سمية عبدالمنعم - "إيزيس"... قصة قصيرة

لم يكن لصوت عجلات القطار على قضيبه ذاك الوقع المعتاد في نفسها.
ها قد غلبتها غفوة مفاجئة، كانت تقاومها طوال ساعات.. فاستسلمت لها ساندة رأسها على ملجأ عينيها الوحيد هنا، على النافذة الزجاجية المجاورة لمقعدها.
استيقظي، استيقظي، استيقظى فى سلام
يا سيدة السلام... يا إلهة الحياة
يا جميلة فى الجنة..
استيقظي..
انتفضت بعد دقائق على وقع تسلل تلك الكلمات إلى سمعها، وكأنها تتردد على ألسنة جمعٍ من النساء بأصوات خفيضة مواسية ومشجعة في آن واحد...
فتحت عينيها وجالت بهما أرجاء العربة في دهشة، تحولت لذهول خائف عندما لم تجد مصدرًا لتلك الأصوات، فهزت رأسها في استسلام إلى كونها حتمًا تحلم.
أدركت أنها تحتاج لقضاء حاجتها وتقاوم ذلك الإحساس منذ أكثر من ساعة حتى لا تضطر لمغادرة المقعد ورؤية أحد..
لكنها قررت الاستسلام لفطرتها، فنهضت وسارت حيث أول العربة باحثة عن مكان الحمام، توقفت أمام الحد الفاصل بين العربتين ونظرت إلى الأرضية التي تتأرجح في خفة مرعبة.
عادت بخطوها للخلف وفكرت في هجر الفكرة برمتها والعودة لمقعدها، لكنه بزغ فجأة من أمام باب القطار، حيث يقف متخفيًا خلف الحاجز الجانبي الفاصل بين العربتين، شاب في الثلاثينيات، يبدو هادئًا قويًّا، ينظر إليها في حنو أدهشها، وكأنه يعرفها حق المعرفة، ويدرك سرها الدفين.
سألها بصوت ينطق احتواء:
_ أتريدين الذهاب للحمام؟
أومأت برأسها في تردد ولم تنطق، فمد إليها يده قائلًا:
_ يمكنني مساعدتك.. تفضلي.
لم تدهشها معرفته بوجهتها، ولا بسبب فزعها، بل ما أدهشها حقًا أنها تركت له يدها ليساعدها على عبور ذلك الحاجز المائع..
لم تشعر بكفه، وربما كانت ارتعاشة جسدها ورعبها من اهتزاز الأرض تحت قدميها سببًا في ذلك، لكنها وجدت نفسها تقف نفس الوقفة في طريق عودتها إلى المقعد، مترددة حائرة، ومثل المرة الأولى بزغ من مكمنه، ومد إليها يده، في تلك المرة شعرت بقبضة كفه، بل امتد إليها شعور غريب، نظرت إلى عينيه فإذا بهما تمتلئان احتواء، كادت تهمس له: لا تتركني، كن بجانبي فأنا وحدي...
تمالكت نفسها وشكرته وهي تخفض عينيها وتركت جسدها يسكن إلى مقعدها، لكن في تلك المرة لم تركن عيناها للنافذة، بل تحولتا نحو ذلك الحاجز الفاصل بين العربتين، فإذا بها تراه يحاول اختلاس النظرات نحوها، فأشاحت بوجهها إلى النافذة وقد سكنها لوم عظيم، وهي تتذكر ما هي فيه، فعادت إليها دموعها ثانية، ولم تعد تعير اهتمامًا لتلك النظرات الحنون التي تشيع دموعها بين اللحظة والأخرى.
أرقام ساعتها الصغيرة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل، زفرت في يأس وهي تتذكر أن ثلاث ساعات مرت منذ انطلاق القطار بها، وأنه مازال أمامها ساعة كاملة عليها أن تتحملها حتى محطة الوصول في تلك القرية النائية من صعيد مصر.
فجأة أدركت أن دموعها لم تكف عن صفع خديها منذ انطلاق القطار، حاولت أن تمسحها لكنها ظلت تنهمر بغزارة، وكأن ما يعتمل بصدرها أقوى من قدرتها على السيطرة على دموعها؛
فاستسلمت لانهمارها، وحاولت ألا تحيد عيناها عن النافذة، متخفية في بعض ظلام يغشى مقعدها ويخفيها عن أعين الركاب المتطفلين، ممن يحاولون التمسك ببعض يقظة بعد نوم متقطع.
مطت شفتيها في يأس وهي تضع احتمالًا مأساويًّا أنها قد لا تستطيع العثور عليه، مثلما لم تستطع إيجاده خلال ستة شهور مضت، قضتها متنقلة بين محافظات وقرى بلدان لم تطئها قدماها من قبل...
انهارت منتحبة لمجرد مرور ذلك الاحتمال في خاطرها، حتى إذا خشيت أن يصل صوت بكائها إلى النائمين، أسرعت بكتم أنفاسها حتى هدأت.
وراحت بعينيها إلى النافذة ثانية شاخصة حيث اللاشيء، وكأنها تناجي ربًّا يسكن تلك الحركة المتوالية لقطار يشق الظلام، داعية إياه أن تكون تلك هي محاولتها الأخيرة لإيجاد زوجها، الذي اختفى عنها منذ شهور ولم يعثر له أحد على أثر، حتى استسلم أهله وأعلنوا وفاته، بل وتلقوا العزاء فيه، في ابنٍ لم يعثروا حتى على جثته، وكأنهم كانوا يحددون لأنفسهم مدة بعينها إذا لم يعد خلالها فلسوف يستسلمون للأصوات القائلة بانتحاره، هكذا دونما أدنى إحساس بألم، وربما استطاعوا تطويع ألمهم، فراحوا يعدون العدة لاستصدار حكم قضائي بوفاته رسميًّا..
لكنها أبدًا لم تستسلم لهم، فمازال ذلك الشعور الخفي يراودها أنه مازال على قيد الحياة، ينتظر قدومها، ويمد يدًا مستغيثةً لتلتقطها بين أحضانها، مثلما كان يهرع إليها من كل كرب.
أسموها مجنونة، غبية، لكنها لم تلتفت، وعادت أهلها وأهله، ولم تطلب من أحدهم مساندتها، بل قررت خوض رحلة البحث اليائسة وحدها.. وحدها تمامًا..
أفاقت من شرودها على توقف القطار في المحطة المرجوة، هنا شعرت برعدة تسكنها، وهي تتخيل عودتها خائبة إذا لم تجد زوجها هنا أيضا..
أمسكت بحقيبة يدها وتوجهت نحو الباب خلف طابور طويل من الركاب، ورمقت النافذة بنظرة مودعة وكأنها تستأمنها سرها ودموعها.
متجنبة الزحام، وجدت نفسها آخر النازلين، ووجدته، كان واقفًا بجوار الباب وكأنه ينتظرها، أفسح لها المجال للهبوط وهو ينظر لها نظرة وداع، توقفت أمام القطار ونظرت حولها في حيرة، ففاجأها نزوله أيضا وتوجهه إليها غير عابيء بالقطار الذي راح يطلق صافرة المغادرة.
وكأنه يعرف ما تبحث عنه أشار إلى مكان السلم المؤدي لباب الخروج، وهو يؤكد عليها أن تعتني بنفسها، لم تجد ما ترد به على اهتمامه سوى إيماءة دامعة، وتوجهت بخطوات مترددة نحو السلم، في حين أسرع هو قافزًا للعربة واقفًا على بابها ينظر نحوها، فتوقفت للحظات والتفتت إليه تبادله نظرة حزينة، كادت على إثرها تمد إليه يدها صارخة ألا يتركها، لكنها لم تلبث أن قاومت دموعها التي تقف على حافة جفنيها، وعاودت السير نحو السلم.
أزاحت عن عينيها قهرًا كاد يفترسها وهي ترى الركاب يحتضنون من ينتظرهم من ذويهم بشوق، بينما تقف هي وحيدة حائرة مترددة.
حاولت أن تتجاهل ذلك الشعور وتبحث عن وجهتها وهي تدعو الله ألا يخيب رجاءها تلك المرة..
شيعت محطة القطار وقد تماهت صورتها خلف ذلك التاكسي الذي استقلته، بينما احتلت صورة ذلك الشاب واجهة المحطة تمامًا، ثم راحت تختفي رويدًا رويدًا حتى تحولت أمام ناظريها لصورة زوجها وهو يركض نحوها من بعيد، ملوحًا لها أن اقتربي، فأغلقت عينيها وتركت لأذنيها وكيانها ذلك اللحن الهاديء، المنبعث من كل زوايا وجودها، وكأنه يتردد على ألسنة جمعٍ من النساء بأصواتٍ خفيضة مواسية ومشجعة في آن واحد:
"إيزيس ستعتنى بك، ستعتنى بك بعد أن وجدتك".
"يا ابنة نوت وابنة جب وحبيبة أوزوريس
الكل يمتدحك
أعشقك... يا سيدة إيزيس".

سمية عبدالمنعم / مصر


******

( من مجموعة سرير فارغ الفائزة بجائزة القصة القصيرة في النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر ٢٠٢٤ )
  • Like
التفاعلات: محمد علاء الدين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى