْه إلى زيارة أهلها فلبَّى، وتوثقت بينهما عقدة الحب على طهر وعفاف!
وذاق توفيق لوناً من الحب لم ينعم بمثله فيما فات من أيامه!
وقال لها: مارتزا! سنفترق يا حبيبتي؛ وستبحر السفينة بعد أيام لتضرب في مجاهل البحار؛ فاذكريني، واكتبي إليَّ كلما تهيأت لك فرصة!
وتغرغرت عينا الفتاة وقالت: توفيق! بربك لا تذكر الفراق! خذني معك! إنني لا أطيق!
وفكر الفتى قليلاً، ثم ذهب إلى الرُّبان يرجوه أن يقبل مارتزا وصيفة في السفينة. ولكن السفينة لم تكن في حاجة إلى وصيفة على من فيها؛ فعاد توفيق إلى صاحبته ينوه بهمه!
وأبحرت السفينة بعد أيام، وراحت مارتزا تودِّع صاحبها، وهي تتجلد؛ ووقفت على الرصيف تلِّوح بيدها ويجيبها؛ ثم صفرت السفينة، وراحت تشق الماء، وسقطت الفتاة بين يدي أمها في غشية!
وحملوها إلى دارها، وجاء الطبيب؛ ولكن مارتزا كانت من الصدمة التي نالتها بحيث لا يجدي عليها احتيال طبيب!
وجلست أمها بجانب فراشها تبكي، ووقف الطبيب جيران، ولم تفق مارتزا من غشيتها!
وراحت السفينة تشق البحر بحيزومها، وعلى ظهرها توفيق وخلَّفت على الشاطئ فتاة بين الحياة والموت!
ولكن السفينة لم تكد تمضي على وجهها، حتى جاءتها الأنباء بأن المجاز مغلق في طريقها، فعادت أدراجها إلى كوستازا، حتى يصدر إليها الأمر بالمسير
وأرست السفينة، فهبط توفيق مسرعاً إلى البر ليرى فتاته ويأنس بها ساعة، وهو لا يعرف من أمرها شيئاً
ودق الباب ودخل، وكانت تهذي باسمه، وفزع توفيق، وجرى إليها وهو يصيح: ماريتزا! ماريتزا!
وأفاقت ماريتزا بعد غشية يومين، وشفاها لقاءُ حبيبها حين عجز الطبيب
وثابت إلى الفتاة قوتها رويداً رويداً، ولكنها لم تفارق فراشها ولم يفارقها توفيق. ومضت أيام، وصدر الأمر إلى السفينة باستئناف رحلتها. وخاف توفيق أن ينال الفتاة ما نالها أول مرة لو علمت أنه موشك أن يفارقها؛ فأسر الخبر إلى أمها لتحتال في أمرها. . .
ومضى توفيق ليؤدي واجبه في السفينة، وهو محزونٌ أَسوان وكان باقياُ على إبحار السفينة ساعات حين جاءه الربان يسأله: (توفيق، إنك تعرف فتاة كانت تريد أن تعمل وصيفة في السفينة! فهل يمكن أن تدعوها الآن؟ إن إحدى وصيفاتنا مريضة وقد غادرت السفينة إلى المستشفى ونحن في حاجة إلى بديل!)
ولم يتلبث توفيق؛ فما هو إلا أن أسرع إلى صديقته يدعوها، وأبحرت السفينة وعلى ظهرها الحبيبان. . .
وكانت على رصيف الميناء امرأة عجوز تلوح بمنديلها!
توفيق وأخته، هكذا كان يعرفهما ركاب السفينة جميعاً: الملاحون والركاب
ومضت السفينة بهما تشق البحار من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال، ينعمان بالحب وسعادة اللقاء، لا يظنان أن سيفرق بينهما شئ. وتمازجت روحهما حتى ليس بينها سر، وسالمتهما الليالي. . . ومضت سنوات. . .
وكانا في أحد الموانئ حين جاءت الفتاة برقية بأن أمها تحتضر!.
وكان الفراق؛ وباعدت الحادثات بينهما، ولكنه لم ينس، ولكنها لم تنس؛ فإنه ليكتب إليها وإنها لتكتب إليه!
وفعل به الفراق ما فعل حتى لا قرار له؛ فليس له أمنية من بعد إلا أن يعود ما كان! وتصرمت السنون، والفتى في حنين دائم وشوق لا يُغْلَب!
وحنَّ توفيق إلى أهله، فآثر العمل في شركة مصر للملاحة ليكون جهاده لبلاده؛ ولم ينس (حقيبة الذكريات) فإنها لمعه أين يكون؛ يستروح منها نسمات الحب ويأنس إليها في ساعات الوحشة. . .
ومضت الباخرة (زمزم) تتهادى من ميناء السويس في طريقها إلى (جدة) في ديسمبر سنة 1938 وعلى ظهرها الملاح (توفيق) ثم أرستْ، وركب الحجاج الفلك إلى رصيف ميناء جدة، ومعهم توفيق مُحْرِما بالحج
وطاف الحجيج بالبيت ملبين ضارعين، ووقف الفتى حيث بدأ الناس، لا يتقدم ولا يتأخر؛ وحضرته الذكرى فرأى كتابه منشوراً على عينيه بما فيه من خطايا وآثام؛ وهمَّ يرفع رأسه، فما أطاق، كأنما يحمل أوزار السنين على كاهله؛ وتدَّنت عيناه بالدمع. . . وتذكر يوم كان. . . فتى يخطو إلى العشرين، في حارة (قصر الشوق) لا يحمل من همٍ وليس له ماض؛ فترامى على أستار الكعبة نادماً يستغفر، وانهملت دموعه على خديه. . .
وعادت (زمزم) تخطر على ثبج الماء، وعلى ظهرها ركابها مهللين داعين ترف على شفاههم بسمات الرضا والاطمئنان!
وعاد توفيق إلى غرفته من السفينة راضياً مبتسماً طاهر القلب كما كان يوم ركب السفينة أول مرة من ميناء الإسكندرية منذ تسع سنين ليتعلم الملاحة ونظر إلى متاعه فرأى. . . وكأنما برزت حقيبة الذكريات لعينيه أول ما نظر لترده إلى ذلك الماضي الذي رماه عن كتفيه منذ قريب!
ونازعته الذكرى فَخار عزمُه وأحس في نفسه الوَهن؛ واصطرعت في نفسه قوتان، فعاد ينظر إلى الحقيبة بين لهفة وندم وإشفاق، ثم دنا منها فتناولها ومشى بطيئاً ثقيل الخطو حتى بلغ ظهر السفينة. . . وطوَّح بها وهو يقول: (أيها الماضي الذي كان، اذهب إلى غير مَعَاد!)
. . . وفرغ صديقي من قصته؛ فما كان يبلغ نهايتها حتى اختلجت شفته وتندَّت عيناه بالدمع؛ ثم أردف:
يا صديقي! لقد أذكرتَني ما كنت أريد أن أنساه وحسبتُني قد فرغتُ من أمره منذ عام وبعض عام؛ فإني لأحسُّ الساعةَ أن الجرح الذي اندمل قد عاد يَدْمَي!. . . لا لا، ولكنه ماض قد انطوى وفرغتُ من أمره!
وصمت ساعة، وانطفأ بريق عينه وأطرق؛ ثم عاد فرفع رأسه وكأنه عائدٌ من سفر بعيد. . . ثم تناول قلمه وبسط بين يديه ورقة وراح يكتب إليها:
(عزيزتي مارتزا!
(. . . . . . . . . . . .)
محمد سعيد العريان
مجلة الرسالة - العدد 350
بتاريخ: 18 - 03 - 1940