زوجي سائق باص. منذ ثلاثين عامًا وتزيد. تعرّفتُ إليه وهو في الرابعة والعشرين، وكان تخرّج للتوّ من مدرسة السياقة في المدينة. في بطاقة هويته كتبوا إلى جانب المهنة: “سائق باص”، وكانت هذه كفيلة، إلى جانب صورته البراقة، بأن تدخلني إلى قفص الزوجية الذي بناه لي، في قريتنا الجميلة النائية.
كنتُ في أثناء الخطوبة أحلمُ ليلَ نهارَ بالرحلات وبالفُسح الجميلة والطويلة التي سنقضيها سويةً، ولم أفهم حتى اليوم ما قصدته أختي الكبرى في إحدى ليالي السمر الصيفية على سطح البيت، حين قالت لي بدلع وحياءٍ مكظومٍ وصوتٍ مكتومٍ: “كرسي الباص الأخيرة طويلة، ولن تنسي طعمتها”.
قبل الزفاف بيومين، حين تجمعت كل صديقاتي في القرية لليلة الحناء، أخذنَ جميعهنّ بالتندر على شكلي وأنا جالسة في الكرسيّ الأول من وراء زوجي، وهو يصطحبي في رحل ونزهات كُنّ جميعهنّ يحلُمن بها. إحداهنّ حلُمت بالذهاب إلى القدس، والأخرى إلى يافا والثالثة قالت بتأكيد غريب: “بانياس أجمل الأماكن في العالم! دعيه يأخذك إلى البانياس”.
لم نفهم وقتها تأكيدَها القاطعَ هذا وسألناها عمّا إذا كانت ذهبت إلى البانياس، فأجابت بأنّ أخاها كان هناك قبل سنة وقال إنها أجمل الأماكن في العالم. وضحكنا حتى دمعت أعيننا… ثم قالت أختي الصغرى بحسد واضح وافقها الجميع عليه: “أنتِ ونحن نسمع بالأماكن والرحلات، بينما ستكون أختي هي الوحيدة التي سترى هذه الأماكن بحق وحقيقة”.
وتنهّدتُ بفرحٍ وخوفٍ كبيريْن.
أستيقظ في كلِّ صباح في الخامسة فجرًا. أطبخ لنفسي غلاية صغيرة من القهوة السوداء الحلوة وأستقبل الشمس القادمة من رحلتها وهي حمراء ناضجة نضوج التين “الحمّاري” في كرم والدي المرحوم. أشربُ قهوتي بصمت ولا أضايق الشمس الآتية من رحلتها اليومية. لا شكّ في أنها مرهقة جدًا الآن، ولا تنقصها ثرثارة مثلي لتروي لها عن حياتها مع زوجها سائق الباص. أشربُ القهوةَ وأحلمُ برحلات الشمس اللانهائية، وأتمنى لنفسي واحدةً منها على الأقل.
في تلك الهنيهة الصباحية لوحدي، أكتشفتُ لوحدي، أنّ الشمس تزور عمليًا كل العالم في 24 ساعة، كلّ يوم! ما أقواها وما أجمل حياتها، هذه الشمس. تطوفُ كلَّ العالم لوحدها، ومن دون كلل أو ملل، تطوفُ ولا تتعبُ، تمامًا مثلما وعدتْني أمّي قبلَ أن يأتي أهل العريس ليأخذوني من بيت أهلي بساعة. ثم مالتْ عليّ قليلاً وقالت بتوسّلٍ لم أعتقد أنه سيبدرُ عنها يومًا: “إبقي اذكريني في رحلاتكم الجميلة”.
عندما يستيقظ زوجي تكون غلاية القهوة الثانية قد نزلت للتوِّ عن قرص النار. لا يُنظف أسنانه أبدًا ومع ذلك فإنها ناصعة وقوية مثل أسنان الحصان. أمي كانت تقول دومًا إنّ زوجي يأتي من عائلة كل رجالها مثل الخيل: أقوياء وأصحّاء وأسنانهم كبيرة وبيضاء. حتى إنّ أبي المرحوم لم يُخفِ حماسَه من أحفاده الذين سأنجبهم له، لأنهم “سيُولدون كالخيل، يرفعون الرأس إلى أعلى”.
ومع ذلك وددتُ لو ينظف أسنانه، خاصةً في الصباح، حين يهمّ بي أحيانًا، وأنا أيقظه، فيشدّني من يدي ويستلقي فوقي على السرير ولا يكترث بشيء. لا ينتظرني حتى لأستيقظ كما يجب، أو لأغسل وجهي. وما أن أستيقظ كما يجب حتى يكون قد انتهى من اللهاث السريع ذي الرائحة الكريهة، فينكفئ على الجانب الآخر ويسأل بهدوء: متى ستنهضين؟
ولكنني ربّيتُ أبنائي على تنظيف أسنانهم. لا أريد لأيٍّ منهم أن تتضايق منه زوجته في الصباح أو قبل النوم. على أبنائي أن يكونوا رجالا أصحاء وجميلين وحسّاسين لنسائهنّ. ولو كانت وُلدت لي ابنة -كما أملتُ دائمًا- لكنتُ صنعتُ منها أفضل امرأة في الدنيا. ولكنتُ بعثتُ بها إلى الجامعة وعادت إليّ طبيبة تطبّب لي عظامي المتفكّكة ومفاصلي التي بدأت تلتهب. طبيب القرية قال لي إنّ عليّ أن أريحَ جسدي وأن أتوقف عن القيام بأية مشاغل صعبة. الحمار. لا يكفي أن يذهب المرء إلى الجامعة ويصبح طبيبًا، عليه أن يكون ذكيًا أيضًا وفطينًا. ومن سيقوم بكلِّ مشاغل العائلة والبيت؟ هو؟ لو وُلدتْ لي ابنة وصارت طبيبة أفضلَ منه بألف مرة لكانت علّمته درسًا في الحياة يسوى كل المعدات الباردة التي يضعها على جسدي عندما أذهب إليه. يضعها ويطيلُ وضعَها ولا أتبرّم لسببٍ لا أعرفه.
خمسة أبناء وكُلهم رجال متعلمون مثل الورود الحمراء البراقة في لحظة صفاء نادرة. أنظر إليهم ولا أتحسّر إلا على المرات التي لم أقبّلهم فيها أكثرَ مما قبّلتهم، لا أتحسّر إلا على المرات التي كنتُ أعلم أنهم يقظون فيها يدرسون وأنا خالدة للنوم.
البكر مهندس والثاني معلم والثالث ممرض والرابع تاجر في سوق يسمونها البورصة والخامس يعمل في بنك القرية. ما زال أعزبَ “قريد العشّ”. الوحيد الذي لم يستقرّ في بيت له، ولكنني أتمنى بيني وبين نفسي أن يتأخرَ قليلا أكثرَ، كي يُؤنسَ وحدتي في العصريات الطويلة التي يكون فيها زوجي غائبًا، يسوقُ الباصَ آخذًا أربعين أو خمسين شخصًا في رحلة جميلة.
المرة الأولى التي ركبتُ فيها الباص كانت بعد الزواج بيوميْن. كان ما زال فرجي يؤلمني من ليلة الدخلة، وكنتُ كلما تذكرتُ اللحظة الأولى أهرعُ للتقيؤ في المرحاض، متعللة بأمٍر ما قد أكون أكلتُه في ليلةِ الزفاف. ولكنني كنتُ على الرغم من شعوري هذا أنتظر بلهفةٍ ركوبَ باص الشركة الذي يسُوقه زوجي وأن نمضي معًا في رحلات طويلة نلحق بها أثر الشمس الغائبة، فلا تغيبُ. في المرة الأولى ذهبنا في الباص إلى المدينة المجاورة وتعشيْنا سمكًا مشويًا. كان لذيذًا، واستغرقني أسبوع حتى علمتُ فيما بعد أنّ هذه “الرحلة” كانت شهر العسل الذي يتحدثون عنه.
لم آبه كثيرًا بشهر العسل القصير، فقد كنتُ متأكدة من أنّ شهورًا من هذا العسل آتية لا ريب فيها. بعد أربعة أيام عاد زوجي إلى العمل. ولمّا عاد، طلب مني أن أنظف الباص الذي ملأه الطلاب الملاعين بالمُسليّات والمُكسّرات والقيءِ. نظفتُه كما لو كان غرفةَ نومِنا. عادَ يلمع مثل البلّور وعاد فرجي يؤلمني في تلكَ الليلةِ تمامًا كما في الليلةِ الأولى. ولكنني لم أنبس بكلمةٍ؛ فغدًا سيأخذني إلى رحلةٍ جديدةٍ.
صارَ ينطلقُ في كلِّ صباح إلى عملِه، إلى رحلاتِه، ولا يعودُ إلا في المساء. وبعد أن يتعشى، آخذُ أدواتِ التنظيفِ وأصعدُ إلى الباصِ الطويلِ وأُعمِلُ فيه تنظيفًا، حتى يعودَ جديدًا كما خرجَ من الشركةِ. مع الوقتِ صرتُ خبيرةً بالنفايات التي أجمعها من الباص، وبواسطتها صرتُ أتكهّنُ بأعمار المسافرين وطباعِهم وأهدافِ رحلاتِهم. في مراتٍ كانَ يعودُ الباصُ نظيفًا إلا من بعضِ الأوراقِ البيضاءِ المكتوبةِ عليها كلماتٌ بلغةٍ لا أعرفُها؛ في مراتٍ أخرى كان يعود مليئًا بأغلفة المسليات والنقارش وعلب المشروبات الخفيفة الفارغة، وبعض القيء هنا وهناك.
ومع الوقت أيضًا لم أعدّ أحسّ بأية آلامٍ عندما يهمّ بي، كأنّ مصدر الألم انطفأ إلى الأبد، ففرحتُ لانطفائه ولم أزل.
عندما ولدتُ الأول، وعدني زوجي سائق الباص برحلةٍ خلابةٍ أستعيد فيها عافيتي وأعوّض على ولادتي العسيرة الأولى. ولكنه نسي، بعد أن توفت حماتي من ولادة البكر بثلاثة أيام، وأنا خجلتُ من أن أسألَه عن الرحلةِ الموعودةِ، لأنه صار يعودُ في أغلبِ الأحيانِ غاضبًا ومُزمجرًا ويبرطمُ بعباراتٍ فيها شتائم ومسبّات على صاحب الشركة وعلى زملائه وعلى ظروف العمل المهينة. عندما وُلد الثاني لم يقترح أية رحلة، وأنا لم أفاتحْه بالموضوع؛ فالولادة الثانية كانت سهلة نسبيًا للأولى، ولم أعتقد بيني وبين نفسي أنني أستحق رحلة في باص زوجي على ولادةٍ سهلةٍ.
بعد أن ولدتُ الثالثَ تيقنتُ نهائيًا من أنَّ الرحلةَ التي أنتظرُها لن تأتي أبدًا. كيف سنخرجُ في رحلةٍ جميلةٍ وطفلي رضيعٌ والطفلان الآخران يبكيان لأتفهِ الأسبابِ؟
كنتُ استقبل صديقاتي الفرحات العائدات من رحلاتهنّ مع أزواجهنّ إلى القدس ويافا وبانياس وأبتسم تأدبًا، وأنا أستمع إلى تفاصيل مثيرة وأخرى مملة لا يتعبنَ من تردادها، وأتجاهل الواحدة منهنّ حين تقول على حين غرة: “ألا تحديثننا عن رحلاتك في الباص الجميل”؟
ومن دون أن أدري تحوّلت علاقتي مع الباص إلى علاقةِ دلوٍ مليءٍ بالماءِ والصابونِ، ومكنسةٍ وبعض أقمشيةٍ باليةٍ. في كلِّ يومين أو ثلاثة أصعدُ إليه وأمسحُ بقايا القيءِ والأكياسِ التي خلّفها الصغارُ خلفَهم. صرتُ خبيرةً في أنواع الأكياس وألوانها وأسماء المسليات التي بها، وهكذا صرتُ أشتريها لأبنائي عندما يهمّون إلى رحلةٍ مدرسيةٍ. كنتُ أملأ حقائبَهم بأشهى المُسلّيات وأودّعُهم دامعةً وهم يركبونَ الباصَ في الرحلةِ المدرسيةِ التي لم يكونوا ينامون في الليلة التي تسبقها. كنتُ أسمع همسَهم في الليل وهم يتجاذبونَ أطرافَ الجّمَلِ حول المكان الذي سيذهبون إليه وحول زملائهم وما اشتروه وكيف أنني دائمًا أشتري لهم أفضلَ المسليات، إلا أنهم كانوا يُجمعون دائمًا على أنّ زوجي أفضلُ رجل في الدنيا لأنه يأخذهم في رحلات المدرسة ويحفظ لهم دائمًا المقعد الأخيرَ الطويلَ.
وكنتُ أتقلّب في سريري وأنظر إلى السقفِ المعتمِ وأتذكرُ أنّ خالتَهم أيضًا كانت من مُحبّي المقعدِ الطويلِ في الخلف، مع أنها هي الأخرى لم تُجرّبه في حياتها.
في كل صباح كانوا يخرجون إلى المدرسة في الباص الكبير، الذي عتق وصار مهترئًا، ويتركونني لوحدي على قارعةِ المدخلِ ألوّحُ بيدي وأستنشقُ رغمًا عني دخانَ “الديزل” الأسودِ الكريهِ.
عندما وُلد الرابعُ حصل زوجي على باص جديد من الشركة. كان منظرُه خلابًا ونظيفًا وجديدًا؛ كان يعبق براحةِ أغطيةِ الكراسي الجديدةِ وكدتُ لفرطِ اندهاشي أن أقعَ إلى الخلف عندما قال لي زوجي بفخرٍ إنّ به فيديو وتلفازًا! ولكنّ فرطَ الدهشة جعلني أيضًا أندفعُ إلى الخلف مُروَّعَةً فاندلق دلوُ الماءِ والصابونِ الذي أحضرتُه لتلميعِ الأرضيةِ اللماعةِ أصلاً، فتوسختِ الأرضُ بالماءِ ووسّخَ قسمٌ منه أرجلَ أبنائي الواقفين خلفي، فاندهشوا وتريّبوا! فلطمَني زوجي بيده على وجهِي، كما يفعلُ عادةً عندما يغضبُ، وصاحَ: يا بقرة! ألا يليقُ بكِ حتى باص جديد؟
لم يفعل أبنائي شيئًا، بل نكّصوا رؤوسهم وخرجوا بصمتٍ من الباص، تاركينني أمسحُ دموعِي وأمسحُ الماءَ عن أرضيةِ الباصِ بسرعةٍ وحرصٍ كبيريْن، كي يتركني بحال سبيلي، فالأولاد يروْن!
منذ تلك اللحظة صرتُ أكره هذا الباص الجديد. أنظفه رغمًا عني، وبكسل واضح. حتى إنني كنتُ “أنسى” في كثير من الأحيان أكياسًا صغيرة أو بقعة قيء أعرفُ أنّ رائحتها ستزكم أنفه في اليوم التالي. لم يكن يهمّني؛ لو كان يهتم بتنظيف أسنانه لاهتممتُ به أكثر!
بدأ الأبناءُ بتركِ البيتِ للدراسةِ وصرتُ أحترفُ الجلوسَ عصرًا عند مدخلِ البيتِ أنتظرُ شبحَ الباص الجديدِ. وقد أحسَنَ بِكري صُنعًا -وأيّما إحسانٍ- حين ركّب على سطح المنزل صحنًا كبيرًا مُدوّرًا قال إنه يزيد على القنوات في التلفاز أكثر من 100 محطة، فلم أصدّقه إلا حين أخذَ يقلّب بينها، وقامت قيامةُ الأبناءِ الآخرين وزوجي، كلٌ يريد أن يشاهد محطة بعينها، إلى أن صاحَ زوجي ونهرَ، ثم أخذ يقلّب حتى وصل محطةً كان فيها رجلان يصرخان على بعضهما البعض. بعد برهة قال “قريد العش”: “هذه محطة اسمها “الجزيرة”. محطة أخبار.”
ولكنني لم أحبّ “الجزيرة” يومًا، فهم يصرخون على بعضهم البعض طيلة الوقت. كنتُ أحبُّ مشاهدةَ الأغاني وبرامج التطبيب بالأعشاب والمسلسلات العربية. لا أعرف حتى الآن كيف صمدتُ طيلة الوقتِ من دونِ هذه المسلسلات. وأكادُ أقسمُ بأنني أذكرُ حلقاتٍ كاملةً من مسلسل “مفيد الوحش” و”الجوارح” عن ظهر قلب؛ فما أن ينتهي بثّ حلقاتِ المسلسلِ على قناةٍ ما حتى تبدأ قناةٌ أخرى ببثها، لتعيد القناةُ الأولى ببثها من جديدٍ في الليل المتأخرِ، وقناة أخرى وأخرى وهكذا، حتى استغنيتُ عن أية صلة بما حولي وصرتُ أنا والصحن المدوّر الكبير أعزّ صديقيْن: أنا أؤنس وحدته في الصالة، وهو يأخذني في رحلات لم يكن ليحلم بها أيّ سائق باص.
كان كلما يطلّ زوجي من بعيد تعودُني ذكرى الألم القاتل إياه من ليلة الدخلة، فأهرع للتقيؤ خلف البيت. فيما بعد قال لي الطبيبُ إنّ عندي جرحٌ في المعدة وإنّ القيءَ الدائمَ الذي ينتابني سببُه موادّ التنظيف التي أستعملها، فنصحني باستبدالها، فاستبدلتُها. ولمّا لم يتوقف القيء قال يائسًا: المهم ألا تأكلي كثيرًا، فتتقيّئين أقلَّ. وهكذا صرتُ آكل قليلاً، وأتقيّأ قليلاً وأنحف كثيرًا، وصرتُ أسمح للطبيب بأن يطيلَ وضعَ أدواتِه على جسدي كيفما شاء، وأحيانًا كان يستغني عنها ويتحسس مواضع الألم بيديه، مرتعشًا حتى يهدأ.
عندما رأيتُ هذه القطعةَ المطاطيةَ الطويلةَ لم أفهم ما هي. كما أنني لم أتيقن من هذا السائل اللزج المحبوس بداخلها. كانت القطعة المطاطية ملقية في نهاية الباص على الكرسي الأخير الطويل، نفس الكرسي الذي قالت لي أختي قبل دهر من السنين إنني لن أنسى طعمَه. عندما تعرفتُ على رائحة السائل اللزج لم أتمالك نفسي فتقيأتُ على الكرسي ووسخته شرّ توسيخ. ثم صرتُ بعد هذه الحادثة أفتعل النوم في تلك الصباحات التي يأتيني فيها من الخلف، فيبلغ مشتهاه وأنا “نائمة”- فأريحُ وأستريح!
أجلسُ في كل صباح لوحدي، في الخامسة صباحًا، وأسأل الشمس بصمت عن رحلتها الطويلة. أنظر إلى الباص الذي يقودُه زوجي في رحلاته الكثيرة وأودّ لو أسأله عن الأماكن التي زارَها وعن الناس الذين رقصُوا وغنّوا على مقاعدِهِ ليومٍ كاملٍ. حتى أبنائي الذين أحبُّهم أقللوا من زياراتهم وهُم لاهون عني بزوجاتهم وأحفادي الذين أنتظرُهم بفارغ صبرٍ.
ومنذ أن وُلد أحفادي وكل أبنائي وزوجاتهم يغيبون في رحلات طويلة، لا يشبعون منها، وأنا أنتظرهم دائمًا ليعودوا إليّ بخِمار شتوي أو بقطعةِ قماش أخيّطها على ذوقي. أبنائي أشبه ما يكونون بالرحّالة، يحبّون الرحلاتِ أكثرَ من أيّ شيءٍ آخرَ. فهكذا علّمتُهم وهم صغار: لا تفوّتوا رحلةً في حيواتِكم، ولا تفوّتوا فرصةً للسّفر مهما حييتم. إسمعوا مني، فأنا أمّكم وأعرف أكثرَ منكم في الرحلات!
صرتُ أرحلُ كيفما أريدُ وأينما أريدُ، وأنا جالسةٌ في مقابل القنواتِ الكثيرةِ حتى صرتُ أكرهُ الرحلاتِ الحقيقيةَ والباصَ وزوجي، وصرتُ أقلِل من الخروج إلى الشرفةِ أو مبارحةِ مكاني في الصالة. بعد أن أنهكني المرضُ وداءُ المفاصل، موّل لي التأمين الوطني مساعِدةً تأتي لتعينَني على مهمّاتي الحياتيةِ ولترتبَ المنزلَ المُقفرَ. فـ “قريد العشّ” قرّرَ السكنَ في المدينة، حيث يسكن أخُوه الكبير، “ففرصُ العمل هناك أكثرَ”.
صرتُ أجلسُ ساعاتٍ وساعاتٍ، أسافرُ في أيةِ رحلةٍ أريدُ، وفي أيّ باص أختارُ، وعبرَ أيّ مسلسلٍ أرتئيه. ومع أنّ نظري خفّ كثيرًا وسمعي أكثرَ، إلا أنني ظللتُ قادرةً على التمييز بين الصُور والأحاديثِ وأطيافِ الأماكنِ التي أراها على الشاشة.
وهكذا سمعتُ صوتَه من الداخلِ يصيحُ: “إلحقيني، إلحقيني، عَم بموت!!” إلا أنني لم ألحقه ولم أفعلْ شيئًا. ماذا يريدُني أن أفعل؟ ثم إنّ نداءاته خفّتِ الآن، ثم توقفتْ تمامًا. أعتقد أنه نامَ الآن. فلينمْ، ماذا يريدُ مني أن أفعلَ؟ فلينتظرْ. فأنا الآن في رحلة وعليه أن ينتظر ريثما أعود.
* عن مدونة علاء حليحل
كنتُ في أثناء الخطوبة أحلمُ ليلَ نهارَ بالرحلات وبالفُسح الجميلة والطويلة التي سنقضيها سويةً، ولم أفهم حتى اليوم ما قصدته أختي الكبرى في إحدى ليالي السمر الصيفية على سطح البيت، حين قالت لي بدلع وحياءٍ مكظومٍ وصوتٍ مكتومٍ: “كرسي الباص الأخيرة طويلة، ولن تنسي طعمتها”.
قبل الزفاف بيومين، حين تجمعت كل صديقاتي في القرية لليلة الحناء، أخذنَ جميعهنّ بالتندر على شكلي وأنا جالسة في الكرسيّ الأول من وراء زوجي، وهو يصطحبي في رحل ونزهات كُنّ جميعهنّ يحلُمن بها. إحداهنّ حلُمت بالذهاب إلى القدس، والأخرى إلى يافا والثالثة قالت بتأكيد غريب: “بانياس أجمل الأماكن في العالم! دعيه يأخذك إلى البانياس”.
لم نفهم وقتها تأكيدَها القاطعَ هذا وسألناها عمّا إذا كانت ذهبت إلى البانياس، فأجابت بأنّ أخاها كان هناك قبل سنة وقال إنها أجمل الأماكن في العالم. وضحكنا حتى دمعت أعيننا… ثم قالت أختي الصغرى بحسد واضح وافقها الجميع عليه: “أنتِ ونحن نسمع بالأماكن والرحلات، بينما ستكون أختي هي الوحيدة التي سترى هذه الأماكن بحق وحقيقة”.
وتنهّدتُ بفرحٍ وخوفٍ كبيريْن.
أستيقظ في كلِّ صباح في الخامسة فجرًا. أطبخ لنفسي غلاية صغيرة من القهوة السوداء الحلوة وأستقبل الشمس القادمة من رحلتها وهي حمراء ناضجة نضوج التين “الحمّاري” في كرم والدي المرحوم. أشربُ قهوتي بصمت ولا أضايق الشمس الآتية من رحلتها اليومية. لا شكّ في أنها مرهقة جدًا الآن، ولا تنقصها ثرثارة مثلي لتروي لها عن حياتها مع زوجها سائق الباص. أشربُ القهوةَ وأحلمُ برحلات الشمس اللانهائية، وأتمنى لنفسي واحدةً منها على الأقل.
في تلك الهنيهة الصباحية لوحدي، أكتشفتُ لوحدي، أنّ الشمس تزور عمليًا كل العالم في 24 ساعة، كلّ يوم! ما أقواها وما أجمل حياتها، هذه الشمس. تطوفُ كلَّ العالم لوحدها، ومن دون كلل أو ملل، تطوفُ ولا تتعبُ، تمامًا مثلما وعدتْني أمّي قبلَ أن يأتي أهل العريس ليأخذوني من بيت أهلي بساعة. ثم مالتْ عليّ قليلاً وقالت بتوسّلٍ لم أعتقد أنه سيبدرُ عنها يومًا: “إبقي اذكريني في رحلاتكم الجميلة”.
عندما يستيقظ زوجي تكون غلاية القهوة الثانية قد نزلت للتوِّ عن قرص النار. لا يُنظف أسنانه أبدًا ومع ذلك فإنها ناصعة وقوية مثل أسنان الحصان. أمي كانت تقول دومًا إنّ زوجي يأتي من عائلة كل رجالها مثل الخيل: أقوياء وأصحّاء وأسنانهم كبيرة وبيضاء. حتى إنّ أبي المرحوم لم يُخفِ حماسَه من أحفاده الذين سأنجبهم له، لأنهم “سيُولدون كالخيل، يرفعون الرأس إلى أعلى”.
ومع ذلك وددتُ لو ينظف أسنانه، خاصةً في الصباح، حين يهمّ بي أحيانًا، وأنا أيقظه، فيشدّني من يدي ويستلقي فوقي على السرير ولا يكترث بشيء. لا ينتظرني حتى لأستيقظ كما يجب، أو لأغسل وجهي. وما أن أستيقظ كما يجب حتى يكون قد انتهى من اللهاث السريع ذي الرائحة الكريهة، فينكفئ على الجانب الآخر ويسأل بهدوء: متى ستنهضين؟
ولكنني ربّيتُ أبنائي على تنظيف أسنانهم. لا أريد لأيٍّ منهم أن تتضايق منه زوجته في الصباح أو قبل النوم. على أبنائي أن يكونوا رجالا أصحاء وجميلين وحسّاسين لنسائهنّ. ولو كانت وُلدت لي ابنة -كما أملتُ دائمًا- لكنتُ صنعتُ منها أفضل امرأة في الدنيا. ولكنتُ بعثتُ بها إلى الجامعة وعادت إليّ طبيبة تطبّب لي عظامي المتفكّكة ومفاصلي التي بدأت تلتهب. طبيب القرية قال لي إنّ عليّ أن أريحَ جسدي وأن أتوقف عن القيام بأية مشاغل صعبة. الحمار. لا يكفي أن يذهب المرء إلى الجامعة ويصبح طبيبًا، عليه أن يكون ذكيًا أيضًا وفطينًا. ومن سيقوم بكلِّ مشاغل العائلة والبيت؟ هو؟ لو وُلدتْ لي ابنة وصارت طبيبة أفضلَ منه بألف مرة لكانت علّمته درسًا في الحياة يسوى كل المعدات الباردة التي يضعها على جسدي عندما أذهب إليه. يضعها ويطيلُ وضعَها ولا أتبرّم لسببٍ لا أعرفه.
خمسة أبناء وكُلهم رجال متعلمون مثل الورود الحمراء البراقة في لحظة صفاء نادرة. أنظر إليهم ولا أتحسّر إلا على المرات التي لم أقبّلهم فيها أكثرَ مما قبّلتهم، لا أتحسّر إلا على المرات التي كنتُ أعلم أنهم يقظون فيها يدرسون وأنا خالدة للنوم.
البكر مهندس والثاني معلم والثالث ممرض والرابع تاجر في سوق يسمونها البورصة والخامس يعمل في بنك القرية. ما زال أعزبَ “قريد العشّ”. الوحيد الذي لم يستقرّ في بيت له، ولكنني أتمنى بيني وبين نفسي أن يتأخرَ قليلا أكثرَ، كي يُؤنسَ وحدتي في العصريات الطويلة التي يكون فيها زوجي غائبًا، يسوقُ الباصَ آخذًا أربعين أو خمسين شخصًا في رحلة جميلة.
المرة الأولى التي ركبتُ فيها الباص كانت بعد الزواج بيوميْن. كان ما زال فرجي يؤلمني من ليلة الدخلة، وكنتُ كلما تذكرتُ اللحظة الأولى أهرعُ للتقيؤ في المرحاض، متعللة بأمٍر ما قد أكون أكلتُه في ليلةِ الزفاف. ولكنني كنتُ على الرغم من شعوري هذا أنتظر بلهفةٍ ركوبَ باص الشركة الذي يسُوقه زوجي وأن نمضي معًا في رحلات طويلة نلحق بها أثر الشمس الغائبة، فلا تغيبُ. في المرة الأولى ذهبنا في الباص إلى المدينة المجاورة وتعشيْنا سمكًا مشويًا. كان لذيذًا، واستغرقني أسبوع حتى علمتُ فيما بعد أنّ هذه “الرحلة” كانت شهر العسل الذي يتحدثون عنه.
لم آبه كثيرًا بشهر العسل القصير، فقد كنتُ متأكدة من أنّ شهورًا من هذا العسل آتية لا ريب فيها. بعد أربعة أيام عاد زوجي إلى العمل. ولمّا عاد، طلب مني أن أنظف الباص الذي ملأه الطلاب الملاعين بالمُسليّات والمُكسّرات والقيءِ. نظفتُه كما لو كان غرفةَ نومِنا. عادَ يلمع مثل البلّور وعاد فرجي يؤلمني في تلكَ الليلةِ تمامًا كما في الليلةِ الأولى. ولكنني لم أنبس بكلمةٍ؛ فغدًا سيأخذني إلى رحلةٍ جديدةٍ.
صارَ ينطلقُ في كلِّ صباح إلى عملِه، إلى رحلاتِه، ولا يعودُ إلا في المساء. وبعد أن يتعشى، آخذُ أدواتِ التنظيفِ وأصعدُ إلى الباصِ الطويلِ وأُعمِلُ فيه تنظيفًا، حتى يعودَ جديدًا كما خرجَ من الشركةِ. مع الوقتِ صرتُ خبيرةً بالنفايات التي أجمعها من الباص، وبواسطتها صرتُ أتكهّنُ بأعمار المسافرين وطباعِهم وأهدافِ رحلاتِهم. في مراتٍ كانَ يعودُ الباصُ نظيفًا إلا من بعضِ الأوراقِ البيضاءِ المكتوبةِ عليها كلماتٌ بلغةٍ لا أعرفُها؛ في مراتٍ أخرى كان يعود مليئًا بأغلفة المسليات والنقارش وعلب المشروبات الخفيفة الفارغة، وبعض القيء هنا وهناك.
ومع الوقت أيضًا لم أعدّ أحسّ بأية آلامٍ عندما يهمّ بي، كأنّ مصدر الألم انطفأ إلى الأبد، ففرحتُ لانطفائه ولم أزل.
عندما ولدتُ الأول، وعدني زوجي سائق الباص برحلةٍ خلابةٍ أستعيد فيها عافيتي وأعوّض على ولادتي العسيرة الأولى. ولكنه نسي، بعد أن توفت حماتي من ولادة البكر بثلاثة أيام، وأنا خجلتُ من أن أسألَه عن الرحلةِ الموعودةِ، لأنه صار يعودُ في أغلبِ الأحيانِ غاضبًا ومُزمجرًا ويبرطمُ بعباراتٍ فيها شتائم ومسبّات على صاحب الشركة وعلى زملائه وعلى ظروف العمل المهينة. عندما وُلد الثاني لم يقترح أية رحلة، وأنا لم أفاتحْه بالموضوع؛ فالولادة الثانية كانت سهلة نسبيًا للأولى، ولم أعتقد بيني وبين نفسي أنني أستحق رحلة في باص زوجي على ولادةٍ سهلةٍ.
بعد أن ولدتُ الثالثَ تيقنتُ نهائيًا من أنَّ الرحلةَ التي أنتظرُها لن تأتي أبدًا. كيف سنخرجُ في رحلةٍ جميلةٍ وطفلي رضيعٌ والطفلان الآخران يبكيان لأتفهِ الأسبابِ؟
كنتُ استقبل صديقاتي الفرحات العائدات من رحلاتهنّ مع أزواجهنّ إلى القدس ويافا وبانياس وأبتسم تأدبًا، وأنا أستمع إلى تفاصيل مثيرة وأخرى مملة لا يتعبنَ من تردادها، وأتجاهل الواحدة منهنّ حين تقول على حين غرة: “ألا تحديثننا عن رحلاتك في الباص الجميل”؟
ومن دون أن أدري تحوّلت علاقتي مع الباص إلى علاقةِ دلوٍ مليءٍ بالماءِ والصابونِ، ومكنسةٍ وبعض أقمشيةٍ باليةٍ. في كلِّ يومين أو ثلاثة أصعدُ إليه وأمسحُ بقايا القيءِ والأكياسِ التي خلّفها الصغارُ خلفَهم. صرتُ خبيرةً في أنواع الأكياس وألوانها وأسماء المسليات التي بها، وهكذا صرتُ أشتريها لأبنائي عندما يهمّون إلى رحلةٍ مدرسيةٍ. كنتُ أملأ حقائبَهم بأشهى المُسلّيات وأودّعُهم دامعةً وهم يركبونَ الباصَ في الرحلةِ المدرسيةِ التي لم يكونوا ينامون في الليلة التي تسبقها. كنتُ أسمع همسَهم في الليل وهم يتجاذبونَ أطرافَ الجّمَلِ حول المكان الذي سيذهبون إليه وحول زملائهم وما اشتروه وكيف أنني دائمًا أشتري لهم أفضلَ المسليات، إلا أنهم كانوا يُجمعون دائمًا على أنّ زوجي أفضلُ رجل في الدنيا لأنه يأخذهم في رحلات المدرسة ويحفظ لهم دائمًا المقعد الأخيرَ الطويلَ.
وكنتُ أتقلّب في سريري وأنظر إلى السقفِ المعتمِ وأتذكرُ أنّ خالتَهم أيضًا كانت من مُحبّي المقعدِ الطويلِ في الخلف، مع أنها هي الأخرى لم تُجرّبه في حياتها.
في كل صباح كانوا يخرجون إلى المدرسة في الباص الكبير، الذي عتق وصار مهترئًا، ويتركونني لوحدي على قارعةِ المدخلِ ألوّحُ بيدي وأستنشقُ رغمًا عني دخانَ “الديزل” الأسودِ الكريهِ.
عندما وُلد الرابعُ حصل زوجي على باص جديد من الشركة. كان منظرُه خلابًا ونظيفًا وجديدًا؛ كان يعبق براحةِ أغطيةِ الكراسي الجديدةِ وكدتُ لفرطِ اندهاشي أن أقعَ إلى الخلف عندما قال لي زوجي بفخرٍ إنّ به فيديو وتلفازًا! ولكنّ فرطَ الدهشة جعلني أيضًا أندفعُ إلى الخلف مُروَّعَةً فاندلق دلوُ الماءِ والصابونِ الذي أحضرتُه لتلميعِ الأرضيةِ اللماعةِ أصلاً، فتوسختِ الأرضُ بالماءِ ووسّخَ قسمٌ منه أرجلَ أبنائي الواقفين خلفي، فاندهشوا وتريّبوا! فلطمَني زوجي بيده على وجهِي، كما يفعلُ عادةً عندما يغضبُ، وصاحَ: يا بقرة! ألا يليقُ بكِ حتى باص جديد؟
لم يفعل أبنائي شيئًا، بل نكّصوا رؤوسهم وخرجوا بصمتٍ من الباص، تاركينني أمسحُ دموعِي وأمسحُ الماءَ عن أرضيةِ الباصِ بسرعةٍ وحرصٍ كبيريْن، كي يتركني بحال سبيلي، فالأولاد يروْن!
منذ تلك اللحظة صرتُ أكره هذا الباص الجديد. أنظفه رغمًا عني، وبكسل واضح. حتى إنني كنتُ “أنسى” في كثير من الأحيان أكياسًا صغيرة أو بقعة قيء أعرفُ أنّ رائحتها ستزكم أنفه في اليوم التالي. لم يكن يهمّني؛ لو كان يهتم بتنظيف أسنانه لاهتممتُ به أكثر!
بدأ الأبناءُ بتركِ البيتِ للدراسةِ وصرتُ أحترفُ الجلوسَ عصرًا عند مدخلِ البيتِ أنتظرُ شبحَ الباص الجديدِ. وقد أحسَنَ بِكري صُنعًا -وأيّما إحسانٍ- حين ركّب على سطح المنزل صحنًا كبيرًا مُدوّرًا قال إنه يزيد على القنوات في التلفاز أكثر من 100 محطة، فلم أصدّقه إلا حين أخذَ يقلّب بينها، وقامت قيامةُ الأبناءِ الآخرين وزوجي، كلٌ يريد أن يشاهد محطة بعينها، إلى أن صاحَ زوجي ونهرَ، ثم أخذ يقلّب حتى وصل محطةً كان فيها رجلان يصرخان على بعضهما البعض. بعد برهة قال “قريد العش”: “هذه محطة اسمها “الجزيرة”. محطة أخبار.”
ولكنني لم أحبّ “الجزيرة” يومًا، فهم يصرخون على بعضهم البعض طيلة الوقت. كنتُ أحبُّ مشاهدةَ الأغاني وبرامج التطبيب بالأعشاب والمسلسلات العربية. لا أعرف حتى الآن كيف صمدتُ طيلة الوقتِ من دونِ هذه المسلسلات. وأكادُ أقسمُ بأنني أذكرُ حلقاتٍ كاملةً من مسلسل “مفيد الوحش” و”الجوارح” عن ظهر قلب؛ فما أن ينتهي بثّ حلقاتِ المسلسلِ على قناةٍ ما حتى تبدأ قناةٌ أخرى ببثها، لتعيد القناةُ الأولى ببثها من جديدٍ في الليل المتأخرِ، وقناة أخرى وأخرى وهكذا، حتى استغنيتُ عن أية صلة بما حولي وصرتُ أنا والصحن المدوّر الكبير أعزّ صديقيْن: أنا أؤنس وحدته في الصالة، وهو يأخذني في رحلات لم يكن ليحلم بها أيّ سائق باص.
كان كلما يطلّ زوجي من بعيد تعودُني ذكرى الألم القاتل إياه من ليلة الدخلة، فأهرع للتقيؤ خلف البيت. فيما بعد قال لي الطبيبُ إنّ عندي جرحٌ في المعدة وإنّ القيءَ الدائمَ الذي ينتابني سببُه موادّ التنظيف التي أستعملها، فنصحني باستبدالها، فاستبدلتُها. ولمّا لم يتوقف القيء قال يائسًا: المهم ألا تأكلي كثيرًا، فتتقيّئين أقلَّ. وهكذا صرتُ آكل قليلاً، وأتقيّأ قليلاً وأنحف كثيرًا، وصرتُ أسمح للطبيب بأن يطيلَ وضعَ أدواتِه على جسدي كيفما شاء، وأحيانًا كان يستغني عنها ويتحسس مواضع الألم بيديه، مرتعشًا حتى يهدأ.
عندما رأيتُ هذه القطعةَ المطاطيةَ الطويلةَ لم أفهم ما هي. كما أنني لم أتيقن من هذا السائل اللزج المحبوس بداخلها. كانت القطعة المطاطية ملقية في نهاية الباص على الكرسي الأخير الطويل، نفس الكرسي الذي قالت لي أختي قبل دهر من السنين إنني لن أنسى طعمَه. عندما تعرفتُ على رائحة السائل اللزج لم أتمالك نفسي فتقيأتُ على الكرسي ووسخته شرّ توسيخ. ثم صرتُ بعد هذه الحادثة أفتعل النوم في تلك الصباحات التي يأتيني فيها من الخلف، فيبلغ مشتهاه وأنا “نائمة”- فأريحُ وأستريح!
أجلسُ في كل صباح لوحدي، في الخامسة صباحًا، وأسأل الشمس بصمت عن رحلتها الطويلة. أنظر إلى الباص الذي يقودُه زوجي في رحلاته الكثيرة وأودّ لو أسأله عن الأماكن التي زارَها وعن الناس الذين رقصُوا وغنّوا على مقاعدِهِ ليومٍ كاملٍ. حتى أبنائي الذين أحبُّهم أقللوا من زياراتهم وهُم لاهون عني بزوجاتهم وأحفادي الذين أنتظرُهم بفارغ صبرٍ.
ومنذ أن وُلد أحفادي وكل أبنائي وزوجاتهم يغيبون في رحلات طويلة، لا يشبعون منها، وأنا أنتظرهم دائمًا ليعودوا إليّ بخِمار شتوي أو بقطعةِ قماش أخيّطها على ذوقي. أبنائي أشبه ما يكونون بالرحّالة، يحبّون الرحلاتِ أكثرَ من أيّ شيءٍ آخرَ. فهكذا علّمتُهم وهم صغار: لا تفوّتوا رحلةً في حيواتِكم، ولا تفوّتوا فرصةً للسّفر مهما حييتم. إسمعوا مني، فأنا أمّكم وأعرف أكثرَ منكم في الرحلات!
صرتُ أرحلُ كيفما أريدُ وأينما أريدُ، وأنا جالسةٌ في مقابل القنواتِ الكثيرةِ حتى صرتُ أكرهُ الرحلاتِ الحقيقيةَ والباصَ وزوجي، وصرتُ أقلِل من الخروج إلى الشرفةِ أو مبارحةِ مكاني في الصالة. بعد أن أنهكني المرضُ وداءُ المفاصل، موّل لي التأمين الوطني مساعِدةً تأتي لتعينَني على مهمّاتي الحياتيةِ ولترتبَ المنزلَ المُقفرَ. فـ “قريد العشّ” قرّرَ السكنَ في المدينة، حيث يسكن أخُوه الكبير، “ففرصُ العمل هناك أكثرَ”.
صرتُ أجلسُ ساعاتٍ وساعاتٍ، أسافرُ في أيةِ رحلةٍ أريدُ، وفي أيّ باص أختارُ، وعبرَ أيّ مسلسلٍ أرتئيه. ومع أنّ نظري خفّ كثيرًا وسمعي أكثرَ، إلا أنني ظللتُ قادرةً على التمييز بين الصُور والأحاديثِ وأطيافِ الأماكنِ التي أراها على الشاشة.
وهكذا سمعتُ صوتَه من الداخلِ يصيحُ: “إلحقيني، إلحقيني، عَم بموت!!” إلا أنني لم ألحقه ولم أفعلْ شيئًا. ماذا يريدُني أن أفعل؟ ثم إنّ نداءاته خفّتِ الآن، ثم توقفتْ تمامًا. أعتقد أنه نامَ الآن. فلينمْ، ماذا يريدُ مني أن أفعلَ؟ فلينتظرْ. فأنا الآن في رحلة وعليه أن ينتظر ريثما أعود.
* عن مدونة علاء حليحل