مقتطف خالد بدوى - من رواية "مملكة الهالوك"

أشارت نرجس إلى النيل الذي لا يكفُّ عن الجريان، ونحن نعتلي الكوبري، وخلفنا سرب سيارات لا ينقطع، متكِئينِ بساعدينا على السور الحديدي، بعينين يملؤهما الحزن الدفين الممتزج بالحيرة، والخوف، والحُبّ، قالت:
- هذا النيل يُشبه حُبكَ داخل قلبي، إن توقف النيل عن جريانه ينتهِ الحب.
*
انفضَّ المريدون من الطواف حول الضريح في الليلة الكبيرة لمولد سيدي إسماعيل الإمبابي، وتنتهي مع نهايتها غايتي من الجلوس أمام المسجد، أتحسس جدران شوارع مدينتي، وأزقَّتها؛ فتعرقلني سنوات اليأس والندم دون رحمة، بقدمٍ مرتعشة أنزل إلى دَرَج السُّلم؛ فهويتُ داخل الممر بين الغرف التي أسكن إحداها، ظللت راقدًا أتحسس النقود في جيبي، أخشى فُقدانها، أنامل ناعمة تمسح دموعي، تمسك بي من معصمي؛ لتعينني على الوقوف، مُستسلمًا لها كما استسلمت لِعلّتي، تشاركني البكاء؛ فأحتضنها بشدة، وكم لثمْتُ شفتَيْها منذ سنوات! عاتبًا عليها: كيف تتركني هنا وحدي؟ تعتذر لي، وتؤكد أنها لن تتركني بعد اليوم، كأننا حبيبان تفرَّق كلٌ مِنَّا مُرغمًا عن صاحبه، ولملمَتْ أصابع القدر بقايانا.
أمسكتُ ببطاقة الرقم القومي، التي تفوح منها رائحة سنوات عمري المنقضية، وتاريخ يوم مولدي الذي كُتب على الجهتين، وهو عمرٌ انقضت سنواته، تحمل لي ذكرياتٍ كثيرة؛ لِنَعود معًا لهذه الصفحات، نُقلِّبها صفحةً صفحةً، وسطرًا سطرًا.
* * *
احتفالية الشيخ "إسماعيل الإمبابي" لا تتبع التقويم الإسلامي، تُقام في العاشر من شهر "بؤونة"، وهو التاريخ الذي كان المصريون القد، ينتظرون فيه الدمعة الغامضة "لإيزيس"؛ حزنًا على "أوزوريس"، وتُسمى الليلة الأخيرة من الاحتفالية بليلة (النقطة)، يذهب الناس بعضهم للتبرُّك والدعاء، والبعض الآخر لمآرب أُخرى، مِثل: الشّحاذة، أو السرقة، منذ أكثر من عقدٍ من الزمن وأنا مواظبٌ على حضورها، وأردد مثل مريدي الشيخ مُتخذي الضريح قبْلتهم، رافعين أكف الضراعة، وهم خُشُعُ الطرف:
- "شي لله يا سيدي إسماعين يا إمبابي".
الضريح المكسو بقماش أخضر، وعلى كل جانب رقعة سوداء مُزخرفة بآية قرآنية باللون الذهبي، تُعلق في كل زاوية من المقام مِسبحة خشبية كبيرة، مكتوبا على كل حبةٍ منها اسمٌ من أس الله الحُسنى، وحول المقام سورٌ حديديٌ قصير؛ لحمايته، وعن يمينه صندوقٌ؛ للنذور، وهو مُثبَّت بالسور من الداخل، وله فتحة خارجية؛ لوضع النقود من خلالها، كأن مَن وضعه يحثُّ على زيادة المتصدقين، وأس الخلفاء الراشدين الأربعة مُوزَّعة على أركان القُبة، أشعر داخل المسجد بالطمأنينة، وعند الخروج أشمئز من الشحَّاذين، الذين يجلسون عند باب المسجد؛ وقد تفننوا في إبراز عاهاتهم.
سمعتُ والدي يبكي، ويمسح مُخاط أنفه في (كُمّ جِلبَابه)، ويتضرع بأن يَشفي الله سُقمه، وُيوسِّع له في الرزق، ظل الرجاء موصولًا لأجسادٍ لا يسمعون لتوسِّل والدي، الذي قرر أن يعبر جبل قريتنا في شتاء ألف وتسعمائة وثمانية وثمانين من القرن الماضي، وشدَّ رحاله إلى القاهرة الكُبرَى، في منطقة إمبابة، واستقرَّ بنا المقام، حملت معي -بين أشيائي المتكدسة- الشهادة الإعدادية، التي حصلت عليها بمجموعٍ عالٍ من مدرسة الحاجر بقريتي، وأخبرني بأنني سوف أُكمل بقية مراحل تعليمي في القاهرة، وينتظر والدي أن أُحقق له نصف أُمنياته في الدنيا، بعد أن خاب رجاؤه في النصف الأول، ألَا وهو أخي "محروس" الذي ترك المدرسة عِندًا، ووُضعَت الشهادة داخل حقيبة جلدية، ومعها أحلام المستقبل، المستقبل الذي سمعت نداءه لي عن طريق عجلات قطار الصعيد التي تَحْتَكُّ بالقضبان الحديدية، كأنها معزوفةٌ موسيقية تعزفها أنامل الطبيعة، غير المُرتبطة بالسُّلم الموسيقيّ، سمعت يوما وأنا صغير من مُدرسي: أنَّ الأحلام الجميلة المُمتزجة بالتفاؤل، هي الدافع لنا؛ لمُواصلة الحياة. مرَّ اثنا عشر عامًا بالمدينة الكبيرة، والثالثَ عشرَ شارفَ على الانتهاء، وكُلَّ يومٍ أسمع صوت صفير قِطار "المناشي" فى محطة إمبابة، لمْ أبرح هذا المكان إلا ليلًا، أتنقل بين جزيرة الإمبابي إلى مدينتَي: العُمَّال، والتحرير، ومنهما إلى شارع الجامع، ومنطقة المُنيرة، ثم ينتهي بي المطاف ليلا إلى أرض عزيز عزت باشا، وعزيز باشا، هو رجل الرياضة والسياسة، فهو أول سفير لمصر لدى المملكة المتحدة، ووزير للخارجية، وأول رئيس مصري للنادي الأهلي، وبالرغم من ثراء اسم صاحب المنطقة؛ فلم يكُنْ لها حظ منه.
المساكن المؤقتة: ترتكب الحكومات الجريمة غير اللائقة في حق شعوبها، تحت مُسمَّيات لائقة، ويرتكب الآباء الفقراء أيضًا الجرائم نفسها، لكن تحت مُسمَى القدر والنصيب، والجريمة الكبرى هي (بَدرُومَات) المساكن، كانت غُرفًا صغيرة تحت الأرض، وتُفتح أبوابها على ممرٍ ضيقٍ، تُشبه جُحور الِفئران، تُفتح أبوابها على ممرٍ ضيقٍ، ومنذُ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي كانت تستخدم كمخازن، ولكن اسْتخدمتها المُحافظة، كإيواءٍ مؤقت لسُكان أيّ منزلٍ آيل للسقوط، أو لتهجير بعض الأُسر، التى تقطن بجوار شريط السكة الحديد، وبعد زلزال سنة ألف وتسعمائة واثنتين وتسعين، ازداد عدد سكان الأُسر التي أُويَت.
كان انتظار الدور؛ لكي أغتسل يزيد من عناء البقاء داخل هذه الغُرف اللعينة؛ لأن الحَمَّام الوحيد المشترك بين عدد من الغُرف، يقصده سربٌ غير منقطع من البشر، وفي جوف الليل يكون للنساء النصيب الأكبر، وأحيانًا تجد المكان خاليًّا إلا من ثلاث أُسر فقط؛ لأن سكان بعض الغُرف لا يستطيعون الاستمرار؛ فمنهم مَن يفر هاربًا إلى مأوى جديد، وبعضهم يعود في المواسم والأعياد إلى بلادهم، مِثل: جماعة (السرِّيحة).
الحَمَّام عُمِلَ بمجهود ذاتي مِن قاطني الغرف، أمامه صُنبور يرتفع أنبوبه الحديدي مترًا عن الأرض الخرسانية، وتجلس أمامه النِّسوة يغسلنَ الملابس وأدوات المطبخ، يثرثرنَ بأسرارهنَّ وآلامهنَّ، وأحيانًا يُظهرنَ سخافتهنَّ، وحماقتهنَّ التي لا تنقطع، ويُقسِّمنَ أيام الأسبوع عليهنَّ؛ بحيث يكون لكل أُسرتين يومان غير متعاقبين، ودائمًا كان يوم والدتي مع أُمِّ سامية صديقتها، كان يحلو لى وأنا صغير، التلصص عليهن من خلال ثقوب باب هذا الحمَّام، متطلعًا لعورات البنات، والنساء؛ جسدٌ بضٍّ، أو جلد مُجعد شقَّ الزمان خطوط اليأس عليه، وينتهى بي التلصص بأن أُضرب ضربًا مبرحًا من والدتي، والتي لم تستطع الإمساك بأخي محروس صاحب الفكرة، والذي ولَّى ضاحكًا مازحًا هاربًا ضاربًا بالأعراف كلها عرض الحائط، وظلَّ على حاله يهرب من كل شيء.
المبالغة التي حملتها معي داخل حقيبة أحلامي الجديدة، ظلَّت هي الدافع والسلوان أثناء عامين قضيتهما بمدرسة الاستقلال الثانوية العسكرية للبنين بمدينة إمبابة؛ لكن هذه الأحلام ماتت، بمجرد أن تسللَتْ أصابع الموت إلى غُرفتنا، فقد مات والدي ولم تُستجَب دعوته، ولم يتغير شىءٌ ممَّا كُتب في اللوح، عاش مريضًا، ومات فقيرًا، ليترُكَنَا طفلين، وامرأة دون عائل


1739187866004.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى