إبراهيم سلامه إبراهيم - سوق العيال

كلما سألت امى كيف جئت إلى الدنيا يا امى ؟ ، كانت تقول لى لقيناك على باب جامع ثم تضحك ، ومرة اخرى اشتريناك من سوق الجمعة اللى جنبنا ، ومرة ثالثة تقول جبناك من الملجاء ، ظللت الح عليها كل مرة ان تقص لى التفاصيل وأيهم هى الحقيقة ، كانت تضحك قائلة . ياواد احنا بنهزر .. لم أُكمل وقتها الستة سنوات ، مرحلة الفضول العمرية للمعرفة وسماع الحكايات وخاصة ما يتعلق بى وخيالي الذى يقودنى للظن والشك ، وعقلى الصغير الذى يصدق الأساطير فما بالك بما يتعلق بحياتى ، بعد ان استقر كلامها فى عقلى ، ظل سوق الجمعة فى ذاكرتى ، ظلت صلاة كل جمعة اذانٍ فى اذنى جرس تنبيه لذاكرتى عن ذلك اليوم الذى تمت فيه صفقة شرائى ، يوماً عندما شُدت قامتى قليلاً ، ذهبت إلى سوق الجمعة وهو مجاور لبيتنا فى تلك المنطقة الهادئة والغير مأهولة والتى تزدحم بالناس بعد صلاة الجمعة ثم تعود هادئة بعد انصراف الباعة فى السوق لبقية الأسبوع ، مررت داخل السوق ذلك اليوم ، اكتشفت عالم جديد وغريب فكل شىء يباع ويشترى حتى العيال ، أشياء لم اراها من قبل وكل مربع يباع فيه الأشياء المتشابهة ، حتى رأيت مجاميع من الحمير وبجوارها مجموعات من الخرفان والمعيز ، والمواشي ، ومكان آخر يباع فيه الطيور على كل اشكالها ، والحاجات والمحتاجات القديمة والمستعملة ، وغيرها من فاكهة وخضار يباع بالأقفاص ، وبالات الملابس القديمة وغيرها من أشياء لا تخطر على بال، حتى الأشياء المسروقة ..
وقفت امام احد الباعة وسألته عن سوق العيال ، نظر اليّه مندهشاً ثم انفجر ضاحكاً وقال لى : مافيش سوق للعيال هنا يا بابا لكن فيه سوق للحمير ،
وطالما يوجد سوقاً للحمير فلابد من وجود سوقاً للعيال ،
ولافرق بين حمار يسحب من لجامه دون اعتراض ، وطفل يباع دون وعى ، فلا فرق بين الحمير والعيال ، فهم فلا حول لهم ولا قوة ..

والحقيقة كانت أقسى من هزار امى ،
منذ وعيت على قصتى لم انام نوماً هادئاً دون ذلك الكابوس ، عندما عرفت من عمى المتوفى منذ سنين مضت الحقيقة

—————

حين ولدت لم يكن لى اسماً ..
منذ خمسة وعشرون عاماً انجبت السيدة جمالات طفلها الاول حمدان بعد خمسة شهور من زواجها ، الامر الذى شكك زوجها فى شرفها ، رغم انه على علاقة معها قبل ان يتزوجها بشهور تقترب من السنة ،لذلك بعد ولادة حمدان بسنة كاملة استخرج له شهادة ميلاد ، كبر حمدان وصار عنده سنتان ، عندها تجدد الخلاف مرة اخرى و اتجه الشك جهة بنوة حمدان وهل هو ابن ابيه فقط لانها كررت طلب كسوة الشتاء له ..

شهقت جمالات وخبطت على صدرها غير مصدقة ان زوجها يحمل هذا الشك العظيم جهة ابنها منذ سنتان بعد ولادته ، ثارت ، و وجّهت له كلمات جارحة ، مما جعله يغضب ويظن هجومها دفاعاً كاذب عن نفسها وخطيئتها ، مما زاد الشك داخله

وانتهى الحوار بينه وبين زوجته إلى انه أصرّ على نبذ ابوته نحو حمدان وعدم الاعتراف به ، بل احس بعدم قبوله كابن من صلبه ، وفى لحظة من لحظات الغضب المجنون ، اثناء شقاوة الطفل المصاب بفرط الحركة ، رفعه بيديه القويتان إلى أعلى قاذفاً به جهة البوابة الحديد ، للبيت الجديد ، ليسقط حمدان فاقد النطق ، فيقوم بدفنه دون أن يشعر احد ، ففى منطقة الجبل الأصفر فى الجهة الشرقية من السكة الحديد لقطار المرج حتى شبين القناطر والمسكونة حديثاً والغير مأهولة بالسكان ، لا احد يعرف من هم سكان هذا البيت وهل هم يشغلونه ام انه غير مأهول مثل غالبية البيوت هنا ..

فى لحظة سقوط حمدان فاقد النطق ، صرخت جمالات ، ليكتشفوا موته ، هاجت جمالات ، وحاول عبد الغفار إسكاتها ، منبهاً لها انه لم يقصد قتله ، وصراخها سوف يلفت نظر الجيران لهم وربما يبلغوا عنهم ..

بعد دفن حمدان سراً ، اصرت امى على الطلاق بعد تهديدها له بالإبلاغ عنه ..

————

ذهبت امى إلى بيت جدى لمدة سنتان ثم أعادها ابى اليه ، امتنعت امى عن ابى ، ولان ابى كان يعشقها من قبل زواجهما ، ظل يتحايل كيف تعود المياه لمجاريها اللا ان امى ظلت على عنادها وغضبها ، وابى لا يريد ان يقدم عنداً بعند ، ظل صابراً سنتان أخريتان ، ثم عادت امى عن عنادها ، ما أثمر عن حملها لى ، اصرت امى على تسميتى حمدان لانها مازالت حزينة عليه ، فاقترح ابى ان أكون نفس حمدان المقتول دون شهادة وفاته ، ثم اخرج شهادة ميلاده التى كانت فى دولاب امى ، بفرق ثمان سنوات بينى وبين اخى ،
اليوم عيد ميلاد اخى الخمسة وعشرون ، بينما أنا لا اعرف تاريخاً لميلادي ، اليوم أتم اخى خمسة وعشرون عاماً ، بينما أنا لا اعرف متى اتمم السبعة عشر عاماً ..
هل لابد لى ان اكره اخى لانه أخذ منى عمرى ، رغم انه ظلم ولم يعش هذا العمر ، ام اكره ابى الذى قضى على اخى وقتل كينونتي،
فعندما كان عمرى ثلاثة عشر عاما استدعيت للتجنيد على اعتبار اننى أتممت الواحد والعشرون ، حسب شهادة ميلاد حمدان المدفون ، وحسناً فعلت امى انها لم تنجب غيرى واللا كان تجنيدي سيكون حديث المجتمع الغايب عن جرائم ابى ،
لم ادخل مدرسة فقد حان سن دخولى عندما أتم اخى ست سنوات قبل ان أولد،

هل اكره امى لانها كانت سبباً فى مجيئى إلى الدنيا متأخراً ثمان سنوات ، ام اكره ابى الذى أصر على إعطائي اسم وشهادة ميلاد اخى كى يخفى جريمته ، لأكون أنا ضحيته وضحية امى وضحية اخى الذى راح ضحية الشك الملعون ..

ارتعبت اكثر ، من فكرة ان أكون لقيط وأنهم اشترونى من سوق الجمعة كما قالت لى امى ذات يوم بعد ان فشلت فى الإنجاب مرة اخرى ..

—————

انتابني حالة من الهياج والغضب حين سبنى احدهم فى الميكروباس اثناء عودتى إلى المنزل بعد خلاف حول الأجرة متهماً امى فى شرفها ، وتطورت الحالة من صراخ الى إغماء ..

—————

اعتدل الدكتور فى جلسته امامى وقد انتبهت لنفسى مستيقظاً من غفوتى ، وبعد ان استدعى اختى هدى واخى عدى من خارج غرفة الكشف ، وانطلق شارحاً لهم برنامج علاجى مما انتابني من معاناة الأفكار وتلك التخاريف بين الواقع والخيال منذ ان تخرجت من الجامعة ..

وما بين غفوتى وصحوى ، سمعته .. انها الشيزوفرينيا..

ومازلت غير مصدق ادعاء امى اننى لست ابنها ..

Ibrahim Salama✍️

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى