(2)
تشكّل في نفسي حِسّ بالقرابة، تجاه شعرائنا القدامى من خلال قراءاتي لقصائد من شِعرهم والتّعرّف على جوانب مِن حيواتهم، وهكذا اكتسبتْ علاقتي بهم طابع الودّ والفضول والتّقدير الكبير، مع إحساسٍ قويّ بأنّ عالمي مختلف عن عالمهم.
فرغم توثّق ارتباطي العاطفيّ، في البداية، بالشِّعر العربيّ القديم، لم أشْعُرْ قَطّ برغبة حقيقيّة في أن أكتب على طريقة من بدوا لي في مقام الأجداد، وإن أكن قد "اقترفتُ" أبياتاً عموديّة. وفي بدايات الشّباب، اكتشفْتُ بعضاً من شُعراء الدّادائيّة والسّورّيالية الفرنسيّين ــ فالفرنسيّة هي اللغة التي كانت معتمدة بالأساس في التّدريس أيامَ كنتُ تلميذاً ــ وعلاقتي بأولئك الشّعراء لم تكن، بالنّسبة إليّ، من الصّنف العائليّ-العاطفيّ، بقدر ما كانتْ علاقة شخص في بدايات اكتشافه للحياة بمعناها الواسع بآخرين يشعر أنّهم ينتمون إلى عالم المدينة، مثله، وأنّهم متمرّدون على ما يبدو لهم معرقلا لسيرورة استكشاف الجمال الشّعريّ والفنّيّ بصفة عامّة، وأنّهم، تحديداً، من أنصار الخيال الخلاَّق. وهكذا، كنتُ شغوفاً بالعربيّة من جهة، وبأسلوب التعبير الشّعري الذي كان يدعو إليه الشّعراء الغربيّون المذكورون، من جهة ثانية. وكان الأمر مرتبطاً لديّ، أيضاً، بتعاطُفي المبكّر نسبيّاً مع الفكر المتمرّد واليساريّ. ثمّ اكتشفتُ شعراء عربا من زماننا، لم يكن ذلك التغلغل فيما وراء سطح الواقع والبحث عن قصيدة ذات سمات شخصيّة بالغريب عنهم، فكأنّي اكتشفْتُ عائلة جديدة، عَصْريّة ومدينيّة، فنشأتْ لديّ الرّغبة في الانضمام إليها، عن طريق الكتابة الشِّعريّة.
***
(3)
مِن أهمّ ما دعا إليه سورياليّو الغرب والكثير من اللاحقين عليهم (وبَعضٌ مِن السّابقين أيضاً) : إعطاء الخيال الخلاّق - وليس مجرّد الخيال الذي يوضع في خدمة التّصوير الواقعي، كما هو الحال في الاستعارات المتداولة – دوراً في تشكيل القصيدة، أكبر بكثير ممّا كان عليه في السّابق. في هذا الصّدد، أشير إلى أنّ الخيال الخلاَّق، الذي يمكنه أن يخرق قواعد المنطق و"الحِسّ السّليم"، كان سيُهاجَم بعنف من قِبل أغلب النُّقّاد القُدامى وَمن كانوا يعتبرون أنفسهم ناطقين باسْم الضّمير الجَمْعي، لو كان قد تمّ الانتصار له من طرف شعراء عرب قدامى لهم مكانتهم، ولنا عِبرة في الحرب النّقديّة الشّعواء التي كانَتْ قد شُنَّتْ على أبي تمّام، بسبب اعتماده ضرباً من الاستعارة بدا لِعدد من معاصريه أنّه ليس ممّا عهدتْه العرب في كلامها، رغم أنّ استعارات أبي تمّام تبقى واقعيّة تماما من حيثُ المدلول، وقابلة للتّرجمة’ الذّهنيّة إلى كلام منطقيّ يفهمه العقل بسهولة. لنتأمَّلْ، من جهة ثانية، خبراً يُورِدُه الجاحظ في ‘البيان والتّبيين’، ومِمّا يذكره فيه قصيدةً أنْشَأها أبو نواس، منها هذه الأبيات : "مَنَعَ النّومَ ادِّكاري زمناً / ذا تهاويلَ وأشْياءَ نُكُرْ / واعتِراكُ الرُّومِ في معمعةٍ / ليسَ فيها لِجبانٍ مِنْ مَقَرّْ / كائِناتٌ ليسَ عنها مذهبٌ / خَطَّها يُوشَعُ في كُتْبِ الزُّبُرْ / وعلاماتٌ ستأتي قبله / جَمَّةٌ أَوَّلُها سَكْرُ النَّهَرْ / ويليهم رَجُلٌ مِنْ هاشِمٍ / أَقْنَصُ النّاسُ جميعاً لِلْحُمُرْ…". إنّ في هذه الأبيات مَيلا إلى اللعب الشِّعريّ وخرقاً للمنطق المألوف، ولو بصورة فيها بساطة كبيرة، ومع ذلك فأبو نواس إنّما أنشأها لِيضعها على لسان شخص كان قد جنّ، كُنْيتُهُ أبو يَس الحاسب، لأنّه لم يشأ أن يُحَمّل نفسه مسؤوليّة تلك الانزياحات عن مقتضيات العَقل ! ولكنّ الجاحظ أشار إلى أنّ هذه القصيدة، في خصائصها، كانتْ على مذهب ‘أشْعار ابنِ عَقْب الليثي’، ومن هنا يُمكننا أن نتصوّر أنّ هذا الأخير كان يكتب بطريقة تتمرّد على السّلطة المطلقة الممنوحة لٍكلٍّ من ‘العقل’ و’الجِدّ’ – في معناهما العامّيّ -، وهما متآزران ومؤازَران من قبل إيديولوجيا علماء الدّين . لم أتمكَّنْ من العثور على أيّ قصيدة لأبي عَقْب الليثيّ، ولكنّي أنطلق مِمّا سبق فأتصوّر أنّ تلك القصيدة الغائبة كانتْ، على طريقتها، تُجَسِّد "دادائيّةً" ما، على طريقتها ! فإنّ ذلك يكون مقصوداً، ولهدفٍ شِعْريّ، مثلما هو حال بعض الشُّعراء الآخرين حين يعمدون إلى ابتداع كلمات من عنديّاتهم، لم يُسْمَعْ بها من قبل… وفيما عدا هذا، فإنّي، شخصِيّاً، أكادُ أستنكر لجوء هذا الشّاعر أو ذاك إلى كثرة من الكلمات المماتة في صياغة قصائد لا أعتقد أنّ أحداً سيستطيعُ أن يقرأها دون عناء كبير، فليس مثلُ هذا الصّنيع إلاَّ تحذلُقاً وليست تلك التّعمية إلاَّ تغطيةً على خواءِ أكيد. وفي المُقابل، أستنكر حقّاً لجوء بعض ممارسي الكتابة الشّعريّة إلى ذريعة اعتماد اللغة المتداولة من أجل تبرير الفقر اللغويّ لنصوصهم، علما بأنّ الفقر اللغويّ هو، بالنّسبة للنّصوص الشّعريّة، داءٌ أشبه بالعَشَى الشَّديد، يجعلها كليلةً عن رؤية حقيقيّة لموضوعاتها…
***
تشكّل في نفسي حِسّ بالقرابة، تجاه شعرائنا القدامى من خلال قراءاتي لقصائد من شِعرهم والتّعرّف على جوانب مِن حيواتهم، وهكذا اكتسبتْ علاقتي بهم طابع الودّ والفضول والتّقدير الكبير، مع إحساسٍ قويّ بأنّ عالمي مختلف عن عالمهم.
فرغم توثّق ارتباطي العاطفيّ، في البداية، بالشِّعر العربيّ القديم، لم أشْعُرْ قَطّ برغبة حقيقيّة في أن أكتب على طريقة من بدوا لي في مقام الأجداد، وإن أكن قد "اقترفتُ" أبياتاً عموديّة. وفي بدايات الشّباب، اكتشفْتُ بعضاً من شُعراء الدّادائيّة والسّورّيالية الفرنسيّين ــ فالفرنسيّة هي اللغة التي كانت معتمدة بالأساس في التّدريس أيامَ كنتُ تلميذاً ــ وعلاقتي بأولئك الشّعراء لم تكن، بالنّسبة إليّ، من الصّنف العائليّ-العاطفيّ، بقدر ما كانتْ علاقة شخص في بدايات اكتشافه للحياة بمعناها الواسع بآخرين يشعر أنّهم ينتمون إلى عالم المدينة، مثله، وأنّهم متمرّدون على ما يبدو لهم معرقلا لسيرورة استكشاف الجمال الشّعريّ والفنّيّ بصفة عامّة، وأنّهم، تحديداً، من أنصار الخيال الخلاَّق. وهكذا، كنتُ شغوفاً بالعربيّة من جهة، وبأسلوب التعبير الشّعري الذي كان يدعو إليه الشّعراء الغربيّون المذكورون، من جهة ثانية. وكان الأمر مرتبطاً لديّ، أيضاً، بتعاطُفي المبكّر نسبيّاً مع الفكر المتمرّد واليساريّ. ثمّ اكتشفتُ شعراء عربا من زماننا، لم يكن ذلك التغلغل فيما وراء سطح الواقع والبحث عن قصيدة ذات سمات شخصيّة بالغريب عنهم، فكأنّي اكتشفْتُ عائلة جديدة، عَصْريّة ومدينيّة، فنشأتْ لديّ الرّغبة في الانضمام إليها، عن طريق الكتابة الشِّعريّة.
***
(3)
مِن أهمّ ما دعا إليه سورياليّو الغرب والكثير من اللاحقين عليهم (وبَعضٌ مِن السّابقين أيضاً) : إعطاء الخيال الخلاّق - وليس مجرّد الخيال الذي يوضع في خدمة التّصوير الواقعي، كما هو الحال في الاستعارات المتداولة – دوراً في تشكيل القصيدة، أكبر بكثير ممّا كان عليه في السّابق. في هذا الصّدد، أشير إلى أنّ الخيال الخلاَّق، الذي يمكنه أن يخرق قواعد المنطق و"الحِسّ السّليم"، كان سيُهاجَم بعنف من قِبل أغلب النُّقّاد القُدامى وَمن كانوا يعتبرون أنفسهم ناطقين باسْم الضّمير الجَمْعي، لو كان قد تمّ الانتصار له من طرف شعراء عرب قدامى لهم مكانتهم، ولنا عِبرة في الحرب النّقديّة الشّعواء التي كانَتْ قد شُنَّتْ على أبي تمّام، بسبب اعتماده ضرباً من الاستعارة بدا لِعدد من معاصريه أنّه ليس ممّا عهدتْه العرب في كلامها، رغم أنّ استعارات أبي تمّام تبقى واقعيّة تماما من حيثُ المدلول، وقابلة للتّرجمة’ الذّهنيّة إلى كلام منطقيّ يفهمه العقل بسهولة. لنتأمَّلْ، من جهة ثانية، خبراً يُورِدُه الجاحظ في ‘البيان والتّبيين’، ومِمّا يذكره فيه قصيدةً أنْشَأها أبو نواس، منها هذه الأبيات : "مَنَعَ النّومَ ادِّكاري زمناً / ذا تهاويلَ وأشْياءَ نُكُرْ / واعتِراكُ الرُّومِ في معمعةٍ / ليسَ فيها لِجبانٍ مِنْ مَقَرّْ / كائِناتٌ ليسَ عنها مذهبٌ / خَطَّها يُوشَعُ في كُتْبِ الزُّبُرْ / وعلاماتٌ ستأتي قبله / جَمَّةٌ أَوَّلُها سَكْرُ النَّهَرْ / ويليهم رَجُلٌ مِنْ هاشِمٍ / أَقْنَصُ النّاسُ جميعاً لِلْحُمُرْ…". إنّ في هذه الأبيات مَيلا إلى اللعب الشِّعريّ وخرقاً للمنطق المألوف، ولو بصورة فيها بساطة كبيرة، ومع ذلك فأبو نواس إنّما أنشأها لِيضعها على لسان شخص كان قد جنّ، كُنْيتُهُ أبو يَس الحاسب، لأنّه لم يشأ أن يُحَمّل نفسه مسؤوليّة تلك الانزياحات عن مقتضيات العَقل ! ولكنّ الجاحظ أشار إلى أنّ هذه القصيدة، في خصائصها، كانتْ على مذهب ‘أشْعار ابنِ عَقْب الليثي’، ومن هنا يُمكننا أن نتصوّر أنّ هذا الأخير كان يكتب بطريقة تتمرّد على السّلطة المطلقة الممنوحة لٍكلٍّ من ‘العقل’ و’الجِدّ’ – في معناهما العامّيّ -، وهما متآزران ومؤازَران من قبل إيديولوجيا علماء الدّين . لم أتمكَّنْ من العثور على أيّ قصيدة لأبي عَقْب الليثيّ، ولكنّي أنطلق مِمّا سبق فأتصوّر أنّ تلك القصيدة الغائبة كانتْ، على طريقتها، تُجَسِّد "دادائيّةً" ما، على طريقتها ! فإنّ ذلك يكون مقصوداً، ولهدفٍ شِعْريّ، مثلما هو حال بعض الشُّعراء الآخرين حين يعمدون إلى ابتداع كلمات من عنديّاتهم، لم يُسْمَعْ بها من قبل… وفيما عدا هذا، فإنّي، شخصِيّاً، أكادُ أستنكر لجوء هذا الشّاعر أو ذاك إلى كثرة من الكلمات المماتة في صياغة قصائد لا أعتقد أنّ أحداً سيستطيعُ أن يقرأها دون عناء كبير، فليس مثلُ هذا الصّنيع إلاَّ تحذلُقاً وليست تلك التّعمية إلاَّ تغطيةً على خواءِ أكيد. وفي المُقابل، أستنكر حقّاً لجوء بعض ممارسي الكتابة الشّعريّة إلى ذريعة اعتماد اللغة المتداولة من أجل تبرير الفقر اللغويّ لنصوصهم، علما بأنّ الفقر اللغويّ هو، بالنّسبة للنّصوص الشّعريّة، داءٌ أشبه بالعَشَى الشَّديد، يجعلها كليلةً عن رؤية حقيقيّة لموضوعاتها…
***