سمير لوبه - الصياد الأخير...

مع أمواج تتكسر على الصخور الكبيرة التي تحيط بالشاطئ، تأتي رياح محملة برائحة البحر تدفعها إلى أنفاس السائرين على الرمال، على شاطئ ذلك البحر يسكن جدي الصياد ، في مدينة تحتضن البحر بين ذراعيها، تحتفل بقدومه وتودعه في كل يوم ، جدي ذلك الصياد العتيق واحد من الصيادين الذين يجلسون في المساء على رمال الشاطئ يضعون براد الشاي وسط نيران أخشاب أحرقوها في حفرة رمال ، عيونه غارقة في البحر، ينظر إلى الأمواج وكأنّها تأخذه إلى مكان بعيد، إلى زمن آخر، وبينما الغروب يلوّن السماء بألوانه البرتقالية القانية، يتداخل صوت جدي مع الرياح وهو يروي لرفاقه حكايات عن صيد العواصف وهم حوله يشربون الشاي ، يحكي لهم عن الأيام التي لا يرحمهم البحر فيها ، وكيف يواجهه بشجاعة لا مثيل لها، يستمع الجميع إليه باهتمام يتنفسون كل كلمة تخرج من فمه، بينما عيونهم تنغمس في الحنين إلى الماضي :
- في تلك الأيام، كان البحر يعشق شجاعة الرجال ، لم يكن أمامنا إلا أن نواجهه بحزم، العواصف تجتاح مراكب الصيد تحبس الأنفاس، لكننا نركبها كما يركب الفارس جواده، الأمواج عالية تصفع مراكبنا ، ورغم ذلك نغوص في الأعماق بحثاً عن الرزق .
كلماته تتردد بين الصيادين مملوءة بالفخر والتحدي، لكن في عيون جدي يسكن شيء آخر، شيء يتجاوز الكلمات، وكأن البحر جزء من روحه، فالصياد ليس مجرد شخص يحيا على اليابسة بل جزءاً من البحر، يعيش فيه كما تعيش الأسماك، ومع مرور الوقت تبدلت الأيام ، تغيرت الأمواج، وغابت الألوان ، وذات يوم رحل جدي تاركا ذكريات على رمال الشاطئ ، كل شيء أصبح خامداً، في ذلك اليوم زرت الشاطئ الذي طالما عرفت أمواجه ورماله ، وقفت على الرمال، وتنشقت هواء محملا بملح البحر، فشعرت بصوت جدي في الأفق يناديني:
- لا تخف، أنا العاشق لمدينة الشتاء، عاشق البحر الذي يحمل الأسرار والحكايات.
غادر جدي هذا العالم، وترك وراءه الصيادين يحملون أصداء حكاياته، جاءه الموت على حين غرة، لم يترك لجدي فرصة ليودع البحر، مدّ الموت يده إليه وحمله بعيداً، فغسّله الصيادون بماء البحر كما كان يحب، غطّوا نعشه بشبكة تفوح منها رائحة البحر مثلما تمنى ، وبينما يسيرون وراء جنازته في صمت تام تلفهم ثيابهم البالية ، لم يتحدثوا عن الموت، ولم يتحدثوا عن الحياة ، فقط تحدثوا عن رغيف الخبز الذي أصبح حلمًا بعيدًا، دار حديثهم كله عن الجوع، ساروا بصمت، لم يكن في المدينة كلها إلا أصداء همساتهم، وبينما الجميع يسير خلف الجنازة في خطى متثائبة ، والبحر يلتهم السماء في لحظة الغروب، إذا بظل طويل يمر بجانبهم، لتظهر هالة من الضوء تلمع في الأفق، وقف الجميع فجأة، وفي أعينهم شكوك، هل هذا هاجس؟ أم أن البحر جاء ليسترجع أحد أبنائه ؟
اقترب الظل شيئًا فشيئًا، وفي لحظة توقف كل شيء ، فإذا بأمواج البحر تحتضن الجنازة ، فيختفى النعش، واختفى معه جدي الصياد ، في حين ظل الشاطئ صامتًا، كما لو أن البحر قد ابتلع كل الذكريات، وكل الحكايات، وكل الأحلام التي غاصت في الأعماق؛ يذرف دموعه على رحيل آخر الصيادين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى