مصطفى الحاج حسين - عند حدود الجولان.

أستطيع أن أقول، أنّ الملازم أوّل (هاني العلي)، كان صديقي، رغم أنّي أخدم برتبة (مجند)، وهو قائدي ومسؤول عنّي، فهو نائب قائد (السّرية الثّانية)، عرّفني عليه العرّيف (جبر اليوسف)، عندما انتقلت من (قلم) قيادة الكتيبة، إلى (سرّية الميم دال)، وقام قائد (سرّية الميم دال) بدوره، بفرزي إلى السّرية (الثّانية للمشاة)، وفي ذات اليوم جاء (جبر)، إلى السّريّةِ، وتحدّث مع الملازم أوّل، في شأني، وأوصاه بي، وكان الملازم أوّل، يعرفني من خلال مشاركاتي، في الاحتفالات والمناسبات، فقد كنت معروفاً، ومشهوراً، عند جميع الضّباط، وعناصر اللواء (الحادي والسّتون)، كانوا جميعهم ينادونني، بشاعر (اللواء)، إلى جانب خدمتي، في (قلم) قيادة الكتيبة، لمدّة تقارب السّنتين.

وكان الملازم أوّل (هاني)، يحبّ المطالعة والثّقافة، لذلك سرعان ما صارت علاقتنا جيّدة، خاصة بعد أن بدأنا نلعب (الشّطرنج)، فكان بعد أن ينتهي الدّوام الرّسمي، سرعان ما يرسل خلفي (حاجبه)، ليناديني إلى مكتبه، بعد (نزول)، قائد السّريّةِ، النقيب (نوفل زهرة)، إلى (بيته) القريب في (مساكن الضّباط)، لنبدأ بلعبة (الشّطرنج)، وكنت في أغلب الأوقات، أتفوّق عليه في اللعب، لدرجة أنّه صار يتحدّى زملائه الضّباط، إن كان أحدهم يستطيع، أن يغلبني، ويتفوّق عليّ، في لعبة (الشّطرنج).
وكنّا في الليل أيضاً، نجتمع لنلعب (الشّطرنج)، ونتحدث في الأمور الثّقافيّة، ويتكلّم كلّ واحد منْا، عن حياته، وطموحاته، وذكرياته.. حدّثني كثيراً عن قريته، القريبة من البحر، وعن فقر والده، وعدد أسرته الكبيرة، لذلك وجد من الأنسب له، ولظروفه الصّعبة، التّطوع في (الجيش)، لأنّه سيجد في التّطوّع، خلاصه الوحيد، بالنسبة لمعاناته ومشاكله.
وذات ليلة، من ليالي الشّتاء القارس،
ونحن نربض على الخطّ الأوّل، في أرض (الجولان)، والمسافة كانت لا تبعد كثيراً، عن (جبل الشّيخ)، الذي لا يذوب عنه الثّلج، على مدار أيّام وفصول السّنة، وفي هذه المنطقة تحديداً، يكون البردِ والثّلج والصّقيعُ، أكثر شدّة وقوّة، من الدّاخل (السّوري). وحدث أن كنّا في (سرّيتنا)، مقطوعين من المازوت، لمدة تزيد عن ثلاثة أيّام، وكنّا جميعنا جنوداً و (صفّ ضّباط)، نشتكي ونشعر بالبرد الشّديد، رغم ارتداءنا (الفلت) العسكريّ، وتدثّرنا (ببطّانيات) أسرّة النّوم، لنحتمي من شراسة الصّقيع والبرد الذي لا يرحم.
كنت موضع حسد وغيرة، من قبل زملائي الجنود، وحتى حضرات (صفّ الضّباط)، على صحبتي وعلاقتي، بالملازم أوّل (هاني العلي)، فهناك العديد، مّمن يكرهوني، منذ برزت في دورة الأغرار، أو عندما كنت ضارب (آلة كاتبة)، في (قلم) قيادة الكتيبة، حيث كنت مدعوماً، والكلّ يتمنّى أن يتقرّب منّي.. فأنا و الحمد لله، كنت محبوباً، ومدلّلاً عند معظم ضبّاط اللواء، وحتّى عند سيادة (العميد الرّكن)، قائد اللواء، (منير إلياس معدي)، بل أيضاً عن سيادة قائد الفرقة (الخامسة)، فهو (صافحني)، ومنحني (خمس مئة ليرة)، مكافأة، وعشرة أيّام إجازة، وعرض عليّ أن ينقلني إلى (ذاتيّة) قيادة الفرقة، بما أنّي أجيد (الضّرب) على الآلة الكاتبة، لكنَّني اعتذرت، بحجّة انسجامي مع زملائي هنا، في سرّيّة المشاة، وكان كلّ هذا، مدعاة لجلب الغيرة، والحسد، والكره، والعداوة، عند البعض.
كانوا رفاقي يتّهمونني بالنّفاق، بسبب قصائدي، التي كنت أشارك فيها، عندما تكون لدينا، مناسبة قوميّة، أو وطنيّة، عند (الجيش).. وأنا أعمل (بالنصيحة) المعروفة، (عسكريّة دبّر رأسك)، كما كان يقول أبي.. لا أحبُّ (نّظام الحكم)، ولا أنتمي، أو أتوافق، مع (الحزب الحاكم)، ولا (القائد المفدّى)، كما يسمّونه.. كلّ ما كنت أريده، أن أنتهي من (الخدمة العسكريّة)، التي أبغضها جداً.. ولهذا أنا أنافق، وأكذب، وأنظم كلاماً، ليس له علاقة بالشعر ، وبنبض قلبي، أو خلجاتُ روحي.. هو مجرّد كلام يعجبهم، ويصفّقون لي عليه.. وأنا سأمزق كلّ ما أكتبه.. حين أسرّح من خدمتي.. لا يمكن لي، أن أعرض ما كتبته، على أصدقائي (عماد، ومصباح، ومروان)، وأستاذي الشّاعر (سعيد رجو)، هؤلاء يجب أن لا يعرفوا، حتّى لا يحتقروني، أو ينهوا علاقتهم بي.. فهم لا يعرفون، كم هو (المجند)، مهان هنا، ومسحوق، ومذلول، كأنّه وجد معدوم الكرامة.. فهو يشتم، ويضرب، ويسجن، ويعذّب، ويهان، وتمسح به الأرض.. فما الضّير إذاً، إن تهرّبتُ من الجحيم؟!.. المهم أن لا أتسبّب بضرر أحد، من رفاقي.. فأنا دائماً أحاول مساعدتهم، و الوقوف إلى جنبهم.
هناك من يصف المثقّف (بالوصوليّ)، و(النّفعيّ) وأنا سأكون (وصوليّاً) و (نفعيّاً)، أثناء خدمتي في الجيش، فلماذا عليّ أن أقبل، أن أكون مهمّشاً وضيّعاً، وأنا أستطيع بكلِّ بساطة، عن طريق موهبتي، وثقافتي، وذكائي، أن أكون في القمّة؟!.
أحتقر نفسي، ولكنّني ضعيف، لست مقتنعاً بما أفعل، ولكنَّني مجبر.. أنا لا أحتمل التّعذيب، والضّرب، والإهانة، جسدي ضعيف، عزيمتي واهية، لا أقدر على الصّبر.. لو لم أفعل هذا، كنتُ ربّما شكّلتُ فراراً، أو قتلتُ نفسي وانتحرت.. ضميري يعذّبني حينما أشاهد رفاقي يهانون، ويعاقبون، ويضربون،ويشتمون
، بأقذع الشّتائم، بأمّهاتهم،وأخواتهم، وآبائهم، وأشكالهم.. وهم لا حوْل لهم، ولا قوْة.. ولكن ليس بمقدوري أن أفعل شيئاً.. (أحمد الله)، على أنّه منحني موهبة كتابة الشّعر، فلولا كتابتي للشعر، لكنت الآن أعامل مثل البقيّة.
بعد أن تناولنا العشاء، أنا وأبناء خيمتي، وكنّا نرتجف من فظاعة البرد،وأجسادنا ترتعش، ونحن ملتفّون، حول المدفأة المطفأة، منذ ثلاثة أيّام، بسبب انقطاعنا من (المازوت)، جاء لعندي (الحاجب)، وقال:
- سيادة الملازم أوّل، يناديك.
وانهالت عليّ التّعليقات، من رفاقي:
- هيا.. قم، اذهب إلى المدفأة، واشرب الشّاي، والقهوة، و(المتّة)، عند سيادته.. ونحن هنا، (ملعون أبونا أولاد كلب).
قلت لهم ضاحكاً:
- أنتم.. لكم إن (شاء الله)، جهنّم، يوم القيامة.. حينها امنعوني من التْدفئة.
وتعالى خلفي صياحهم، ومسباتهم.. وخرجتُ، وكلّي ألم من أجلهم.
وجدت الملازم أوّل (هاني)، في مكتبه، جالساً على كرسيه، بالقرب من مدفأته المستعرة، ينتظرني، وعلى الطّاولة رقعة (الشّطرنج).
َقبل أن أجلس، ونبدأ باللعب، قال:
- اجلس.. اليوم سأعوّض خسارتي منك، وأحطّمك.
قلت مبتسماً:
- في كلّ يوم تقول لي، مثل هذا الكلام، وتعود وتخسر أمامي.
وقبل أن أجلس لنبدأ اللعب، صببتُ كأساً من الشّاي، من الإبريق، الذي كان على المدفأة، وأشعلتُ سيجارة، ثم تقدّمتُ (بالبيدق الأبيض)، مبتدأ اللعب، بينما كانت (أمّ كلثوم) تصدح بالغناء، من خلال (الرّاديو).
وفجأة.. دخل علينا (الحاجب قزموز)، ليخاطب الملازم أوّل، قائلاً وبلهفة:
- سيّدي.. لقد سرقوا (كالون) المازوت، من الخيمة.
وبينما كان (فيل الشّطرنج)، بيد الملازم أوّل، سأل (حاجبه) مستنكراً:
- من هم الذين سرقوا (كالون) المازوت؟.. وأين كنت حضرتك؟!.
- سيّدي.. حين أرسلتني، إلى خيمة (مصطفى) لأناديه، قاموا بسرقته.. لأنّه كان موجوداً، إلى جانب سريري، قبل أن أترك خيمتي.
تغيّرت قسمات وجه الملازم أوّل، وبان عليه غضب شديد.. أمر (الحاجب):
- اذهب.. إلى كلّ الخيم، والمهاجع، و (البلوكسات)، وأسأل عنه، وفتّش الأماكن.. والويل لك، ولجميع العناصر، إن لم تجدوه، وتحضروه لي إلى هنا.
وحين انطلق (الحاجب)، للبحث عن (المازوت) المسروق، بادرني الملازم أوّل، بسؤاله:
- من تظن تجرّأ، وأقدم على السّرقة، من داخل خيمة (الحاجب)؟!.
قلتُ في حيرة واستغراب:
- لا أعرف!!.. ولكنّ، الجميع يشكون من شدّة البرد، والزّمهرير القارس.
ارتفع صوت الملازم أوّل، وهو يخاطبني بحدّة، لم أعهدها منه:
- إنّهم عساكر يخدمون على الخطّ الأوَّل، ويشكون من شدّة البرد؟!.. كيف إذاً سيحاربون العدو؟!.. ليفترضوا أنفسهم في المعركة.. هل كانوا حينها سيلتفّون حول المدافئ؟.
صمتُ.. لم أرغب بمتابعة مناقشته.. فقد وجدته غاضباً، وفي غاية الانزعاج. لذلك طلبت منه، أن يتابع اللعب.
لكنّه أطفأ (الرّاديو)، وراح يقسم لي:
- قسماً.. إن لم يظهر (الكالون)، و أراه هنا أمامي.. ستكون ليلة الجميع، دافئة جداً عليهم.. أليس هم يشكون من شدّة البرد؟.. سأجعلُ العرق يزخ من مؤخراتهم.
نهضت من مكاني، عازماً على الذّهاب إلى خيمتي.. فنظر إليّ سائلاً:
- إلى أين أنت ذاهب؟.. اجلس، وانتظر.. سنتابع اللعب، بعد أن يعود (قزموز).
وعاد (قزموز) لاهثاً.. وهو يقول:
- سيّدي.. لم يعترف أحد.. الكلّ أنكر علمه ومعرفته.. وفتّشت جميع أماكنهم، ولم أجد شيئاً.
وعلى الفور، أخرج الملازم أوّل، من (درج) مكتبه، صفارة ، وأعطاها للحاجب، قائلاً بعصبيّة:
- اجمع لي الجميع، هنا.. أمام المكتب.
دوت الصفّارة.. وانبعثت الأصوات:
- اجتماع.. اجتماع.
وبدأ الجميع يتوافدون، و يجتمعون، في الخارج، أمام المكتب.
ودخل الرّقيب أوّل (حيدر حيدر)، وبعد أن أدّى التّحيّة للملازم أوّل، سأل:
- خير سيّدي؟.. ماذا تأمر؟.
قال الملازم أوّل:
- اجمع لي الكلّ.. وخذ لي التّفقد، ونادي عليّ.
وحين خرج الرّقيب أوّل.. أردت أن أنهض.. فقد شعرت بالحياء، وأنا جالس في المكتب، بينما الجميع، في اجتماع، بما فيهم (الصّف ضبّاط).. لكنّ الملازم أوّل، أشار لي بيده، قائلاً:
- أنت ابقى هنا.. لا تخرج للاجتماع.. اشرب الشّاي، ريثما أعود.
خرج الملازم أوّل، من مكتبه، وبقيت وحدي، وأنا في غاية الحرج والارتباك.. الآن ماذا سيقولون عنّي رفاقي.. هم مجتمعون، وأنا جالس في المكتب؟.. سيتضايق منّي حتى (الصّف ضبّاط)، هل أنا أفضل منهم، لأكون مميّزاً عنهم، وعن الجميع؟.. وبسرعة، وجدتني قد نهضت، وخرجت من المكتب.. وعلى الفور، انضممت إلى الجمع، ووقفت بينهم.. بينما كان الرّقيب أوّل (حيدر) يصرخ:
- رتلاً ترادف.
وبعد الانتهاء من جمعنا، وترتيبنا، وتفقّدنا.. قدّم الصّفْ الرّقيب أوّل (حيدر)، إلى الملازم أوّل (هاني).. فتقدّم منّا الملازم أوّل، قائلاً:
- أنتم تعرفون لماذا أنا جمعتكم، في هذا الطّقس، والجوّ الماطر.. هناك واحداً منكم، أو ربّما أكثر من واحد، أقدم على سرقة (كالون المازوت) ، الذي يخصّ قيادة (السّريّةِ).. فمن هو البطل الشّجاع، الذي تجرّأ وقام بهذا الجرم؟.. أطلب منه أن يكون بطلاً بالفعل، ويخرج لعندي.. وأنا أقسم لكم بشرفي العسكري، لن أعاقبه، ولن أحاسبه.. بل سأعطيه نصف (المازوت)، لو اعترف بفعلته.. وأعاد (الكالون)، ولكن إن لم يعترف، وظلّ مختبئاً بينكم.. والله سأسحقه، هو وجماعته، الذين يشاركونه ويتستّرون عليه.. فمن كان يعرف من هو، يبلغ عنه ويكشفه.. لأنْ هذا الوغد هو سبب اجتماعكم هذا.. وأنا بكلِّ الأحوال، سوف أعرفه.. و إن لم يعترف، هو على نفسه.. أو إن لم يدلّني، عليه أحد منكم.. ففكروا بالأمر.. ومعكم فرصة للتفكير.. مدّة ربع ساعة.
قال هذا الكلام، الملازم أوّل (هاني)، ثمّ تحرّك نحو مكتبه، بعد أن طلب من حضرات (صفّ الضّباط)، أن يتبعوه إلى مكتبه.. وتركونا نحن العناصر، لكي نتّفق ونتشاور، أو إن كان السّارق سيعترف بفعلته، أو نحن سنكشف عنه، ونقوم بفضحه.
وبدأت بيننا الأحاديث، َو التّساؤلات، والتّحقيقات، والاستفهامات، والشّكوك، والظّنون، والتّفسيرات، والاتّهامات، والمشادّات،والمشاجرات، والتّهجمات، والصّرخات، والكلّ يسأل، ويحقق في الأمر:
- من هو الحقير، ابن الحرام، الذي سرق (المازوت) لسيادة الملازم أوّل؟.. وما ذنبنا نحن، لنجتمع هنا في العراء، وبهذا الطّقس، الشّديد البرودة؟!.
ويتصاعدُ الهتاف من الجهة الثّانية:
- من فعل هذا، هو بلا ضمير، و بلا وجدان، إنّه ابن زانية.. بل ابن كلب.. وحقير، و وسخ.
وانطلق صوت شبه باكٍ، يستعطف السّارق، ويتوسّل إليه، أن يعترف على نفسه.. لأنّ الملازم أوّل (هاني)، أقسم أنّه لن يعاقبه، لو أنّه اعترف على نفسه.. بل سيقاسمه (المازوت).
وخرجوا من المكتب، حضرات الصّف ضبّاط، وسيادة الملازم أوّل (هاني).. وتوجهوا نحونا.. فأسرع الرّقيب أوّل (حيدر حيدر)، لبصرخ بنا:
- انتبه.
فتجمّدنا في أماكننا.. بلا حراك.. وكنّا شاخصين إلى الملازم أوّل، الذي قال:
- هل وصلتم إلى نتيجة.. وعرفتم من هو السّارق؟.
فلم يأته جواب، من واحد منّا.
كان الملازم أوّل، بتمشّى بيننا وهو يسأل.. وحين لم يسمع رداً، قال:
- حسناً.. ذنبكم على جنبكم.. سهرتنا اليوم صباحيّة.. وخطيّتكم في رقبة ذاك الحقير السّارق.
ثمّ نادى بصوت آمر، وعال:
- الجميع يخلع ثيابه.. ويبقى في (الشّرط).. هيا.. وبسرعة.
صرخ المجند (نورس حماد)، بحدّة وانفعال:
- ولكن يا سيّدي.. تريدنا أن نتعرّى، في مثل هذا الجوّ الماطر؟!.. ما ذنبنا نحن إن كان بيننا ابن حرام، سارق؟!.
وجاءه صوت الملازم أوّل (هاني)، غاضباً، وصاعقاً:
- أخرس يا (نورس).. ونفّذ الأوامر.
وتعالتِ الهمهمات، والاحتجاجات، و(التّزمرات)، والآهات، والتّوسلات، والتّمرّدات، من كلّ جهة وصوب.. فنحن لسنا في (دورة أغرار)، لنتعاقب بهذه الطّريقة، وفي عزّ فصل الشّتاء، والبرد شديد، والجوّ ماطر، كان معظمنا قد اجتاز في خدمته، مرحلة طويلة، ودخل مرحلة الاحتياط، وكان بيننا من هم، من جماعة (الاحتياط المدني)، كبار في السّن، عندهم زوجات وأولاد،
فهل يجوز أن نتعاقب بهذه الطّريقة، بسبب حرامي مجهول؟!.
صرخ الملازم أوّل، على حاجبه (قزموز)، الذي كان يقف عند باب خيمتَه، يتفرّج علينا، وأمره:
- أحضر في الحال، (السّياط) المعلّقة، في المكتب.
شعرتُ بندم شديد، على انضمامي إلى رفاقي.. طلب منّي الملازم أوّل، أن أبقى جالساً في المكتب، قرب المدفأة المتوقّدة، انتظره وأنا أشرب الشّايِ السّاخن.. لكنَّني ظننت أن هذا الاجتماع، هو مجرّد اجتماع عارض، لن يطول.. مع أنّ الملازم أوّل (هاني)، قد أخبرني بأنّها ستكون (ليلة عصماء)، ولكنْي كنت مغفّلاً، لم أسمع كلامه، أردت أن أبدو محترماً، لا أستغلّ صحبتي، مع الضّباط الذي أقدره، وأحبّه.. فإن كانوا حضرات (صفّ الضّباط)، يحضرون هذا الاجتماع، فكان من الواجب عليّ، أن أحضره مع زملائي العساكر.
فكّرت أن أنسحب، أتسلّلُ إلى المكتب، وأعود إلى القرب من المدفأة، فقد بردت جداً، وها هي المطر تهطل بنعومة، سأحاول الانسحاب دون أن يلاحظني أحد، وتحرّكت بهدوء.. وحين أردت التّواري، خلف خيمة (الحاجب قزموز)، باغتني صوت (العرّيف خالد)، قبّحه الله، كم كنت أكرهه، منذ أن كان مدرباً علينا في دورة (الأغرار)، وكنت أعرف أنّه لا يحبّني، ويغار منّي، منذ كنت أخدم في (قلم)، قيادة الكتيبة، ثمّ اكتملت معي، حين وجدني، مقرّباً من الملازم أوّل (هاني).. كان يناديني باسمي:
- (مصطفى).. توقّف عندك.. ابقى مع رفاقك.
ظننت أن الملازم أوّل، سيقول لي:
- أذهب يا (مصطفى)، إلى المكتب، وانتظرني لنكمل لعبة (الشّطرنج).
لكنّه لم يحرّك ساكناً، رأيته ينظر إليّ، ولم يقل شيئاً.. تركني أقف مع هذا الحشد من رفاقي، تحت انهمار المطر.
وزع الحاجب السّياط، على الملازم أوّل (هاني) وجميع عناصر الصّف ضباط، وكان عددهم ستّة أشخاص، أقدمهم الرّقيب أوّل (حيدر حيدر)، صاحبي، فهو من سلّط عليّ الأضواء، منذ اللحظات الأولى لي، في دورة الأغرار.
انهال الملازم أوّل بسوطه، على كلّ من كان حوله، وقريب منه، بينما كان يصرخ، بقوة وغضب:
- نفذوا الأمر يا كلاب.. قلت لكم (اشلحوا) ثيابكم، وابقوا في (الشّرط).
وتبعه باقي صفّ الضباط، وهم ينهالوا على العساكر، الذين يفوق عددهم الخمسين عنصراً.. وأسرع الجميع، بما فيهم أنا، بطاعة الأمر، وخلع ملابسنا، ورميها على الأرض، الموحلة،والوسخة.
كان الأمر فظيعاً بالنسبة لي، فأنا لم أخضع لمثل هذه العقوبة، طوال خدمتي العسكريّة، كنت المميز والمدلّل منذ اللحظات الأولى، لالتحاقي في الجيش، والآن بعد أن أوشكت على إنهاء الخدمة، أتعرّض لهذا الأمر؟!.
أنا السّبب، غبائي قادني، إلى هذا
الموقف.. كان عليَّ أن أبقى في المكتب، أنعمُ بالدفء والاسترخاء، حول المدفأة، مع احتساء الشّايِ السّاخن.. والتّمتع بالاستماع عبر (الرّاديو)، إلى كوكب الشّرق (أمّ كلثوم)، التي قالوا لي عنها، (عماد، ومصباح)، بأنّها أفيون الشّرق.
أخذت أخلع عنّي ثيابي، وارميها على الأرض القذرة.. وأنا في حالة يرثى لها.
أنا أعرف الملازم أوّل (هاني)، طيب القلب وبعيد عن الظّلم.. فهو ابن عائلة ريفيّة فقيرة، يشعر ويحسّ، بما يحسّه الضعفاء والمقهورين.. وكذلك هم حضرات الصفّ ضباط.. أغلبهم فقراء، أو أولاد طبقة متوسّطة، وكذلك حال الرّقيب أوّل (حيدر)، فهو نازح من (القنيطرة)، ذاق مرارة القهر، والظّلم، فقط هو العريف (خالد)،يتمتّع بالحقارة
، واللؤم، والنذالة، والظّلم.
ولكن ماذا انتابهم الآن؟!.. يصرخون، ويلهبون، الظهور العارية بسياطهم، ذات الأكبال الرّباعيّة؟!.. كانوا يسلّطون علينا
مصابيحهم اليدويّة.. يرتدون ثيابهم، مع معاطفهم السّميكة، وقبّعاتهم، و (لفحاتهم)، التي تحميهم من البرد، و المطر.
صرنا ننبطح على الأرض الغارقة بمياه المطر.. ويطلبون منّا الزّحف، على بطوننا.. ويصرخون علينا:
- الصق بطنك بالأرض جيّداً.
والويل كلّ الويل، لمن يحاول أن يستند على ذراعيه، ويرفع بطنه قليلاً، عن ملامسة الأرض..ثمّ صدرت الأوامر:
- ضع يديك خلف ظهرك، وتابع الزّحف.
يا الهي!!.. يا ربّي!!.. ما هذا؟!.. ما الذي يحدث؟!.. متى كان الملازم أوّل هكذا، لئيماً، وظالماً؟!.. أكلّ هذا من أجل (كالون) من المازوت، وهو يعرف أنّه يقوم يظلم الجميع، بسبب شخص واحد حقير، وعديم الضّمير.
صوت لسعات السّياط، على الأجساد العارية، لم يتوقف.. وكذلك الأوامر الحازمة، تزداد قوّة، وعنفاً، وشراسة.. قمنا بتنفيذ التّمرين السّادس، والتّمرين التّاسع، وجثونا فوق الحصى، على الرّكب.. ثمّ ركضنا، وهرولنا، حول السّاحة التّرابيّة.. واستلقينا على ظهورنا.. والمطر آخذ بالهطول بغزارة، وتوسّخت أجسادنا، واصبنا بالجراح، والخدوش، والرّضوض، سال دمنا، خارت أجسادنا، تصاعد القهر من حناجرِنا، ذلّت نفوسنا.. وتعالتِ آهاتنا، وأنينّا، وأصواتنا الباكية.
كانوا لا يضربونني، فقط كانوا يسلّطون عليّ أضواءهم، وألمح ابتساماتهم.. فقط كانوا يبتسمون لي.. بما فيهم صديقي الملازم أوّل (هاني)، وصاحبي الرّقيب أوّل (حيدر)، الذي كنت أقدم له أكبر الخدمات، يوم كنت أخدم، في (قلم) قيادة الكتيبة.. فقد خصّصت له في كلّ يوم ثلاثة جرائد (البعث - الثّورة - تشرين)، فهو يحبّ القراءة.. في حين كنت أرسل، لقادة السّرايا، جّريدة واحدة.. وكنت أعطيه دائماً، دفتر إجازات مختوم، يستخدمها حين ينزل مغادرة، إلى (دمشق).
وحده العرّيف (خالد)، كان يحوّم حولي، يبحث عن فرصة سانحة، لينهال بسوطه المتوحّش على ظهري، لكنّ وجود (الملازم أوّل)، كان يمنعه، ويحرجه، فهو يخشى من انزعاجه، لأنّه يعرف مدى العلاقة التي تربطني به.
اللعنة عليّ، لحظة قرّرت الخروج من المكتب، لأكون مع رفاقي.. أحياناً تداهمني موجة غباء كريهة، أقع ضحيّتها، كما وقعت اليوم.. أنا ما الذي كان يجبرني على المشاركة، إن كان الملازم أوّل، قد سمح لي بالبقاء في المكتب؟!.. مّمن كنت أخشى وأخاف؟!.. أنا لا أحسب حساباً لأحد.. أنا محبوباً ومدلّلاً، عند قائد الكتيبة، وقائد اللواء، وقائد الفرقة.. ومعظم الضّباط، والمساعدون، وصفّ الضّباط.. فلماذا أوقعت نفسي في هذه الحفرة اللعينة؟!.. وكيف سأنجو منها الآن؟!.. يجب أن تنتهي هذه المهزلة، أو أجد حلّاً، على الأقل لأنقذ نفسي.
غادرنا الملازم أوّل (هاني)، إلى مكتبه.. تحدّثْ مع الرّقيب أوّل (حيدر)، وذهب، والآن حتماً سيرسل في طلبي، لأكمل معه لعبة (الشّطرنج).. فهو لا يستطيع الاستغناء عنّي.. هو يشعر من دوني بفراغ كبير، يحسّ بالوحدة، كلّ أكثر من شهرين يذهب إلى قريته السّاحليّة إجازة، مثله مثلنا، نحن العساكر.. وهو عازب بعد.. لم يتزوج، لكنّه يحبّ فتاة اسمها (نفيسة)، حدّثني عنها مطوّلاً، فهي تعمل ممرضة، في المشفى، أطلعني على صورها، ورسائلها، وهي ليست جميلة، ولكنّي لم أصارحه القول، أنفها طويل، وفمها واسع، وعيناها صغيرتان.. وحتى هي كبيرة في السّن.
كنت أنتظر وبفارغ الصّبر، قدوم
الحاجب (قرموز)، عيناي تراقبان خيمته، وأنا أنفذ الحركات الرّياضيّة، في هذا الظّلام الباكي، والمطر أغرقنا، أنا ورفاقي، حتى أن الصّف ضبّاط، صارت ثيابهم السّميكة، تقطر ماء.
تأخر مجيء الحاجب عن مناداتي، ترى ماذا يفعل الآن، بمفرده، الملازم أوّل (هاني)؟!.. ألم يتفقّدني؟!.. ألا يريد تكملة لعبة (الشّطرنج)؟!.. تراه هل نسيني؟!.. لا.. لا يعقل!!، فهو صديقي، ويحبّني.. ويفضّلني عن صحبة الضّباط، وصفّ الضّباط.. لعلّه جائع وأراد أن يأكل.. لكنه في كلّ مرّة، يضغط عليّ لأشاركه الطّعام.. إذاً ماذا حدث له، حتى لا يرسل حاجبه (قرموز)، لطلبي؟!.. أيعقل أنّه ذهب لقضاء حاجته، ربّما انصرف عنّا، لأنّه كان (مزنوقاً)، وبعد أن ينتهي، يرسل في طلبي.
صاح الرّقيب (حيدر):
- لا تظنّوا أن تعودوا إلى خيامكم، قبل أن يعود (كالون) المازوت.. وأنتم أحرار لا تعيدوه، ولا تكشفوا عن السّارق.
هتفّ المجنّد (عبد النّاصر أبو رأس):
- والله حرام عليكم، يا سيادة الرّقيب(حيدر)..نحن لسنا بالحراميّة
..ولا نتستر على ابن الكلب
(الحرامي).. آه لو كنت أعرفه، لكنت مزّقته بأسناني.. لكنّه جبان، ابن (قحبة).. وإن كنتم تريدون ثمن المازوت، فأنا أدفع لكم، المبلغ الذي يعجبكم.
زعق الرّقيب (عبد الكريم) منزعجاً:
- أخرس يا (عبد النّاصر).. ونفذ الأوامر.
اشتدْ هطول المطر فوقنا.. ولم يظهر (الحاجب).. وكانت جوارحي تنادي على الملازم أوّل (هاني)، أن يتذكّرني، ويبعث خلفي.. فأنا تعبت، وخارت قواي.. أنا في الأساس، معفيّ من دروس الرّياضة.. استلمت هنا مهمّة (عرّيف الحرس)، وبشكل يوميّ، حتى لا أشارك في دروس الرّياضة.
تجمّعوا الصّفّ ضبّاط، تكلّموا مع بعض، وتحدّثوا مع العرّيف (خالد)، ثمّ تحرّكوا صوب (البلوكس)، الخاص بهم، تركونا للعرّيف، الذي لا يطيقني، ولا أطيقه.. وكانت فرصة عظيمة، من ذهب له، فقد سنحت له الفرصة، ليتحكم بنا، ويتفنّن بعقوبتنا، وتعذيبنا.
وانهالت علينا أوامره المتلاحقة، اللئيمة، والحاقدة، واللا إنسانيّة، والسّاديّة:
- منبطحاً.. واقفاً.. جاثياً.. مستلقياً.. رملاً.. تابع ركض.. تابع زحف.. استلقوا على ظهوركم.. تمرين السّادس خذ وضع.. تمرين التّاسع نفذ.
وكان يضرب بسوطه، كلّ من يكون قريب منه.. يأمر، يصرخ، يشتم، يلعن، يسخر، يهين، يغلط، ويتهجّم.
والملازم أوّل (هاني)، معتكف في مكتبه.. ولم يرسل خلفي.. كان وكأنّه نسيني.. أو غير عابئ بي.. وكذلك حضرات الصّف ضبّاط، مختفون في (البلوكس)، الذي يقيمون فيه.
والسّماءُ تزمجرُ بالرّعد فوقنا، والمطر يهمي بغزارة على أوجاعنا.. لقد نال منّا التّعب.. انهارت قوانا.. اغتسلنا بمياه المطر، غرقنا في مستنقعات الأرض.. فمن أين جاءت كلّ هذه القسوة، للملازم أوّل؟!.. لم يكن هكذا.. ما الذي اعتراه؟!.. أكلّ هذا من أجل بضع لترات من المازوت؟!.. هو يعلم أن الجميع أبرياء من هذه التّهمة، باستثناء واحد منّا.. وربما يكون هذا الواحد، غير موجود بيننا.. قد يكون من قام بالسّرقة، هو الرّقيب المتطوّع (نديم)، مسؤول (التّسليح )، فهو يقبع في مخزنه، البعيد عنّا بعض الشّيء.. وربَّما كان الحرامي، هو (ابن كميّان)، عامل الإشارة في المقسم.. الجالس الآن في مقسمه.. أو قد يكون أحد الحارسين، حارس المحرس (الأمامي)، أو حارس المحرس الخلفي.. أو ربّما كان هو (عبد الغني كوجان)، المجنّد المريض(بالسلّ)
، فهو معفيّ من جميع اجتماعات، والعقوبات.. بل هو قيم في خيمة، بمفرده، خشية من أن يعدي أحد رفاقه.. ولماذا لا يكون اللص، هو الحاجب (قزموز) بذاته؟!.. كلّ شيء جاهز، وممكن.
صاح زميل لنا، وكان من جماعة
الاحتياط المدني، (علي عبد الوهاب)، وهو في عمر، يناهز الخامسة والثلاثين، متزوج ولديه أربعة أطفال، ثلاثة بنات، وولداً واحداً:
- تعبنا يا الله.. ارحمونا.. نحن لم نخون الوطن، ولم نبيع (الجولان)، حتّى تتعاملوا معنا، هكذا كالحيوانات.
قال هذا ونهضَ، من على الأرض.. رافضاً أن يكمل هذه العقوبة.
فصرخ به، حضرة العرّيف (خالد):
- انبطح على الأرض يا حيوان.. قبل أن أسلخ جلدك عنك.
وانبعثَ صوت آخر، في هذا الظّلام الدّاكن، يقول بعصبيّة:
- كفّوا عن عقوبتنا.. والله طلعت روحنا
.. ولم نعد قادرين على التّحمّل.
سرعان ما سلّط مصباحه، على مصدر الصّوت، العرّيف (خالد).. ليعرف من هذا، الذي تجرّأ على الكلام.
- أنت.. يا (كظكاظ)، عد وانبطح يا جبان.
وتعالت الأصوات، من أماكن عدّة.. غاضبة، ومتمرّدة، ومتحدّية.
وفكّرت بدوري أن أنهض.. وأن أرفض المتابعة.. لكنَّني تردّدت، فأنا محرج من الملازم أوّل (هاني).. لا أريده أن يقول عنّي، بأنّني استغلّ صحبتي معه.
قال العرّيف (خالد)، قبل أن يتوجّه، إلى مكتب القيادة:
- أنا سأريكم الآن.. انتظروني.. راجع لكم.
حين دخل العرّيف على الملازم أوّل، نهضنا من على الأرض.. وصرنا ننظّف أجسادنا، من الوحل العالق بها.. وأخذنا نتحدّث بصوت منخفض، عن ضرورة الاتفاق، على التضامن، على موقف واحد، وهو التّمردِ.. وعدم تنفيذ الأوامر
.. مهما كان، أو صار.
قال رفيقنا (أبو النّور)، يحرّضنا:
- كونوا رجالاً، وقولوا لا.. غداً قائد سرّيتنا (النّقيب نوفل)، لن يقبل هذه العقوبة، الظالمة، والتي هي بلا طعمة، ولا مبرّر.
وجاءني صوت رفيقنا ( فراس سوّاح):
- وأنت شاعر اللواء، (الواحد والستّون)، ما هو موقفك، ورأيك بهذه العقوبة؟!.
وانبعثَ.. صوت ابن خيمتي، (إبراهيم بتّوس) ضاحكاً منّي، بسخرّية، وتشفّي، ولؤم:
- بل قل شاعر الفرقة الخامسة.
وانفلتت من الجميع، الضّحكات التي تعبّر، عن السّخرية الكبيرة منّي.
تألّمتُ.. من موقفهم هذا، يغارون منّي، وأنا أعاقب مثلهم.. ماذا أفعل لأرضيهم؟!.. قلت لهم بصوت مختنق:
- أنا كنت عند الملازم أوّل، وطلب منّي أن أبقى في مكتبه.. لكنّني أردت أن أكون معكم.. فلماذا أنتم متحاملون عليّ؟!.
وقهقه القزم (أبو علي الأشول)، وهتفتُ بصوته العالي:
- ولكنّ الملازم أوّل (هاني)، لم يسأل عنك.. تركك بيننا تتعاقب، وتمسح بك الأرض!!!.
عندما خرج علينا، الملازم أوّل، من مكتبه، مع العرّيف (خالد).. كتمت ضحكات السّخرية، عند الجميع.. وساد بيننا صمت مخيف.
زعق الملازم أوّل، الذي كان في قمّة غضبه، وكان يحمل سوطه بيده:
- من هو الكلب، الذي رفض تنفيذ أوامر العرّيف (خالد)؟!.. إن كان رجلاً، يعلن عن نفسه، ويظهر لي هنا.
كان صمتُنا عالياً، بل توّقفنا عن التّنفسَ، واللهاث المتقطّع، وأعلنّا الإذعان والرّضوخ التّام.
فنادى الملازم أوّل، على حاجه (قزموز)، وأمره بالذّهاب لينادي، صفّ الضّباط،
ثمّ راح يسوط كلّ من كان حوله، وقريب منه.. فتبعه العرّيف (خالد)، بضربنا، وهما يصرخان:
- انبطحوا يا أنذال.. ودعوا بطونكم تلامس الأرض.
وقال الملازم أوّل، وهو منهمك في ضربنا، بسوطه:
- كنت على وشك أن أعفو عنكم، قبل أن يأتي لمكتبي العرّيف (خالد)، لكنّكم لا تستحقون.. ستبقون هكذا حتى مجيئ الصّباح.. يا سفلة.
و وصلوا حضرات صفّ الضّباط، مسرعين، يحملون سياطهم، فقال لهم الملازم أوّل، أريد أن يصل صوتهم، لعند العدو الغاشم.
وانهالت السّياط، والرّكلات، والمسبّات، علينا، بدون أدنى رحمة، أو شفقة.. وكأنّنا مجرمون، أو أعداء.. في حين غادر السّاحة، الملازم أوّل إلى مكتبه، تركنا أمانة، بين أيدي، حضرات صفّ الضّبّاط.
وفجأة.. صاح بنا الرّقيب أوّل (حيدر):
- الجميع.. واقفاً.
نهضنا.. ونحن نأمل بالانصراف.. لكنّه تابع قوله:
- الآن سنلعب لعبة جميلة.. سوف تعجبكم بالتأكيد.. وسأشرحها لكم.. انقسموا إلى قسمين.. القسم الأوَّل ينبطح على الأرض.. والقسم الثّاني سيقوم برفع قدميَّ رفيقه، الذي سيمشي على يديه، لحدِّ جدار المهجع، ثمّ يعود إلى هنا.. ويأتي دور القسم الثّاني، ويتم تبادل الأدوار، في المشي على اليدين.. وكلّ من لا ينفّذ، بشكل جيّد، سيعاقب، ويحلق شعره على الصّفر.
كان من استلقى أمامي، هو ابن خيمتي (إبراهيم بتّوس)، حملت قدميه، وصار يمشي بواسطة يديه، على الأرض الموحلة، التي تغصّ بالحصى، والأوساخ، وقطع الزّجاج الجارحة.
وعندما جاء دوري.. وجدت في هذا إهانة، وذلٍّ، وتكسير رأس.. فصعب عليّ الأمر.. فقرّرت أن أرفض التّنفيذ.. مهما صار، وكان.
صاح بي، العرّيف (خالد) :
- استلقي.. صار دورك.
لم أرد عليه.. ولم أنفذ.
كرّر قوله بغضب.. بينما كان يهمّ بضربي بسوطه:
- قلت لك انبطح.
صرخت بأعلى صوتي:
- لن أفعل.. لن أنفّذ.. قسماً سأذهب إلى سيادة قائد اللواء، العميد (منير).
وجاء الرّقيب (حيدر).. ليقول لي بصوت فيه عتب:
- نفّذ الأوامر يا (مصطفى)، لا تقع في الخطأ. صحت:
- ما بكم؟!.. لماذا كلّ هذه العقوبة؟!.. هل نحن أسرى حرب؟!.. حرام عليكم.. صبرنا، ونفّذنا كلّ ما طلبتم منّا.. لكنّكم وحوش.. لا تكتفون.. ولا تشبعون.
قال الرقيب أوّل (حيدر):
- أنت بالذات، سأترك أمرك، لسيادة الملازم أوّل (هاني).
علاقتي بالرّقيب أوّل (حيدر)، ممتازة على مدار خدمتي، منذ أكثر من سنتين، فهو من استقبلني في دورة الأغرار، واكتشف الكتب الموجودة في حقيبتي، وعرف إنّي أكتب الشّعر، فقدّمني لرملائه صفّ الضباط، وللضبّاط، ولقائد الدّورة، وبفضله كنت معفيّاً من العقوبات، ودرس الرياضة الصّباحي الشّاق، ومشاركتي في الاحتفال بمناسبة، (الحركة التّصحيحيّة)، وبسبب هذا، تمّ فرزي بعد انتهاء الدّورة، التي استمرّت ما يقارب الأربعة أشهر، إلى التّوجيه السّياسي، في (قلم) قيادة الكتيبة، في (عين ذكر)، وبعدها بدأت أردّ له الجميل.. صرت أبعث له إلى هذه السّريّةِ، الجرائد، والمجلات، وأغامر وأعطيه الإجازات المختومة.. وحين انتقلت إلى هنا (صيدا
الجولان)، استقبلني، واستضافني، مع زملائه صفّ الضّبّاط، عدّة أيّام، حتى تمَ نقلي إلى خيمتي، مع جماعتي، (الم.. دال).. وهنا ساعدني، لكي أتخلّص من نوبة الحرس، ودرس الرّياضة، التي لا أطيقها، وتمّ تكليفي بمهمة (عرّيف الحرس)، خاصة بعد أن رآني أحبُّ سهر الليل، لأمارس الكتابة والقراءة.. ومع هذا وجدته اليوم يتخلّى عنّي، مثلما تخلّى عنّي الملازم أوّل (هاني)، ولا أفهم ولا أعرف السّبب، في هذا.
كان بإمكان الرّقيب أوّل (حيدر)، أن ينقذني من هذه العقوبة الجماعيّة.. أن يرسلني لتفقّد الحرس مثلاً، أو لأن أفتّش الخيم، والمهاجع، و (البلوكسات) عن (كالون) المازوت.. أيضاً كان بإمكان الملازم أوّل (هاني)، أن يعيدني إلى مكتبه، أو يرسلني في أيّة مهمّة.. لقد خذلاني، وتراني!!.. فما أقسى قلبيهما
؟!.
خرج الرّقيب أوّل (حيدر)، من مكتب الملازم أوّل.. وأعطى إشارته لجميع العناصر بالانصراف، إلّا أنا.. فأسرعوا العناصر فرحين، بانتهاء عقوبتهم، وأخذوا يلمّون ثيابهم، وأحذيّتهم.. بينما كان الرّقيب أوّل (حيدر)، يقول لي:
- لقد أمر الملازم أوّل (هاني)، برفعك فلقة، وجلدك على قدميك، خمسة عشر جلدة، على يد العرّيف (خالد)، ثمّ بحلاقة شعرك على (الزّيرو)، وبعدها تدخل لعنده.
صعقتُ!!!.. تفاجأتُ!!!.. دهشتُ!!!.. جننتُ!!!.. يا الله ماذا أسمع؟!.. أمعقول يحدث هذا معي؟!.. وأنا الذي أتيت إلى العقوبة بنفسي!..
صرختُ.. وفي حنجرتي، كلّ القهر، والمرارة، والخيبة:
- لا...
وبإشارة، من الرّقيب أوّل (حيدر)، وجدت الصّف ضبّاط يمسكون بي، ويرموني على الأرض.. ويرفعون أقدامي إلى الأعلى، وهم يثبّتوني بقوّة.. ويبدأ العرّيف (خالد)، الذي كان سعيداً وفرحاً، بهذه الفرّصة المنتظرة، بضربي على قدميَّ، المبلولتين بمياه المطر.
كانت الضّربة موجعة.. مؤلمة.. لاسعة.. ملتهبة.. حامية.. عنيفة.. قويّة.. لئيمة.. فصرختُ باكياً:
- آه.. آه.. آه.
ولمحتُ ابتسامة، على شفتيَّ العرّيف (خالد)، وأنا في غاية التألم، والتّوجّع، والبكاء المثتغيث.
- اتركوني.. اتركوني.. توقّف عن ضربي يا (عرّيف خالد).. يا سيّدي (هاني).. يا حضرة الرّقيب (حيدر).. توقّفوا أرجوكم.. أقدامي تمزّقت.
وكان السّوط يهوي، على قدميّ.. والمطر يتساقط على وجهي.. والسّواعد تمسك بي بقوة وغلاظة.
وقال العرّيف، هذه آخر جلدة، وكانت فظيعة، وقويّة، ومميتة.
ثمّ راحوا، يطلبون منْي، أن أنهض، وأركضُ، لكي لا تعضّل رجلاي.. وحينما لم أنهض.. أخذ العرّيف (خالد) يضربني على جوانبي، حتى يرغمني على النّهوضَ، والرّكض.
كنتُ أصرخُ.. وأتوّجع.. وأتأوه.. وأبكي.. وأنتحبُ.. بمرارةٍ، وقهر، وذل.
وهم يضحكون، ويتغامزون.
ثمّ نادوا على الحاجب (قزموز)، وحين جاء، طلبوا منه أن يذهب إلى المهجع الكبير، وينادي على (عبّود جبّولي)، حلاق السّرية، وقالوا له:
- أطلب منه، أن يحضر معه، عدّة الحلاقة.
نسيت ألمي وقفزتُ، أريد مقابلة الملازم أوّل (هاني)، فأنا لا يمكنّني أن أحلق شعري، على (الصّفر)، شعري خفيف ولا ينمو بسهولة.. لكنّهم أوقفوني، ومنعوني، من مقابلة الملازم أوّل، قالوا:
- ممنوع أن تدخل عليه، قبل أن تحلق شعرك.
مستحيل أن أحلق شعري.. عليهم أن يقتلوني أولاً.. و أن يرمونني بالرّصاص.
ليتني لم أنتقل، وأترك (قلم الكتيبة).. هناك على الأقل.. ندم العم (أبو رشيد)، وحتى ( غسّان)، اعتذر منّي.. واعترف لي، بأنّه كان يغار منّي.
وحين أغمضتُ عينايّ.. أبصرتُ أنّ جيش العدو.. يقترب، ويكتسح بقوّةٍ، الحدود، ويبسط هيمنته، على سائر بلدان الوطن، الحليق الشّعر.*

مصطفى الحاج حسين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى