رانية المهدي - الحٓضرة...

يجلس القرفصاء على عتبة داره المتهدمة في معظمها، يرفع جلبابه الممزق إلى ركبتيه ليظهر ذلك الكلسون القطني المتهدل، والذي غادرة اللون الأبيض من شدة الإتساخ. دائما ما يمرر يده ويزيح تلك الطاقية الحمراء الطويلة؛ ليحك رأسه الصلعاء بقوة مفرطة، يلف ورق البفرة ويبصق بين الحين والآخر.
بحكم جلسته على العتب، وبحكم داره التي على الجسر الصغير الذي يعبر الترعةأيضا.. كنا نستقبل السلامات من الغادي والرائح؛ فيرد تارة ويلعن أخري، وعندما زاد عدد المارة بدأ في التململ وأخذ ينادي على ابنته بصوت عال:
_يا وداد، أنت يا بت يا وداد.
لترد وهي تهرول إليه:
_أيوه يا أبا
_خشي يابت هاتي لي قفة نلم فيها السلامات دي، كل اللي معدي وجارر له جاموسة ولا راكب حمار قال إيه يرمي السلام، ما إحنا شايفنهم وعارفنهم، هو أنا فاضي لهم.
تضحك وداد ضحكة مكتومة لينظر إليها ويكمل كلامه:
_بتفشخي ضبك على إيه إنت روخري، اغلي لي شوية شاي يا فالحة، حبر يا بت خلينا نبلع، عالم دماغها فاضية.
كان قد اعتاد الجلوس على حافة الترعة الصغيرة من حين لآخر، في محاولة لصيد ما قد تجود به من أسماك غالبا لا تظهر، إلا أن الحظ قد حالفه هذا اليوم يصطاد سمكتين.
وبعد ثواني يرى القطة الضخمة التي تسللت إلى جواره، وانتزعت نصف حظه كاملا وهربت، فينتفض من مكانه وينفض جلبابه بعصبية ويجري خلفها، ثم يلتقط حجرا ويقذفها به:
_غوري جاك غارة تاخدك إنت وصحابك، بِسة سراقة.
ثم انتعلني في قدميه لنذهب سويا إلى مقام سيدي السيد، وهو ما زال يلعن ويسب جاره الذي لا يراعي حقوق الجيرة ويطلق قطته لتسرق الناس.
أعلم أنه يكره ذلك الجار الذي رزق بالبنين والبنات من زوجته الوحيدة الجميلة الغنية الهادئة، على عكسه هو فلم يرزق إلا بتلك الفتاة رغم زيجاته الست.
عندما وصلنا أخذ يتحدث مع خادم المقام المعروف بإسم سيدي العارف، والذي أخذ العهد من الشيخ صاحب المقام وأصبح العالم ببواطن الأمور وظاهرها والمفتي الوحيد لكل أهل القرية.
أخذ صاحبي يشتكي له ويطلب المشورة، فأفتى له سيدي العارف بعد أن أخذ المعلوم طبعا، أن قتل القطة حلال لكن دون أن يغضب جاره، وشدد أن للجيرة حقا عظيما.
كان ذلك حال صاحبي دائما؛ عندما تواجهه أي مشكلة.. يذهب ليأخذ المشورة من خادم المقام، ويدفع له الثمن ويجزل العطاء على غير عادته؛ ليحصل على المشورة التي يريدها ويفعل فعلته دون أن يشعر بأي ذنب.
مر يوم وليلة، وكان صاحبي جالسا على عتبة داره وأنا تحت فخده النحيل أحتمي من الشمس، فيدخل علينا الجار غضبانا، ويمسك في يده جثة القطة الضخمة وهو يصرخ:
_أنت معندكش جلب علشان تقتل البِسه المسكينة كده، دي حيوان، كانت عملت لك إيه يعني ولا يعني عملت إيه ها؟!
ليبصق صاحبي على يمينه وينظر لجاره بنصف عين:
_طب يا أخويا قول سلام عليكم الأول، وبعدين بِسة إيه دي اللي هقتلها؟! انا ما قتلتش حد. روح شف مين اللي خزوقك يا حلو.
ليرد جاره بعصبية شديدة:
_يعني أنا بتبلى عليك يعني، ما هي في إيدي أهي، وأنت اللي قتلتها. وأنا عارف وإنت عارف انك الوحيد في العزبة اللي بتكره البِسة بتاعتي، هيكون مين غيرك ياعني؟!
ليخرج صاحبي ورقة البفرة ويبدأ في لفها، ويكمل حديثة ببرود شديد:
_أنت زعلان على البسة قوي كده ليه؟! ما أنت عندك كل حاجة هي جت على البسة يعني.
ليرد الجار:
_يعني أنت اللي قتلتها؟!
فيبتسم صاحبي بشماتة:
_ أنا سميت السمكة بتاعتي وبِستك اطفست وكالتها، أنا ذنبي إيه بقى، الحق عليك أنت اللي مخليها تطافس على بيوت العالم.
يرد الجار الذي كاد أن يبكي:
_ما أنت سميت السمكة علشان تقتلها.
يبصق صاحبي ماعلق في فمه من البفرة ويقول:
_سمكتي وسميتها يا نعيم، ليك حاجة عندي، بص.. روح اشتكيني للعمدة وقول له حافظ سم سمكته.. بتاعته.. اللي إصطادها بإيده، وبِستي الطفسة خطفتها وطفحتها وفاطست. شوف هيقول لك إيه بقى، كان نفسي أشربك شاي بس التموين خُلص.
لينصرف الجار نعيم وهو حزين على قطته ويدعو على حافظ بكل دعوات الإنتقام:
_منك لله يا شيخ، ربنا ينتقم منك، حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل فيك.
ينصرف نعيم ويبقا حافظ في جلسته وقد زاد عليها تلك الضحكة الصفراء التي أعرفها، والتي ترتسم دائما عندما يشعر بالزهو، وقد خرج صوتها شامتا منتصرا وأخذ يكمل لف البفرة و ينفث الدخان بسعادة وهو يقول في نفسه:
_راجل عبيط.. بيعيط على بِسه! مش مكفيه كل اللي عنده، ناس طماعة بصحيح.
حافظ رجل بخيل لئيم، عاشرته طويلا حاولت الفرار منه أكثر من مرة، لكنه دائما يخيط أجزائي الممزقة بيديه ويبقيني بجانبه حتي اعتدت عليه ، وقد أكون أحببته فبالرغم من شخصيته الغريبة الناقمة على كل شيء إلا أنه لطيف ومضحك في كثير من الأحيان.
أتذكر يوما كنا نعتلي الحمار في طريق السوق، فمر حافظ على شيخ الخفر بحماره دون أن يترجل، لا أعرف ماذا كان يدور في عقله ساعتها ليفعل تلك الفعلة الشنعاء والتي لم تمر بسلام؛ تقدم منه الخفر وأنزلوه عنوة عن الحمار، ووبخه شيخ الخفر لسوء أخلاقة وعدم إحترامه لكبار البلد، وأخذ منه الحمار كعقاب وتأديب وأمر الخفر بجلده خمسين جلدة، ليرد حافظ على شيخ الخفر ويقول له:
_طيب يا شيخ الخفر، وحياة والديك أنا غلطان وابن ستين كلب، عبيط أنا راجل عبيط، هتعمل عقلك بعقلي برده؟ طيب بص خليهم مية ولا متين جلدة حتى مش مهم.. المهم الحمار، متخدش الحمار وحياة والديك.
لا يلتفت شيخ الخفر لتوسله، وينفذ الخفر الحكم بالجلد وحافظ لا يهتم رغم الألم، وكل ما يفكر فيه هو الحمار!
وعندما تنتهي العقوبة ينطلق بعدها مهرولا وهو يحملني تحت إبطه، يجر نفسه لمقام سيدي السيد؛ ليشتكي شيخ الخفر ويطلب منه أن يرد له حماره؛ فطلب منه خادم المقام أن يرجع إليه في اليوم التالي على وعد بأن يدبر له الحل
وفي اليوم التالي، تحدث معه خادم المقام واقترح عليه اقتراحا غريبا كاد أن يسبب له أزمة قلبية؛ اقترح عليه أن يبيع الجاموسة الوحيدة التي لديه في سوق الأربعاء، ويذبح البقرة أيضا ليتولى شرف استضافة ليلة الحضرة السنوية في داره، وبعدها سيصبح من أهل الله، وساعتها طبعا لن يجرؤ أى أحد أيا كان أن يقترب منه بعدها.
فزع حافظ من الفكرة وقال:
_ده خراب بيوت يا سيدنا، خراب سواده ناقع، البقرة والجاموسة في نفس ذات الوقت! ياسنه سوخة! لا يغور الحمار في ستين غارة.
ليرد عليه خادم المقام وهو يلف السبحة بين أصابعه:
_ما تقولش كده يا حافظ يا ابني، العوض من صاحب العوض، وسيدنا اختارك يا حافظ، اختارك عشان يعوض عليك، والخير يعم ومش هتلاحق عليه. بص يا حافظ، إنت بعد ليلة الحضرة ما تخلص تدفن عضم البقرة في الزريبة اللي ورا دارك، وشوف بقى الكرم هيكون ازاي.. ده غير مقامك اللي هيبقى عالي ومحدش يقدر بطوله.
انصرف حافظ وهو يضرب كفا على كف، ويلعن شيخ الخفر، والحمار والقطة وصاحبها، والحياة بأكملها.
وبالرغم من كل ذلك عقد العزم على التنفيذ؛ استيقظ باكرا يوم السوق وأخذ الجاموسة وباعها، وعاد بكل لوازم الليلة؛ ذبح البقرة, وأعد الطعام, وجهز الدار؛ لاستقبال المشايخ وأكابر البلد وأهل الله.
وقبل أن تبدأ الليلة، وجد الخفير على بابه وهو ساحب الحمار بيده، وقدمه له وقال:
_شيخ الخفر بيقول لك حمارك أهو, كرامة لمقام الشيخ والليلة المبروكة دي.
ثم يميل أكثر ويهمس:
_بقول لك إيه يا حافظ، صحيح أنت دابح بقرة بحالها؟!
ليأخذ حافظ الحمار ويقول بإمتعاض:
_أيوه يا سيدي، دابح بقرة بحالها، ابقى تعالى اتعشى.
ليرد الخفير وهو يدير ظهره لينصرف:
_تعبش يا حافظ، ربنا يكتر لحمتك ومرقها، سلام عليكم.
هنا شعر حافظ أن رجوع الحمار هو بداية الكرم الكبير الذي بشره به خادم المقام؛ فبتسم رغم ضيقه.
جاء الليل, وتوافد الجميع على دار حافظ، وبدأ المنشدون في وصلات الإنشاد، وعقدت حلقة الذكر وأخذ الجميع يتمايل مع الكلمات والتسابيح، وحافظ يحاول أن يخفي ضيقه ولا يستطيع أن يصدق ما يفعل، أخذ يخترق الجموع حتى وصل لخادم المقام وبدأ في سؤاله، وعندما لم يسمعه بدأ في نغز جنبه:
_يا سيدنا، هو الكرم ده هيكون ايه يعني؟ ودفن العضم في الزريبة الغرض منه إيه؟ يعني هيحصل إيه يعني يا مولانا؟ليرد عليه خادم المقام:
_ده وقته ده يا حافظ يا ابني، أذكر مع الناس واكرم ضيوفك علشان تكرم.
ينفض حافظ جلبابه ويقول:
_ماشي، ماشي يا سيدنا، بس وحياة والديك خلي بالك لحسن حد يهز الكُلوب والرتينة بتاعته تقع لحسن لو وقعت هضلم على الكل يا سيدنا، وبدل ما تبقى ليلة مبروكة هتبقى مطينة بطين.
يقول ذلك وهو يبتعد عن حلقة الذكر ويذهب الي عتبة داره، يرفع جلبابه ويجلس القرفصاء كالعادة ويلف البفرة، ويبصق ويطلق الدخان، و يصرخ بصوت مكتوم من حين لآخر:
_أوعى الكلوب يا سيدنا وحياة والديك، أوعى الكلوب.
تمر الليلة وينفض الجميع، ويجري حافظ ليجمع العظم ويسارع بدفنه في الحظيرة وهو يضرب كفا على كف:
_يخرب بيت أبوكم يا جعانين، إيه الداناوة دي، العضم ممسوح مفهوش فتفوتة لحم!
ينتهي سريعا من دفن العظم, ويستلقي بجانبه من التعب، و أنا أستقر تحت رأسه في هدوء وسكينة كالعادة.
عند بزوغ الشمس، يستيقظ حافظ ليجد الحال كما هو لم يتغير، ويسمع صوت الخفير ينادي فينتعلني بسرعة فائقة ويهرول مبتسما ويقول:
_أيوة بقى، أكيد الكرم كله جاي معاه، مدد يا مولانا مدد.
يخرج للخفير ليجده فارغ اليدين، ويسمعه وهو يقول:
_شيخ الخفر بيقول لك.. البلد دي ليها أسياد يا حافظ، واحترامهم واجب. البقرة والجاموسة دول كانوا قرصة ودن كده، علشان بس تعرف مقامك قصاد أسيادك، وبرده تعرف حقوق جيرانك عليك، تعيش وتاخد غيرها يا حافظ، يا سماوي البسس.
ينصرف الخفير متشفيا في حافظ الذي يرتمي على العتبة، ويخلعني من قدمه ويرفعني في الهواء، وينزل بي على رأسه وهو يولول ويقول:
_يا خراب بيتك يا حافظ، إلاهي كنت اتشكيت في نواضرك ولا انقطعت رجليك قبل ما تعدي وأنت راكب الحمار، اتجافصت يا أخويا، أهو الحمار رجع والجاموسة والبقرة ضاعوا. منك لله يا نعيم أنت اللي دعيت علي، اه يا خراب بيتك يا حافظ.
  • Like
التفاعلات: تواتيت نصرالدين

تعليقات

أعلى