كرم الصبَّاغ - يدها الخضراء...

يد ( حني) مباركة خضراء، و قلبها قلب مرابط. يحملون إليها القعيد الذابل؛ فتطرح الجدة الأحمال على باب الله، و تمرر يدها على الجبين الشاحب، و تتمتم بآيات الرقية. ما هي إلا ساعات معدودات، بعدها تجري الدماء في العروق، و تينع الأوراق الذابلة؛ فيصير القعيد حصانا راكضا يملأ جنبات النجع صهيلا. ربما تكشف إحداهن في خلوة العجوز عن بشرة شوهتها البثور و السنط المتجذر؛ فتحدق الجدة في أصل العلة، و تغمس سن القلم في ركية النار إلى أن يتوهج الرصاص؛ فتبسمل غارسة السن الأحمر في الجلد. و ما إن تشعر العليلة بلدغة الكي الأولى، حتى تكتم صرخاتها بالعض المتواصل على طرحتها السوداء، بينما تكرر الجدة نوبات الكي تباعا إلى أن تحترق الجذور تماما، عندئذ تبدأ طقوس( التعزيم)؛ فتتسع عينا الجدة قليلا، ثم ترتخيان تماما؛ فيلهج اللسان بقراءة الرقية بخشوع و مهابة على قدح ممتلئ بزيت الزيتون، و بيد خبير ترطب مواطن الحرق بدهانها المبارك، و ما هي إلا أيام حتى تباهي المرأة التي طالما نفر منها الجميع جارتها بحرير جلدها المشدود على جسدها النضير. كثيرا ما حمل إليها من مرضى ضربت الصفراء أكبادهم، فكانت العجوز تبري بسكينها عودين من أعواد الرمان، و تدسهما في الجمر الملتهب، و حينما يشتعل العودان، تهوي بالأول على الزند الأيمن، و تهوي بالآخر على الزند الأيسر، و توصي زائرها دائما أن يكون طعامه -طيلة أربعين يوما- خبزا منزوع الملح من أرغفة(الجردوق) و غموسا من العسل الأسود. و لما أجرى الله الخير على يد الجدة المتعففة عن قبض المال، صارت مثار حديث الناس؛ فنسجوا حولها حكايات و أساطير، لما سمعتها، دخلت في حالة قبض؛ فاعتزلت في خلوتها باكية، و ما عادت تفتح بابها لطارق ليل أو نهار. هكذا حرمت العيون من طيب الرؤية. و لما جفا أهالي النجع دارها، سقطت من ذاكرة الناس الخوانة؛ فحسبوها في عداد الموتى.

(٢)

أخذوا عليها العهد صبية، و حصنوها قديما من طيش الريح؛ فدقوا رسوما على جلد يديها الناعم. لقد بدت رغم صباها بوشم امرأة و عقل عجوز؛ فهجرت عرائس القش، و أضحت فوق الكثبان تقرأ كتاب الرمل نهارا، و باتت فوق سطح الدار تشارك الزهرة و القمر و النجمات صلاة الليل. مر الوقت يتلكأ، و الجدة في خلوتها صائمة تربت على ظهور الخيل؛ كي تجر العربة إلى مربطها. الخيل تعاند، و فتيل الشوق مضاء، لم ينقص زيته بمرور الأيام. جلد الوجه تغضن، لكن (حني) مباركة مازال قلبها قلبا أخضر، و روحها روح فتاة أسكرها التحليق في البراح مع يمام مزج سجعه بحلاوة ذكر العاشقة للحي القيوم.

(٢)

حطت الغربان على رءوس حقول الشعير، و راحت تنعق فوق العيدان الهزيلة و السنابل الفارغة. لم تكن الماشية في مرابطها أحسن حالا؛ فقد ذابت شحومها، و برزت عظامها من فرط الهزال. و في الصباح فتشت عيون النسوة مطامير الغلال الطينية الخاوية؛ فلطمن الخدود بحسرة اللائي فقدن زاد السنة و ميرة العام.

قبض الناس على تلابيب الصبر قائلين: لعل الشتاء القريب يبدد هذا العسر. و لما حل ( كياك)، اجتمعوا فوق مصاطب الدور مستبشرين، لكنه مر عقيما بلا بهجة أو قطر، بل فت زمهريره في أجساد الجالسين أمام الدور الذين سرعان ما تفرقوا واجمين؛ فظهرت المصاطب الخالية من سمارها كأنها جثث هامدة يكفنها الصمت و السكون.

كادت أيام الشتاء تنقضي، و السماء على حالها تتدثر بصفاء كاذب من زرقة لا نهائية لم يخدشها المزن. و لما تعبت العيون من التطلع إلى السماء، لوى الناس أعناقهم مطرقين إلى الأرض؛ فأبصروا العقارب و الهوام التي غادرت شقوق الرمل قاطعة بياتها الشتوي؛ فراحت تزحف تباعا إلى مستقرها الجديد داخل الأحواض المعدة لاستقبال مطر لا يجيء. ربما فهم الناس رسالة الهوام على نحو مقبض، لقد علموا جميعا أن هذا الخروج المبكر نذير شؤم ينذر بعدم قطر السماء في تلك السنة. لقد كانت تلك الرسالة في تلك البقعة المنسية من خارطة الكون كابوسا؛ إذ كان هطول المطر يحمل لأولئك المنسيين دائما يقينا بأنهم مازالوا أحياء، بينما كان انقطاع المطر في مخيلتهم ذئبا راح يحوم حول النجع نهارا، و راحت ريحه الباردة تعوي في الطرقات ليلا. كذلك تحول الجدب إلى سبع ضار يقرض أنيابه؛ كي يهلك ما تبقى في صدورهم من ببقايا الحياة.

(٣)

اجتمع الناس في باحة النجع، لم يتخلف رجل أو امرأة أو طفل، حتى حرامي الماشية الذي لم يركع في حياته ركعة لله، جاء بلسان متشقق؛ كي يتغزل في عيون المطر الغائب. مر اليوم وراء أخيه، و المطر على حاله يتدلل في سديم أزرق محجوب. اتفق أهالي النجع أخيرا على خلع قمصانهم السوداء ليلا، على أن يأتوا في نهار الغد للاستسقاء تحت سعف النخيل. أشعل الجار حطب الكانون تحت قدر الماء، و نوى الاغتسال. و لملمت جارته الفائرة الرمان المتدحرج من فتحة صدرها، و قررت تقليم شجرتها، بينما جس التاجر ضروع بهائمه الضامرة، و قرر- إن جاء اليسر- ألا يحبس فيها اللبن مرة أخرى، و ألا يسقيها الماء المالح، و ألا يحتال بإخراجها منتفشة يوم السوق. كذلك دفن حرامي الماشية المعول و المشرط في الرمل، و عزم على التوقف عن نقب الحيطان، و عن شرط الجيوب. أما خفير النجع، فقد كسر الجرة، و اشترى بما كنزه من مال دخانا، راح ينفثه في الهواء، و قرر ألا يجعل عينيه حصى، و أذنيه طينا، و لسانه حجرا لا يشي. كذلك قرر شيخ العرب كبير النجع ألا تجور قطعان أغنامه على كلأ المرعى دون أغنام الناس ….. هم كل منهم بخلع قميصه، لكنهم توقفوا، فجأة بعد سماع ضجة و زغاريد، أعقبها عويل و نحيب. و لما ركضوا تحت الأمطار المنهمرة.، فوجئ الجميع ب(حني) مباركة التي كسرت عزلتها. كانت الجدة ساجدة تحت السعف المبتل دون حركة، و كانت عيدان الشعير التي نبتت منذ لحظات تجاور جبهتها الملتصقة بالرمل؛ فراحت عيونهم التي أكلتها الدهشة تحدق إلى العربة المزدانة بورد لم يزرع قط في النجع، كما راحت تحدق مليا إلى الخيول التي تأهبت لاستقبال عروس الليلة. ز

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى