ذات أصيل مشمس ، نفضت منيرة بأناملها الرّقيقة ضريعا عالقا بصخرة مستوية ، كثيرة الثّقوب كأنّها إسفنجة و جلست عليها راجية أن تشعر بفيض من الرّاحة بعد يوم شاقّ على مقاعد الدّراسة بالجامعة . تفحّصت حذاءها الرّياضيّ الّذي هرّأه المشي و أبلاه الطّريق الفاصل بين منزلها و ميناء سيدي زايد ثم خلعته على مهل و وضعته بجانبها حتّى لا تجرفه المياه و ترحل به بعيدا و بعيدا .
ها هي تهيم في تأمّل البحر السّاكن ، الصّقيل كالمرآة بعينين مترعتين بالإعجاب و قلب طافح بالغبطة دون أن تغفل عن تحريك ساقيها البضّتين النّاعمتين في مياهه الصّافية ! ما هذا النسيم الرّقراق ؟ ما هذا الهمس الوديع للموج ؟ ما أروع البحر حين يطلّ عليه العشّاق وما أشد ظلمته حين تطلّ منه الذكريات وتنكسر على ضفافه الأحلام. كم كانت تتمنّى أن يكون عشيقها خالد بجانبها يكسر شوكة وحدتها بمزاحه و مداعباتــه و ضحكاته الرّنّانة فهو ممراح ، طروب ، خفيف الظّلّ لكن مع الأسف الشّديد فهو بعيد عنها يشتغل تاجرا في سوق العطّارين قرب جامع الزّيتونة المعمور! .
انبرت منيرة تحدّق في البحر برومانسيّة ساحرة تترجم مدى شغفها بجمال الطّبيعة فلا غرابة أن تكون على هذا النّحو بما أنّ الله سبحانه و تعالى قد وهبها حسنا فائقا و قدّا ممشوقـــــــــا و خيالا خصبا و إحساسا رهيفا ، راقيا يؤهّلها أن تكون في يوم من الأيّام رسّامة بارعة ، متألّقة لها عبقريّة خلاّقة ، مجنّحة : هذه قوارب راسية على الشّاطئ تحوم حولها نوارس مزدانة ، شجيّة الأصوات ، لا تتوانى في البحث عن سمك يدفع عنها غائلة الجوع . و في تلك الأعماق قرب رأس الرّمل سفن شراعية سريعة الحركة على متنها بحّارة شجعان خبروا البحر و ألفوا الصّيد فيه دون كلل أو ملل يحدوهم صبر جميل و أمل نيّر . إن يحالفهم الحظّ تمتلئ شباكهم بالأسمــاك و تكتنز جيوبهم بالأرباح الطّائلة و إن يشحّ البحر و يقتّر عليهم في الرّزق يعودوا بخفّي حنين جارّين أذيال الخيبة.
و بينما هي كذلك تتأمّل ذلك البحر الممتدّ أمامها في انبهار و هي تصغي إلى موسيقى عربيّة ، عذبة عن طريق هاتفها الجوّال إذ لاح لها صيّاد مديد القامة ، نحيف الجسم ، على ما يبدو من خلال ملامحه أنّ سنّه أناف عن الثّلاثين . نزل من زورقه الصغيــــــر و طفق يشقّ عباب البحر في ترنّح و هو مشمّر على سرواله المتهرّئ الّذي ابتلّت أطرافه . كان خفيض الرّأس ، بطيء الخطو ، يخفي في صدره أسى شديدا و يحمل على كتفه سلّة ملآى بالأسماك .
و ما إن أشارت إليه منيرة بسبّابة يدها اليمنى حتّى استجاب لندائها دون تردّد و هو باسم الثّغر ، طلق المحيّـــا . و فور وصوله إليها حيّاها في أدب و بقي يسترق النّظر إليها و هو شارد الذّهن من خلال ثقوب مظلّته البالية فبدت له فاتنة ممشوقة القوام ، ضامرة الخصر ، آية في الحســـــــن و قمّة في الجمال . لهذه الفتاة الهيفاء وجه مستدير كالبدر به مقلتان زرقـــاوان و أنف دقيق شامخ في الفضاء و ثغر منبلج البسمات تطلّ منه أسنان مرصّفة ، ناصعة البياض كأنّها الثّلج . ليتها تكون زوجته تواسيه في الرّخاء و الشّدّة فيزول تبرّمه من الحيــــــاة و يرنو إلى الشّمس المضيئة ساخرا من فداحة الفقر و مقت الحرمان و تعثّر الطّالع و خيبات الأمل الّتي تلاحقه مثل ظلّه !
تفرّست منيرة ذات العشرين سنة في وجهه القمحيّ و عينيه العسلتيــــــــــن و أطماره الباليــــــة و هي تداعب بأصابعها النّحيفة خصلة صفراء متمرّدة فوق جبينها الوضّاح ثمّ شرعت في الحديث معه بكلّ تلقائيّة ، على وجهها بشر و في بريق عينيها فــــــــرح و على لسانها قول جميل .
– « هل كان الصّيد وفيرا هذا اليوم ؟ »
– « كما ترين يا سيّدتي فسلّتي و الحمد لله ملآى بالسّمك و الحبّار»
– « اجلس بجانبي لنيل نصيب من الرّاحة بعد عناء الصّيد »
– « بكلّ سرور لكن ما اسمك فأنا اسمي بشير »
– « اسمي منيرة و لكنّني بين أهلي و رفاقي أكنى بـــ « منّو» . من فضلك كم كتلة هذه الأسماك الطّازجة ؟ »
– « حسب التّقريب خمسة كيلوغرامات »
– « بعني إيّاها بأيّ ثمن تقترحه عليّ »
– « أيّتها الحسناء هذا السّمك سيكون هديّة متواضعة لك »
– « يا لك من جواد لكن أنا لا تسمح لي عزّة نفسي بأخذ هذا السّمك دون مقابل »
أدارت يدها في جيب سروالها الأزرق فلم تعثر إلاّ على دراهم معدودة لا تفي بالحاجة . سكتت دقائق معدودة و هي منغمسة في تفكير عميق ثمّ أردفت قائلة و هي في أوجى تحسّرها :
– « مع الأسف الشّديد فأنا لا أملك الآن إلاّ بضعة دنانير فهل تقبل المقايضة ؟ »
– « ماذا تعنين بكلمة مقايضة ؟»
– « سأبادلك تلك الأسماك بهذا الهاتف الجوّال الأحمر اللّون من نوع ( سمسونغ ) بعد تخليصه من شفرته و بطاقة ذاكرته فما رأيك في هذا الاقتراح ؟ »
– « اقتراح وجيه فأنا لا أجرؤ على مناقشتك فالمهمّ بالنّسبة لي أن تكوني مبتهجة ، سعيدة »
في الحين تسلّم بشير الهاتف الجوّال و أودعه في جيب قميصه و هو يكاد يطير من شدّة الفرح ثمّ احتسى كأسي خمر من قارورة «مرناق» كانت مدسوسة في القفّة تحت السّمك . امتعضت منيرة من وقاحته و استوت قائمة محاولة الفرار و هي تنعته بأبشع النّعوت :
– « أيّها الحقير كيف تسمح لنفسك بشرب الخمرة أمامي ؟»
– « إنّها تجلّي عن النّفـــس الحزن و الكدر و تجلب إليها المسرّة و النشوة . هل أملأ لك كأسا من هذه الخمرة اللّذيذة ؟ »
– « لا و ألف لا . إن الهروب من الهموم والأحزان ليس حلاً ولكنّ الحلّ يكمن في علاج المشاكل بحكمة و رويّة . فيما يخصّ السّرور الّذي تجلبه الخمرة لشاربها فهو سرور مزيّف يعقبه إحبــــاط و شجن و ذلّ و تحسّر »
– « لا داعي للوعظ و الإرشاد فنحن لسنا في جامع. هيّا استمتعي بجرعات من هذه الخمرة فهي لن تسكرك »
– « تبّت يداك أيّها الرّكيك فمتى كنت أشرب الخمرة فأنا لا أتحمّل حتّى النّظر إليها ؟ هيّا اغرب عن وجهي لأنّ رائحتك كرائحة النّسناس »
لم يتحمّل بشير المذلّة و الطّرد فانتفخت أوداجه واختلج جفناه و تطاير الشّرر من عينيــــــــــه و انفرجت شفتاه في عصبيّة:
– « ما هذا الشّتم المقذع ؟ الرّجل لا يهان لا يهان »
– « أعوذ بالله … أعوذ بالله … أنت شيطان رجيم تغويني و تغريني بأمّ الخبائث »
لوى لها يدها في عنف صارخ حتّى كاد يخلع كتفها و اختطف منها في طرفة عين قبلتين في نكهة العسل و حاول أن يضمّها إلى صدره ضمّا شديدا للنّيل من شرفها لكنّها صدّته بكلّ ما أوتيت من قوّة و عفّة دون أن تستسلم لغرائــزه البهيميّة و نواياه الدّنيئة .
ها قد انتصرت منيرة انتصار الأبطال على هذا الوحش الكاسر الّذي سوّلت له نفسه تدنيس شرفــــــــها و نشب براثنه في جسدها الطّاهر . إنّها لطمته بأعجوبة مذهلة لطمة قاسية كادت ترحل به إلى عالم الأموات ثمّ طرحته أرضا و مرّغت وجهه في الرّمل و دسّته فيه .
لم يستسلم بشير لليأس و لم يذعن إلى الهزيمة بأيّة حال من الأحوال بل استجمع قــــــــواه و انتصب واقفا كالصّلّ و هو يرغـــي و يزبد و يتوعّدها بالانتقام :
– « الويل لك لن تفلتي من قبضتي أيّتها الباغية ، الطّاغية . سأمعّكك كما أشاء في هذه الرّمال الزعفرانيّة و أنال مبتغاي في منتهى اليسر ثمّ أشجّ رأسك بقاع هذه القـــــــــــارورة . و عند تيقّني من موتك أرمي بك في اليمّ لتكوني لقمة سائغة للحيتــان »
– « أيّها المجرم إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت»
– « سأريك ما يفعل الرّجال يا بذيئة اللسان و عديمة المعروف و الإحسان »
و عندما سمعت منيرة هذا التّهديد الشّرس تحصّنت خلف سفينة حديثة الطّــــــــلاء لم يجفّ بعد دهنها الأزرق و الأبيض و حدجته بنظرات حادّة فيها كثير من التحــــــــــدّي و الجرأة .أمسكت حجارة مذبّبــــــــــة و همّت بتفضيخ جمجمته أفظع تفضيخ كي يكون عبرة لغيره لكنّها في آخر لحـــــــظة استعاذت بالله من كلّ شيطان رجيم و عدلت عن ذلك السّلوك الأرعــــن الّذي يمكن أن يشوّه سمعتها بين النّاس و يدخلها إلى السّجن .
من ألطاف الله صحا بشير من سكره فكظم غيظه و حنقه و استعــــاد توازنـــــــــه و افترّ ثغره عن ابتسامة عذبة . أزال العفر عن وجهه و دنا من منيرة بخطوات ثابتة خالية من الترنّح و التعثّر . كان يلوّح لها بيده مبتسما و هو ينطق بكلام معسول نابع من الوجدان الغاية منه العفو و تهدئة الخواطر:
– « هل تسمحين لي بأن أقبّل يدك »
– « لا فأنا أخاف من غدرك »
– « من الآن اعتبريني صديقا حميما »
– « حتما يا صديقي الجديد غير أنّني أنصحك بأن لا تكون فظّا غليظ القلب بالخصوص مع النّســاء »
– « هل عفوت عنّي رغم كلّ ما حصل بيننا في الشّجار؟»
– « نعم و أنت هل ستسامحني؟ »
– « بلى إِنَّ الله عُفُوٌّ كَرِيمٌ يحِبُّ الْعَفْوَ »
– « يدي ممدودة تنتظر قبلتك »
– « ما أشهى هذه القبلة و ما أنبل العفو عند المقدرة »
– « هل تعرف أنّ المرأة كالنّحلة تصنع العسل إذا أحبّت و تلسع إذا كرهت ؟ »
– « لا أعلم بذلك و من الآن فصاعدا عليّ بالاستقامة حتّى أتجنّب لسعاتك المؤلمــــــــة . آن الأوان أن أودّعك أيّتها الصديقة الفاضلة ثمّ أنصرف »
– « إلى لقاء آخر من وحي الصّدف فربّ صدفة خير من ألف ميعاد »
و جاء الغروب ليكمل تزويق اللّوحات الرّومانسيّة الّتي حاكها البحر بأمواجه و هو متربّع على عرشه . ها هي منيرة تتمعّن في الشّمس و هي تسعى إلى مغربها جارّة فستانها الأحمر في خجل . غاب قرص الشّمس في خيلاء مودّعا الأفق الجميل فانتشى الشفق بلون الورود و تسلّل الليل البهيم و هو يتبختر في مشيته متباهيا بثوبه الأسود القشيب . لقد أنبأت لحظات الغروب سميرة بأنّ النّهايات أكثر حرارةً من البدايات، وأنّ ساعات الوداع أكثر حرقةً من ساعات التهليل والاستقبال.
و ما إن أرخى اللّيل سدوله و سحب الظّلام في الكون ذيوله حتّى انتابت محمّدا حيرة شديدة فالتحق سريعا بابنته منيرة على متن سيّارته الفخمة . أبصرها تسير بخطى حثيثة على المسلك الرّياضيّ المحاذي للبحر و في يدها سلّة .أوقف سيّارته على قارعة الطّريق و دعاها للركوب و هو عابس الوجه ، مقطّب الجبين :
– « عجّلي بالركوب أيّتها الحمقاء »
– « حسنا لكن عليّ أوّلا أن أضع سّلّة الأسماك في صندوق السّيّارة »
أثناء السّير سألت منيرة أباها في منتهى اللّطف و الرّقّة و هي منشرحة الصّدر تعلو وجهها علامات الغبطة و السّرور :
« هل أنّ كلّ فتاة تعود إلى بيتها في وقت متأخّر غبيّة ؟ » –
– « أنا واثق من ذلك تمام الوثوق لأنّ الأمن في بلادنا و البلدان المجاورة هشّ يستدعي المزيد من الحيطة و الحذر»
– « لن ألهيك طويلا بالحديث حتّى تحافظ على تركيزك أثناء السّياقة لكن سأكتفي بالقول لك أنّ الإرهاب في طريقه إلى الاضمحلال و الزّوال »
– « أعدّي لنا أنت و أمّك سمكا مشويّا و سلطة بالحبّار فعصافير بطني تزقزق »
– « لك ما أردت فأنا سأحقّق كلّ طلباتك يا أغلى أب ».
ها هي تهيم في تأمّل البحر السّاكن ، الصّقيل كالمرآة بعينين مترعتين بالإعجاب و قلب طافح بالغبطة دون أن تغفل عن تحريك ساقيها البضّتين النّاعمتين في مياهه الصّافية ! ما هذا النسيم الرّقراق ؟ ما هذا الهمس الوديع للموج ؟ ما أروع البحر حين يطلّ عليه العشّاق وما أشد ظلمته حين تطلّ منه الذكريات وتنكسر على ضفافه الأحلام. كم كانت تتمنّى أن يكون عشيقها خالد بجانبها يكسر شوكة وحدتها بمزاحه و مداعباتــه و ضحكاته الرّنّانة فهو ممراح ، طروب ، خفيف الظّلّ لكن مع الأسف الشّديد فهو بعيد عنها يشتغل تاجرا في سوق العطّارين قرب جامع الزّيتونة المعمور! .
انبرت منيرة تحدّق في البحر برومانسيّة ساحرة تترجم مدى شغفها بجمال الطّبيعة فلا غرابة أن تكون على هذا النّحو بما أنّ الله سبحانه و تعالى قد وهبها حسنا فائقا و قدّا ممشوقـــــــــا و خيالا خصبا و إحساسا رهيفا ، راقيا يؤهّلها أن تكون في يوم من الأيّام رسّامة بارعة ، متألّقة لها عبقريّة خلاّقة ، مجنّحة : هذه قوارب راسية على الشّاطئ تحوم حولها نوارس مزدانة ، شجيّة الأصوات ، لا تتوانى في البحث عن سمك يدفع عنها غائلة الجوع . و في تلك الأعماق قرب رأس الرّمل سفن شراعية سريعة الحركة على متنها بحّارة شجعان خبروا البحر و ألفوا الصّيد فيه دون كلل أو ملل يحدوهم صبر جميل و أمل نيّر . إن يحالفهم الحظّ تمتلئ شباكهم بالأسمــاك و تكتنز جيوبهم بالأرباح الطّائلة و إن يشحّ البحر و يقتّر عليهم في الرّزق يعودوا بخفّي حنين جارّين أذيال الخيبة.
و بينما هي كذلك تتأمّل ذلك البحر الممتدّ أمامها في انبهار و هي تصغي إلى موسيقى عربيّة ، عذبة عن طريق هاتفها الجوّال إذ لاح لها صيّاد مديد القامة ، نحيف الجسم ، على ما يبدو من خلال ملامحه أنّ سنّه أناف عن الثّلاثين . نزل من زورقه الصغيــــــر و طفق يشقّ عباب البحر في ترنّح و هو مشمّر على سرواله المتهرّئ الّذي ابتلّت أطرافه . كان خفيض الرّأس ، بطيء الخطو ، يخفي في صدره أسى شديدا و يحمل على كتفه سلّة ملآى بالأسماك .
و ما إن أشارت إليه منيرة بسبّابة يدها اليمنى حتّى استجاب لندائها دون تردّد و هو باسم الثّغر ، طلق المحيّـــا . و فور وصوله إليها حيّاها في أدب و بقي يسترق النّظر إليها و هو شارد الذّهن من خلال ثقوب مظلّته البالية فبدت له فاتنة ممشوقة القوام ، ضامرة الخصر ، آية في الحســـــــن و قمّة في الجمال . لهذه الفتاة الهيفاء وجه مستدير كالبدر به مقلتان زرقـــاوان و أنف دقيق شامخ في الفضاء و ثغر منبلج البسمات تطلّ منه أسنان مرصّفة ، ناصعة البياض كأنّها الثّلج . ليتها تكون زوجته تواسيه في الرّخاء و الشّدّة فيزول تبرّمه من الحيــــــاة و يرنو إلى الشّمس المضيئة ساخرا من فداحة الفقر و مقت الحرمان و تعثّر الطّالع و خيبات الأمل الّتي تلاحقه مثل ظلّه !
تفرّست منيرة ذات العشرين سنة في وجهه القمحيّ و عينيه العسلتيــــــــــن و أطماره الباليــــــة و هي تداعب بأصابعها النّحيفة خصلة صفراء متمرّدة فوق جبينها الوضّاح ثمّ شرعت في الحديث معه بكلّ تلقائيّة ، على وجهها بشر و في بريق عينيها فــــــــرح و على لسانها قول جميل .
– « هل كان الصّيد وفيرا هذا اليوم ؟ »
– « كما ترين يا سيّدتي فسلّتي و الحمد لله ملآى بالسّمك و الحبّار»
– « اجلس بجانبي لنيل نصيب من الرّاحة بعد عناء الصّيد »
– « بكلّ سرور لكن ما اسمك فأنا اسمي بشير »
– « اسمي منيرة و لكنّني بين أهلي و رفاقي أكنى بـــ « منّو» . من فضلك كم كتلة هذه الأسماك الطّازجة ؟ »
– « حسب التّقريب خمسة كيلوغرامات »
– « بعني إيّاها بأيّ ثمن تقترحه عليّ »
– « أيّتها الحسناء هذا السّمك سيكون هديّة متواضعة لك »
– « يا لك من جواد لكن أنا لا تسمح لي عزّة نفسي بأخذ هذا السّمك دون مقابل »
أدارت يدها في جيب سروالها الأزرق فلم تعثر إلاّ على دراهم معدودة لا تفي بالحاجة . سكتت دقائق معدودة و هي منغمسة في تفكير عميق ثمّ أردفت قائلة و هي في أوجى تحسّرها :
– « مع الأسف الشّديد فأنا لا أملك الآن إلاّ بضعة دنانير فهل تقبل المقايضة ؟ »
– « ماذا تعنين بكلمة مقايضة ؟»
– « سأبادلك تلك الأسماك بهذا الهاتف الجوّال الأحمر اللّون من نوع ( سمسونغ ) بعد تخليصه من شفرته و بطاقة ذاكرته فما رأيك في هذا الاقتراح ؟ »
– « اقتراح وجيه فأنا لا أجرؤ على مناقشتك فالمهمّ بالنّسبة لي أن تكوني مبتهجة ، سعيدة »
في الحين تسلّم بشير الهاتف الجوّال و أودعه في جيب قميصه و هو يكاد يطير من شدّة الفرح ثمّ احتسى كأسي خمر من قارورة «مرناق» كانت مدسوسة في القفّة تحت السّمك . امتعضت منيرة من وقاحته و استوت قائمة محاولة الفرار و هي تنعته بأبشع النّعوت :
– « أيّها الحقير كيف تسمح لنفسك بشرب الخمرة أمامي ؟»
– « إنّها تجلّي عن النّفـــس الحزن و الكدر و تجلب إليها المسرّة و النشوة . هل أملأ لك كأسا من هذه الخمرة اللّذيذة ؟ »
– « لا و ألف لا . إن الهروب من الهموم والأحزان ليس حلاً ولكنّ الحلّ يكمن في علاج المشاكل بحكمة و رويّة . فيما يخصّ السّرور الّذي تجلبه الخمرة لشاربها فهو سرور مزيّف يعقبه إحبــــاط و شجن و ذلّ و تحسّر »
– « لا داعي للوعظ و الإرشاد فنحن لسنا في جامع. هيّا استمتعي بجرعات من هذه الخمرة فهي لن تسكرك »
– « تبّت يداك أيّها الرّكيك فمتى كنت أشرب الخمرة فأنا لا أتحمّل حتّى النّظر إليها ؟ هيّا اغرب عن وجهي لأنّ رائحتك كرائحة النّسناس »
لم يتحمّل بشير المذلّة و الطّرد فانتفخت أوداجه واختلج جفناه و تطاير الشّرر من عينيــــــــــه و انفرجت شفتاه في عصبيّة:
– « ما هذا الشّتم المقذع ؟ الرّجل لا يهان لا يهان »
– « أعوذ بالله … أعوذ بالله … أنت شيطان رجيم تغويني و تغريني بأمّ الخبائث »
لوى لها يدها في عنف صارخ حتّى كاد يخلع كتفها و اختطف منها في طرفة عين قبلتين في نكهة العسل و حاول أن يضمّها إلى صدره ضمّا شديدا للنّيل من شرفها لكنّها صدّته بكلّ ما أوتيت من قوّة و عفّة دون أن تستسلم لغرائــزه البهيميّة و نواياه الدّنيئة .
ها قد انتصرت منيرة انتصار الأبطال على هذا الوحش الكاسر الّذي سوّلت له نفسه تدنيس شرفــــــــها و نشب براثنه في جسدها الطّاهر . إنّها لطمته بأعجوبة مذهلة لطمة قاسية كادت ترحل به إلى عالم الأموات ثمّ طرحته أرضا و مرّغت وجهه في الرّمل و دسّته فيه .
لم يستسلم بشير لليأس و لم يذعن إلى الهزيمة بأيّة حال من الأحوال بل استجمع قــــــــواه و انتصب واقفا كالصّلّ و هو يرغـــي و يزبد و يتوعّدها بالانتقام :
– « الويل لك لن تفلتي من قبضتي أيّتها الباغية ، الطّاغية . سأمعّكك كما أشاء في هذه الرّمال الزعفرانيّة و أنال مبتغاي في منتهى اليسر ثمّ أشجّ رأسك بقاع هذه القـــــــــــارورة . و عند تيقّني من موتك أرمي بك في اليمّ لتكوني لقمة سائغة للحيتــان »
– « أيّها المجرم إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت»
– « سأريك ما يفعل الرّجال يا بذيئة اللسان و عديمة المعروف و الإحسان »
و عندما سمعت منيرة هذا التّهديد الشّرس تحصّنت خلف سفينة حديثة الطّــــــــلاء لم يجفّ بعد دهنها الأزرق و الأبيض و حدجته بنظرات حادّة فيها كثير من التحــــــــــدّي و الجرأة .أمسكت حجارة مذبّبــــــــــة و همّت بتفضيخ جمجمته أفظع تفضيخ كي يكون عبرة لغيره لكنّها في آخر لحـــــــظة استعاذت بالله من كلّ شيطان رجيم و عدلت عن ذلك السّلوك الأرعــــن الّذي يمكن أن يشوّه سمعتها بين النّاس و يدخلها إلى السّجن .
من ألطاف الله صحا بشير من سكره فكظم غيظه و حنقه و استعــــاد توازنـــــــــه و افترّ ثغره عن ابتسامة عذبة . أزال العفر عن وجهه و دنا من منيرة بخطوات ثابتة خالية من الترنّح و التعثّر . كان يلوّح لها بيده مبتسما و هو ينطق بكلام معسول نابع من الوجدان الغاية منه العفو و تهدئة الخواطر:
– « هل تسمحين لي بأن أقبّل يدك »
– « لا فأنا أخاف من غدرك »
– « من الآن اعتبريني صديقا حميما »
– « حتما يا صديقي الجديد غير أنّني أنصحك بأن لا تكون فظّا غليظ القلب بالخصوص مع النّســاء »
– « هل عفوت عنّي رغم كلّ ما حصل بيننا في الشّجار؟»
– « نعم و أنت هل ستسامحني؟ »
– « بلى إِنَّ الله عُفُوٌّ كَرِيمٌ يحِبُّ الْعَفْوَ »
– « يدي ممدودة تنتظر قبلتك »
– « ما أشهى هذه القبلة و ما أنبل العفو عند المقدرة »
– « هل تعرف أنّ المرأة كالنّحلة تصنع العسل إذا أحبّت و تلسع إذا كرهت ؟ »
– « لا أعلم بذلك و من الآن فصاعدا عليّ بالاستقامة حتّى أتجنّب لسعاتك المؤلمــــــــة . آن الأوان أن أودّعك أيّتها الصديقة الفاضلة ثمّ أنصرف »
– « إلى لقاء آخر من وحي الصّدف فربّ صدفة خير من ألف ميعاد »
و جاء الغروب ليكمل تزويق اللّوحات الرّومانسيّة الّتي حاكها البحر بأمواجه و هو متربّع على عرشه . ها هي منيرة تتمعّن في الشّمس و هي تسعى إلى مغربها جارّة فستانها الأحمر في خجل . غاب قرص الشّمس في خيلاء مودّعا الأفق الجميل فانتشى الشفق بلون الورود و تسلّل الليل البهيم و هو يتبختر في مشيته متباهيا بثوبه الأسود القشيب . لقد أنبأت لحظات الغروب سميرة بأنّ النّهايات أكثر حرارةً من البدايات، وأنّ ساعات الوداع أكثر حرقةً من ساعات التهليل والاستقبال.
و ما إن أرخى اللّيل سدوله و سحب الظّلام في الكون ذيوله حتّى انتابت محمّدا حيرة شديدة فالتحق سريعا بابنته منيرة على متن سيّارته الفخمة . أبصرها تسير بخطى حثيثة على المسلك الرّياضيّ المحاذي للبحر و في يدها سلّة .أوقف سيّارته على قارعة الطّريق و دعاها للركوب و هو عابس الوجه ، مقطّب الجبين :
– « عجّلي بالركوب أيّتها الحمقاء »
– « حسنا لكن عليّ أوّلا أن أضع سّلّة الأسماك في صندوق السّيّارة »
أثناء السّير سألت منيرة أباها في منتهى اللّطف و الرّقّة و هي منشرحة الصّدر تعلو وجهها علامات الغبطة و السّرور :
« هل أنّ كلّ فتاة تعود إلى بيتها في وقت متأخّر غبيّة ؟ » –
– « أنا واثق من ذلك تمام الوثوق لأنّ الأمن في بلادنا و البلدان المجاورة هشّ يستدعي المزيد من الحيطة و الحذر»
– « لن ألهيك طويلا بالحديث حتّى تحافظ على تركيزك أثناء السّياقة لكن سأكتفي بالقول لك أنّ الإرهاب في طريقه إلى الاضمحلال و الزّوال »
– « أعدّي لنا أنت و أمّك سمكا مشويّا و سلطة بالحبّار فعصافير بطني تزقزق »
– « لك ما أردت فأنا سأحقّق كلّ طلباتك يا أغلى أب ».