ظافر الجبيري - كيف لا أحبّها

- سأكون معك حتى النهاية.

ومدّت يدها لي ، فمددت يدي ، ترددت في السير معها بدءًا.. كانت باسمة و حالمة فنسيتُ الرسميات وتذكرت بساطتي التي حفظتني كثيرًا من قلق التوجسات ! وفرحتُ بالسير مع محبوبة تضحك للبسطاء مثلي ..تأسف للحزانى ،فتنسلّ دموع ليست لي، لكنّ مجراها يمرّ على قلبي ..

توقفتُ لالتقط قصةً يتيم دامع العينين ..انصتتْ وعندما انزويتُ لأكتب عنه، صمتت احترامًا للحظة الكتابة .. حبّرت صفحة وأخرى ، وفجأة تلفتُّ يمينًا ويسارًا، و عندما فتحتُ الدرج باحثًا عن قلم بعدما نفِدَ قلمي، أسرعتْ وأخرجت واحدًا من صدرها الدافئ .

كيف لا أحبها !

كانت قادرة على السير معي إلى آخر الدنيا .. توقفتُ طلباً للراحة فتوقفت معي بحب!

ونحن في إحدى رحلات جنوننا ، وفي الطائرة ، ابتسمت لي فشعرت بالسماء من علٍ وقد تلونت بصفحة وجهها النقي ، وازدادت الطائرة تحليقًا مع فتنة ابتسامتها ..

هبطت بنا الطائرة فشدّت على يدي :

"الحمد لله على السلامة..هنا أرض لويجي بيراندللو وحبيبك خوان رولفو أرِنا كلماتك" . عبرنا ساحات روما ومقاهي نابولي وممرات فينيسيا الرحبة في جندول استأجرتُه كي أحلمَ وأقرأَ جمالَ المكان وأغنّي ..

لم نمكث هنا سوى الزمن الكافي للوجد وعاودنا الرحيل ويدها في يدي.. كيف لا أحبها!

في ديار الصقالبة تجوّلنا.. قالت ونحن نعبر الساحةَ الحمراء :

- لا تنشغل بذكرى بوشكين الذي فقد حياته في المبارزة على قلب امرأة ، وغمزتْ:

- أنتَ ترى أنّ الأمر لا يستحق كل هذه المخاطرة!

- - كيف عرفتِ؟

- سطوركَ الحزينة كشفتْ ذلك اليأس العميق ..!

وقطعتْ الحوارَ، لتقول:

- لا تنس أن الطبيبَ صاحبَ النظارة تشيخوف قد مرّ من هنا.. قلْ عنه فيما بعد سطرين!

شعرتُ أنها تسبق قلبي، وتحرك لساني حينًا وقلمي أحيانًا أخرى ..فوعدتها خيرًا وأضمرت أنْ أخفي عنها بعض سريّ لأرى قدرتها على مباغتتي في خلوات الوجد ومكابدات اللوعة ، ووعدت نفسي أن أتملّى وجهها العذب وخطواتها الرشيقة التي توزّعت نبضًا إنسانيًّا عبر العصور.

يا لفتنتها! وقد ألقمتني ثـدْيَ الغبوق كي أكْرعَ من كتب الذاهبين وأضع سطوري مع القادمين..

كيف لا أحبّها !

هبطنا ثرى باريس وقالت : هذي أرض موباسان ،فاعمل شيئًا يتذكرْك به الحيُّ اللاتينيّ وتكتب اللوموندُ بعضَ قصتك! تجاسرتُ ، وخبأت أوراقي عنها ، فوجدتُها في كل سطر!

صعدنا برج إيفيل، والتقطنا سلفي ثلاثي مع الموناليزا!

سَألتها عن اسمها فقالت : واصل السير، عندما تحبني أكثر سوف أخبرك!

كيف لا أحبُّها !

زرتُ متاحف في أوربا العريقة .. ودخلتُ بجلال جامع الحمراء في قرطبة، و دلفتُ مكتبات لندن وفيينا وبرلين .

مشيتُ بانتشاء على الجسور التي تتدفق الحياةُ تحتها ، جسر في براغ و آخر على نهر درينا .. جسور على الدانوب والتّيمز والبوسفور ..وقفزتُ فرحًا بالحياة ، فركضتْ مع ابتسامتي وسابقتْ أنفاسي ، فسألتُها من أنتِ ؟

قالت: عندما تكتب الصفحة الألف في الكتاب الخامس والثلاثين ..أخبرك !

ركضتُ لأقبض عليها من يدها فسبقتني إلى قلبي ..

- كيف لا أحبُّها !

عن شعرها الطويل كفتيات الأساطير ماذا أقول! أخبرتُها أنّي أحبُّها وأحبّه ، شممتُه فانزوت خجلا .صدرها النافر كليالي شهرزاد جعلني أتعلق بها حد الشعور أنّ العالم يبدأ وينتهي عند تقويرة هذا الصدر المملوء بحليب الحكايات!

وركضنا معًا، وعاودت سؤالها عن اسمها فقالت: لا تعرفه حتى تبوح لي بكل أسماء اللائي استوطنّ قلبك ! سأبوح :

"أنتِ الوحيدة " أومأت باسمة :تقـدّم!

فتهاديتُ ثم تراخيتُ فأمسكتني .وقالت بحزم :

-لا تفقد طريقك!

أهدتني قاموسًا بديعًا، ففتحت على باب الحب فبانت في كل العناوين قافًا ..وأكملتْ اسمها بهمس لم أتبينْه

وسألتها :

من أنتِ أيّتها الحبية المُزْهرة في الورق ؟

النابتة في بتلات الفؤاد ؟

الوفيّة التي لوّنت أيامي بالأمل ؟

يا من كنتِ الشاهدة وأنا أهزم الألم وأصفع المستحيل !

أسألها بإلحاح ، و تُغضي خَفرًا وتقول :

أنتَ المعشوقُ العاشق الحبيب الأديب الوفيّ ..ثم تضحك

مُحذّرةً:

-" الغرور مقبرة ..."

-"مقبرة لليأس .."

كادت أن تقفز لتخبر كلَّ من قرأ وسيقرأ كلماتي ، لكنّها واصلت انتظار همسي، قلتُ : لقاؤنا الأول لا أذكره فقد خرجتِ نبتةً من الأرض – الحياة ، أوكلمةً من فمِ الزمانِ والمكان والحقيقة.

هنا مفترق الطرق، مكان اللقاء الأول ، توقفتُ ،وقلتُ:

- لن أبرحَ حتى أعرف من أنتِ؟ حان الوقتُ لتكشفي لي وجه الجمال أكثر، وتفتحي لي كتاب الحقيقة عن آخره !"

قالت : لن أترككَ ، سأكون لك ومعكَ إلى الأبد ! ولكن ألم تعرفني ؟!

نظرتُ نحوها ونشوة عارمة تتلبّسني وانحسرتُ قليلاً قليلا غلالة من ضباب ، فانجلتْ أولُ أسرارِ الحضورِ العظيم ..

وبنسمة سرتْ من أنفاسها، انفتح الكتابُ السريّ الذي رافقني طوال الرحلة الباذخة ، الكتابُ الكونيُّ الذي حملني لأجل أن أبقى معشوقًا ووفيًّا و..

كانت كتابًا من الوزن الخفيف ، لكنه حفظ سيرة وأسرار العالم بين دفّـتَيْه،.. كانت الكتاب الذي حملني لأقرأه بقلمي وأقرأها بقلبي طوال رحلة الحياة ، ولم يبقَ إلا أن تقول بثقة وحب:
أنا القصّة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى