صفاء عبدالمنعم - الوارثة...

بداخلى جرح لا يندمل أبداً، وثمة موسيقى تبحث عن عازف!
هكذا بدأت كلماتها وهى تلوح لى بيدها البضة الصغيرة، ثم جلست أمامى على الكرسي الهزاز المجاور للنافذة، وأخذت تنظر طويلا نحو السماء الغائمة فى منتصف النهار .
أخذت تنظر وتتمعن فى الغيوم ، وبعض السحابات السوداء تسير ببطء شديد فتخفى وراءها ضوءً نادرا، ما قد يلمع للحظة ثم يختفى خلف سحابة أخرى .
ألتفتت نحوى بجهد شديد، وأنا أمد يدى لها بفنجان القهوة، والذى صنعته خصيصا لها على نار بابورالسبرتو الصغير .
أخذت الفنجان من يدى، وبيد مرتعشة رشفت أول رشفة منه، ثم صدرت عنها آه طويلة، وقالت بصوت منغم حنون : الله، القهوة طعمة بشكل .
ضحكت بعض الضحكات القليلة المنتصرة، وأنا أرشف رشفة من كوب القهوة الذى فى يدى(كنت أحب شرب القهوة فى كوب صغير وهى تحب شربها فى فنجان) هكذا تحدثنا طويلا فى هذا الموضوع فى مرات سابقة، كانت تقول لى أن أباها كان يحب القهوة فى فنجان مخصص له، فورثت هذه العادة عنه .
وأنا أضحك وأعلق على كلامها : إذا أنت الوارثة !
كانت تضحك وهى تحررخصلات شعرها الأسود الكثيف من أسرالفيونكة الكبيرة، وتنظر نحوى بعينين ثاقبتين، وتستدرجنى إلى الكلام عن طفولتى فى وسط عائلة كبيرة ممتدة، وسعيدة من وجهة نظرها، وكانت تعلق كثيرا عن السعادة البالغة التى كانت تشعر بها وهى وسط أمى وأخوتى، وتستمتع بأحاديث قديمة من أمى وعمتى عن الحياة والغلاء ومتطلبات الفقراء وسعادتهم، وحريق القاهرة، وثورة 52، وأزمة 54 بين عبد الناصر ومحمد نجيب، ونكسة 67، وتنحى عبد الناصر، وكم من مرة قصت هى علىّ قصصا طويلة،عن حركة العمال والطلبة فى الجامعة فى السبعينيات، وكيف كانت تخرج فى المظاهرات أيام الرئيس السادات، وجميع الطلبة يطالبون بالحرب وتحريرالأرض، وأحداث يناير 77 ورفتها من عملها فى التربية والتعليم، وسجن زوجها .
وظلت تحكى لى هذه الحكايات على مدار الخمسة وثلاثين عاما هى تاريخ علاقتنا منذ رأيتها فى المرة الأولى عام 86 بصحبة صديق قديم فى بيت أحد الأصدقاء بمنطقة شبرا الخيمة .
ومن يومها، وظلت العلاقة بيننا قائمة، تطول بعض الشىء وتختفى بعض الشئ، بحكم عملها وأنشغالها فى فرقة المسرح، والتجوال معهم فى بعض المحافظات .
وكانت تأتينى دائما فى الشتاء ليلا بملابس بلالتها الأمطار، وتفرد يديها الباردتين على نار الوابور الجاز، وتستمتع بالدفء معنا أنا والبنتين، وأنا أقوم بتحمير قطع البطاطس وألتهامها ساخنة حتى تبعث الدفء، ونستدفىء بوشيش الوابور، وتتواصل الحكايات حتى تنام البنتين، وأجلس أنا وهى فى حجرة المكتب نتناول القهوة ونتبادل الحوارات والضحكات والحكايات والأشعار، وآخر الكتابات لى ولها .
ونظل هكذا حتى يطل علينا الفجربصوت الآذان الدافىء المنبعث من خلف الشيش المغلق فنردد فى نفس واحد : الله النهار طلع .
أدخل الحجرة، أنام مع البنتين وأستدفىء بهما، وهى تدخل حجرتى التى هجرتها منذ وفاة زوجى وتنام على السرير فى سعادة بالغة، وتذهب فى النوم بعيدا بعيدا مع حراسها وملائكتها وأحلامها، واسمع صوت شخيرها الضعيف بدأ يعلو ويأتى إلىً من خلف الباب المغلق، أضحك قليلا ثم أغلق عينيى وأذهب فى سبات عميق.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى