من رواية صعلوك على مائدة الملوك للروائي خالد بدوى
كما عشت وحيداً في هذه الحياة؛ اليوم أواصل النهج الذي اتبعته مرغما، تم عزلي في هذه الزنزانة منفردا، يبدو أن الوحدة نهج أسلكه مجبرا في الحياة وعند الممات، اليوم ارتديت البدلة الحمراء، منذ أيام حُكِمَ عليَّ بالإعدام بعد إجماع الآراء، ومنذ ذلك الحين وأنا أشعر بتلك الغشاوة التي تغطي عيني، أرى الوميض الأخير من حياتي يكاد أن يخبو، معلق بحبل من رقبتي لا يرحم ضعفي يشنقني بقسوة، رأسي داخل كيس أسود، وقدماي ترتعشان الرعشة الأخيرة.
سكن الجسد، لكن السؤال: هل انتهت الآلام، وأنا ذاهب إلى المثوى الأخير؟ وَمَنْ غيرها سيتسلم جثتي الملعونة من كل البشر؛ على حسب ما أثير في الآونة الأخيرة بأنني قاتل وسارق، هل سيقوم حفار القبور بمساعدة زوجتي ووضع جثتي في تلك الحفرة ثم إهالة التراب عليها، أم لا تذهب هي لتسلم جثتي بعد الشنق، وتنشغل بالبحث عن مصدر رزق لها؟ أظن صغيري جائعا، وعلينا عدد من الفواتير يجب سدادها لكي تستمر حياتهما؛ لأنني لم أترك مالا أو إرثا يعينهما على الحياة، تركتي ما هي إلا بعض المخطوطات الورقية وندبة عار على الجبين، ستظل تطاردك يا صغيري، أخشى أن يأتي اليوم الذي لا تعرف فيه الحقيقة، وتظل تلعنني، إنه شعور مؤلم لي، إن تخلت عني زوجتي فلن ألومها، بل ستتولى الجهات الرسمية أمر لحدي في مقابر الصدقة ومجهولي الهوية، يا إلهي حتى بعد موتى أحمل همَّ جثتي، المشهد بشع لكن لم أشعر بالخوف، حالة الجمود التي أنا عليها منذ أن فارقت قاعة المحكمة تلازمني.
بقاعة المحكمة بعد أن نطق القاضي بالحكم لم أسمع صرخة زوجتي ولا بكاء طفلي، ورأيتُ نظرات بعض الشامتين، ونظرات أخرى باردة، أصحابها غير مبالين سواء بالقاتل أو القتيلة رغم شهرتها؛ لأنهم جاءوا فقط للفرجة، وجاءت إلى مسامعى زغرودة فرح، أظنها من أهل القتيلة، الذين يظنون أنهم انتصروا لضحيتهم، عدت منذ أيام إلى محبسي بتلك السيارة ذات الصندوق الحديدي، أتطلع لشوارع المدينة من هذه الفتحة الصغيرة ذات الشبكة الحديدية، أظن أن هذا آخر عهدي بضجيج المدينة التي أعشقها رغم قسوتها، نسمة هواء باردة تلفح وجهي، شعرت بجمال نسمة الحرية التي ولت عني، لعلي لا أرى هذه المدينة بعد اليوم، بعد أن جئت إليها محملا بأحلامي الوردية، هل خذلتني مدينتي كما خذلني الجميع، بداية بموت أبي الذي نسيت ملامحه، وعندما سألت أمي عنه قالت: انظر للمرآة، إنك تشبهه كثيرا، كما نسيت شوارع ودروب قريتي، وأنا ألهث خلف أحلامي، هل ستنساني القرية؟ جئت لكتابة حكاية جديدة داخل مدينتي العجيبة، للأسف لم أكتب إلا حكاية خذلان.. مدينتي التي خذلتني ماذا تركتُ لها؟ سوى ابن صغير وقلب زوجة ينفطر من الألم، الحقيقة الوحيدة التي أدركتها اليوم هى أن موعد موتي اقترب، خلال أيام قليلة قادمة لا أعلم عددها، سيتم تنفيذ العقوبة كما نص المشرع، الحياة صعبة ودوما نشتكي قسوتها علينا؛ لكن الأصعب منها هو أن تعلم موعد رحيلك عنها.
الرحيل شيء حتمي عن هذه الحياة؛ لكن أن ترحل وأنت صاحب جرم كبير، هذا هو الرحيل المشين المدنس، أنه يا صغيري رحيل مخزٍ، مثل الحياة التي عشتها، ماذا سترث عني؟ غير السيرة المشوهة كجنين تعرضت أمه للإشعاع النووي، مثل سُكان منطقة رقين بالجزائر؛ نتيجة التجارب النووية الفرنسية في الصحراء جنوب البلاد. لن أبكي اليوم، وبماذا يفيد البكاء على ألواح الزجاج المهشمة؟ سوى شظايا تؤلم أقدامنا كلما قررنا السير في طريق حياتنا, العمر مهدر ضائع كثمار النخيل التي تتساقط ولم يكتمل نضجها، ستتحول مع الوقت لغذاء للمواشي، كما كان يفعل أهل قريتي. هل ستستخدم أحلامي غير المكتملة غذاء للمواشي؟..
البداية يا صغيري، كانت كشمس الصباح، تملأ الدنيا نورا وضياءً، والنهاية غسق يصيب كل الأشياء المحيطة بي، غسقت سمائي وغسقت العين وغسق الجُرح، هذا الجرح الذي أدمى قلبي، اليوم أنا وحيد بين جدران زنزانتي؛ لا أملك سوى دفتر وقلم؛ سأسطر لك يا صغيري، البداية ولا أعرف إن كنت سأصل معك للنهاية؛ إنها الأقدار، ومهما تكن النهاية؛ اليوم أدركت أن العمر قصير جدا، لا وقت لإهدار الفرص، كما أهدرت أنا فرصاً كثيرة خلال رحلتي، تعلم يا بُني كيف تعاش الحياة الحقيقية، لا تحرص على الاستمرار فيها ولا تتشبث بملذاتها، كن كعابر سبيل، تأتي لك الدنيا راكعة.
لا أعرف ماذا سأكتب فى هذا الدفتر؟ ومن أين أبدأ؟ وإلى أين أنتهي؟ لأنها المكاشفة الحمقاء، هنا ارتعش جسدي في حركة غير إرادية، كأنهُ يحذرني بشكل فطري من تبعات دفتري هذا، بعد طول الصمت وأنا حائر وخائف، تعجبت من نفسي وتساءلت: ماذا دهاني؟ ما هذه الكآبة؟ وما هذا الحزن؟ وما هذا الانزعاج؟ أأخاف الموت أم أخاف مما سأكتبه في هذا الدفتر؟ لأن الكتابة في لحظات الاحتضار هي الأصدق، ولماذا لا أكتب؟! هل هناك عقاب أشد من الموت؟ جميعكم تكاتفتم لتطردوني من هذه الحياة، لم يعد لي مكان بينكم أيها الملوك، سأكتفي بهذا القدر من العذاب، وسأكتب لك يا صغيري، ولا أضمن إن كان سيصل لك دفتري هذا، أم مصيره سيكون مصير أوراقي المتكدسة داخل الأدراج؛ لأنهم جردوني من كل شيء حتى من حق الحياة، ومهما تكن النتائج يجب أن أقول لك الحقيقة الكاملة، حتى تملك الحيطة والقدرة على المواصلة..
رسالة إلى صغيري
سأكتب لك في دفتري هذا؟ ولأنها المكاشفة الحمقاء، لا تتعجل أو تقفل الصفحات؛ سأقول لك سرا، هل تعلم أن أصدق لحظات الإنسان وهو يحتضر؟!
اليوم أنا أعيش أصدق لحظات حياتي..
كما عشت وحيداً في هذه الحياة؛ اليوم أواصل النهج الذي اتبعته مرغما، تم عزلي في هذه الزنزانة منفردا، يبدو أن الوحدة نهج أسلكه مجبرا في الحياة وعند الممات، اليوم ارتديت البدلة الحمراء، منذ أيام حُكِمَ عليَّ بالإعدام بعد إجماع الآراء، ومنذ ذلك الحين وأنا أشعر بتلك الغشاوة التي تغطي عيني، أرى الوميض الأخير من حياتي يكاد أن يخبو، معلق بحبل من رقبتي لا يرحم ضعفي يشنقني بقسوة، رأسي داخل كيس أسود، وقدماي ترتعشان الرعشة الأخيرة.
سكن الجسد، لكن السؤال: هل انتهت الآلام، وأنا ذاهب إلى المثوى الأخير؟ وَمَنْ غيرها سيتسلم جثتي الملعونة من كل البشر؛ على حسب ما أثير في الآونة الأخيرة بأنني قاتل وسارق، هل سيقوم حفار القبور بمساعدة زوجتي ووضع جثتي في تلك الحفرة ثم إهالة التراب عليها، أم لا تذهب هي لتسلم جثتي بعد الشنق، وتنشغل بالبحث عن مصدر رزق لها؟ أظن صغيري جائعا، وعلينا عدد من الفواتير يجب سدادها لكي تستمر حياتهما؛ لأنني لم أترك مالا أو إرثا يعينهما على الحياة، تركتي ما هي إلا بعض المخطوطات الورقية وندبة عار على الجبين، ستظل تطاردك يا صغيري، أخشى أن يأتي اليوم الذي لا تعرف فيه الحقيقة، وتظل تلعنني، إنه شعور مؤلم لي، إن تخلت عني زوجتي فلن ألومها، بل ستتولى الجهات الرسمية أمر لحدي في مقابر الصدقة ومجهولي الهوية، يا إلهي حتى بعد موتى أحمل همَّ جثتي، المشهد بشع لكن لم أشعر بالخوف، حالة الجمود التي أنا عليها منذ أن فارقت قاعة المحكمة تلازمني.
بقاعة المحكمة بعد أن نطق القاضي بالحكم لم أسمع صرخة زوجتي ولا بكاء طفلي، ورأيتُ نظرات بعض الشامتين، ونظرات أخرى باردة، أصحابها غير مبالين سواء بالقاتل أو القتيلة رغم شهرتها؛ لأنهم جاءوا فقط للفرجة، وجاءت إلى مسامعى زغرودة فرح، أظنها من أهل القتيلة، الذين يظنون أنهم انتصروا لضحيتهم، عدت منذ أيام إلى محبسي بتلك السيارة ذات الصندوق الحديدي، أتطلع لشوارع المدينة من هذه الفتحة الصغيرة ذات الشبكة الحديدية، أظن أن هذا آخر عهدي بضجيج المدينة التي أعشقها رغم قسوتها، نسمة هواء باردة تلفح وجهي، شعرت بجمال نسمة الحرية التي ولت عني، لعلي لا أرى هذه المدينة بعد اليوم، بعد أن جئت إليها محملا بأحلامي الوردية، هل خذلتني مدينتي كما خذلني الجميع، بداية بموت أبي الذي نسيت ملامحه، وعندما سألت أمي عنه قالت: انظر للمرآة، إنك تشبهه كثيرا، كما نسيت شوارع ودروب قريتي، وأنا ألهث خلف أحلامي، هل ستنساني القرية؟ جئت لكتابة حكاية جديدة داخل مدينتي العجيبة، للأسف لم أكتب إلا حكاية خذلان.. مدينتي التي خذلتني ماذا تركتُ لها؟ سوى ابن صغير وقلب زوجة ينفطر من الألم، الحقيقة الوحيدة التي أدركتها اليوم هى أن موعد موتي اقترب، خلال أيام قليلة قادمة لا أعلم عددها، سيتم تنفيذ العقوبة كما نص المشرع، الحياة صعبة ودوما نشتكي قسوتها علينا؛ لكن الأصعب منها هو أن تعلم موعد رحيلك عنها.
الرحيل شيء حتمي عن هذه الحياة؛ لكن أن ترحل وأنت صاحب جرم كبير، هذا هو الرحيل المشين المدنس، أنه يا صغيري رحيل مخزٍ، مثل الحياة التي عشتها، ماذا سترث عني؟ غير السيرة المشوهة كجنين تعرضت أمه للإشعاع النووي، مثل سُكان منطقة رقين بالجزائر؛ نتيجة التجارب النووية الفرنسية في الصحراء جنوب البلاد. لن أبكي اليوم، وبماذا يفيد البكاء على ألواح الزجاج المهشمة؟ سوى شظايا تؤلم أقدامنا كلما قررنا السير في طريق حياتنا, العمر مهدر ضائع كثمار النخيل التي تتساقط ولم يكتمل نضجها، ستتحول مع الوقت لغذاء للمواشي، كما كان يفعل أهل قريتي. هل ستستخدم أحلامي غير المكتملة غذاء للمواشي؟..
البداية يا صغيري، كانت كشمس الصباح، تملأ الدنيا نورا وضياءً، والنهاية غسق يصيب كل الأشياء المحيطة بي، غسقت سمائي وغسقت العين وغسق الجُرح، هذا الجرح الذي أدمى قلبي، اليوم أنا وحيد بين جدران زنزانتي؛ لا أملك سوى دفتر وقلم؛ سأسطر لك يا صغيري، البداية ولا أعرف إن كنت سأصل معك للنهاية؛ إنها الأقدار، ومهما تكن النهاية؛ اليوم أدركت أن العمر قصير جدا، لا وقت لإهدار الفرص، كما أهدرت أنا فرصاً كثيرة خلال رحلتي، تعلم يا بُني كيف تعاش الحياة الحقيقية، لا تحرص على الاستمرار فيها ولا تتشبث بملذاتها، كن كعابر سبيل، تأتي لك الدنيا راكعة.
لا أعرف ماذا سأكتب فى هذا الدفتر؟ ومن أين أبدأ؟ وإلى أين أنتهي؟ لأنها المكاشفة الحمقاء، هنا ارتعش جسدي في حركة غير إرادية، كأنهُ يحذرني بشكل فطري من تبعات دفتري هذا، بعد طول الصمت وأنا حائر وخائف، تعجبت من نفسي وتساءلت: ماذا دهاني؟ ما هذه الكآبة؟ وما هذا الحزن؟ وما هذا الانزعاج؟ أأخاف الموت أم أخاف مما سأكتبه في هذا الدفتر؟ لأن الكتابة في لحظات الاحتضار هي الأصدق، ولماذا لا أكتب؟! هل هناك عقاب أشد من الموت؟ جميعكم تكاتفتم لتطردوني من هذه الحياة، لم يعد لي مكان بينكم أيها الملوك، سأكتفي بهذا القدر من العذاب، وسأكتب لك يا صغيري، ولا أضمن إن كان سيصل لك دفتري هذا، أم مصيره سيكون مصير أوراقي المتكدسة داخل الأدراج؛ لأنهم جردوني من كل شيء حتى من حق الحياة، ومهما تكن النتائج يجب أن أقول لك الحقيقة الكاملة، حتى تملك الحيطة والقدرة على المواصلة..
رسالة إلى صغيري
سأكتب لك في دفتري هذا؟ ولأنها المكاشفة الحمقاء، لا تتعجل أو تقفل الصفحات؛ سأقول لك سرا، هل تعلم أن أصدق لحظات الإنسان وهو يحتضر؟!
اليوم أنا أعيش أصدق لحظات حياتي..
