عبدالرحيم التدلاوي - المعلن والمضمر في رواية خيط الروح لإسماعيل البويحياوي"قراءة ثانية"

"قراءة ثانية"


ورد في الصفحة 104 قول لمخازني:
مازلت على قيد الحياة أيها الفقراء الاوباش أولاد...، وحتى لو صارت لكم سيارات، أو تحسنت أحوالكم، فأنتم، دائما وأبدا، تحت طائلة هراوتي، وأسفل حذائي، وضرب الأرض برجليه المرتجفتين، تظنون أنفسكم قد صرتم من الناس الذين لهم شان.
مقطع يعبر عن استمرارية القمع، وتواصله بواسطة لمخازني الذي لا يحمل اسما خاصا يدل عليه لكونه اسما عاما يلبسه كل مرة شخص ليقوم بالوظيفة نفسها.

1739709175600.png

يشكل القمع والفساد مهيمنة الرواية، هذا العمل الذي يقدم صورة عنيفة عن القمع الذي يمارسه لمخازنية في حق الطبقة السفلى تلك التي تشتغل في المعامل أو تلك التي تمارس أنشطة ثانوية كبيع الملابس والأجهزة البسيطة مختلفة الأشكال والأنواع، وتغير من نوع بضاعتها بحسب المناسبات.
يظهر ذلك في العنوان الذي أتى مشتت الحروف، وفي الصفحة الأولى للعمل الروائي بسقوط الأم أرضا وإلى جانبها ابنها بفعل ضربة عصا لمخازني الذي تكلم أعلاه.
لنقل، قبل تفصيل الحديث عن الفساد والقمع: إن العمل الروائي يلتزم بثنائية عميقة ترتبط بالظاهر والباطن، إذ تسلط الرواية الضوء على الحنين إلى البادية وتقدير قيمها، حيث يتم إعلاء شأنها بسبب ما توفره من عناصر كالأصالة والنقاء والتضامن والجمال. ومع ذلك، يبدو أن الباطن أو المضمر في العمل يكشف عن بنية عميقة تؤكد على سيادة سلطان القمع والتسلط، ما يبين أن هذه القيم لا تخلو من تحديات مستمرة في الزمن. الرواية لا تشير إلى الخضوع لهذا التسلط، بل على العكس تبرز قضية النضال كقيمة أساسية يجب أن تستمر عبر الأجيال، حيث يصبح الأبناء، الذين تلقوا تعليماً جيداً، قادرين على فهم هذه البنية القمعية والعمل على تحطيمها تماماً كما فعل الآباء والأجداد حينما حاربوا المستعمر ونالوا الاستقلال.
إن تشبع البادية بقيم الفضيلة والجمال يجعل أهلها يعودون إليها باستمرار من المدينة، التي تتسم بالقيم المزيفة، ليجدوا فيها تجديداً لذواتهم من خلال تلك القيم الخالدة. الأجداد والآباء، رغم أنهم لم يتلقوا تعليماً عميقاً، إلا أنهم تمكّنوا من مجابهة المستعمر وتركوا للأبناء من بعدهم سلاح التعليم الجيد ليكملوا مشوار النضال في مقاومة الفساد والتسلط. يظهر أن هذه الثنائية، وما ينتج عنها من صراع داخلي، تشكل البنية العميقة للرواية، وهي البنية التي تم تلوينها من خلال مجموعة من الأحداث المتنوعة التي تم التلاعب في ترتيبها، بالإضافة إلى التلاعب الزمني والمكاني، ما يعزز العمق الروائي.
كما أن السرد اعتمد على مزج اللغة العربية الفصحى مع الدارجة، مما أضاف بعداً لغوياً مميزاً للعمل. وتم توظيف التخييل واستدعاء الذاكرة كأدوات خصبة تدعم المتن الروائي، بحيث تلاعب الكاتب بترتيب الأحداث والأمكنة والأزمنة، وهو ما أحدث تنوعاً في الإحساس بالجوانب الحسية من خلال تحريك الحواس الخمس. كما تم استخدام الألوان بصورة رمزية تعكس الصراع القائم وتساهم في تعزيز الرسائل التي تنقلها الرواية. من خلال هذه التقنيات، تجسد السيرة الذاتية بطريقة جديدة تستند إلى قواعد الفن الروائي، مما يخرج الكتابة من حيز التمحور حول الذات إلى فضاء أوسع يخص الوطن والإنسان في سياق أكبر، مؤكداً على قضية الحرية ومدافعاً عن مقاومة الفساد والتسلط.
لا تقتصر رواية؛ خيط الروح؛ على مجرد سرد للأحداث، بل تتجاوز ذلك لتكون تجسيدًا لعدد من القضايا الإنسانية العميقة، التي تتداخل فيها ثنائية الظاهر والباطن، وحكايات الأجيال المختلفة، والتلاعب بالزمان والمكان، واستخدام التخييل والذاكرة كأدوات لفهم الواقع ومواجهته. هذه الرواية تسلط الضوء على الصراع المستمر من أجل الحرية والعدالة، وتطرح أسئلة وجودية عن الهوية، والمجتمع، وحقوق الإنسان. نبدأ معًا بتفكيك هذه العناصر التي تشكل بنيتها الأساسية.
ثنائية الظاهر والباطن:
تتجسد في الرواية فكرة الحنين إلى البادية ليس فقط كحنين إلى مكان، بل كبحث عميق عن الهوية والجذور. فالبادية تمثل عالمًا مفعمًا بالقيم الأصيلة التي غالبًا ما نفتقدها في الحياة الحضرية المليئة بالزيف والمادية. هذه العودة إلى البادية هي محاولة لاستعادة التوازن الروحي وتجديد الذات في مواجهة قسوة الحياة في المدن. ومع ذلك، يكمن وراء هذا الحنين صراع أكبر يتجسد في مقاومة التسلط والقمع. الصراع هنا لا يقتصر على مواجهة استعماريين خارجيين كما في الماضي، بل هو صراع ضد أشكال جديدة من القمع التي قد تكون أكثر تعقيدًا وأقل وضوحًا، حيث تكمن فيه آليات قمع متجددة تتطلب وعياً عميقًا ومقاومة مستمرة.
النضال عبر الأجيال: من الاستعمار إلى الفساد:
تعكس الرواية تغير شكل النضال عبر الأجيال. ففي جيل الأجداد والآباء، كان الصراع الأبرز هو مواجهة الاستعمار ومحاولة تحقيق الاستقلال. هؤلاء الأجداد كانوا يواجهون معركة من أجل الحرية، وبالرغم من ضعف إمكانياتهم التعليمية، فإن عزيمتهم وشجاعتهم كانت محركًا أساسيًا لاستقلال وطنهم. أما جيل الأبناء، فقد نشأ في ظل تعليم جيد أكثر تطورًا، وأصبحوا أكثر وعيًا بقوى التسلط التي تجسدها أشكال مثل الفساد والاستبداد الداخلي. النضال في هذه المرحلة أصبح أداة دفاعية أكثر من كونه مجرد معركة لتحصيل الحقوق، إذ يواصل الأبناء مسيرة الآباء، ولكنهم يواجهون خصمًا داخليًا معقدًا ومتعدد الأوجه. التعليم بالنسبة لهم ليس مجرد أداة للنجاح الشخصي، بل سلاح ضروري في معركة التغيير الاجتماعي.
تركز الرواية بشكل كبير على الظلم الاجتماعي:
ذكر في ص 68 وما يليها تفاصيل حول معاناة الأفراد من الظلم الواقع عليهم، حيث يتم التضييق عليهم والضغط في حياتهم اليومية مما يعكس مدى التأثير المدمر للظلم على النفس البشرية.
نجد أن الرواية تتناول فساد المسؤولين في الحكومة وكيف أن ذلك يؤثر على حياة الناس العاديين. هناك مشاهد تظهر كيفية استغلال السلطة من قبل بعض الشخصيات المسؤولة، مما يعكس عدم المساواة والتمييز.
ومن خلال ذلك، تشير الرواية إلى التأثيرات السلبية للفساد على المجتمع بشكل عام، وذلك من خلال تقديم شخصيات تعاني من العواقب الناتجة عن قرارات فاسدة وغياب العدالة.
ولا يمكن الحديث عن الظلم والفساد من دون الحديث عن آثاره، وقد تضمنت بعض المواقف في الرواية للتعبير عما يولده من ألم.
مظاهر الفساد:
الفساد في السلطة غالبًا ما يُدار من خلال مجموعة من الممارسات التي تستغل النفوذ والسلطة لتحقيق مكاسب شخصية أو جماعية على حساب مصلحة المجتمع. في رواية "خيط الروح" لإسماعيل البويحياوي، يقدم الكاتب تحليلًا دقيقًا للفساد في السلطة وكيفية استفادة رجال الأعمال (الباطرونا) من هذه الممارسات عبر عدة محاور:
يتمثل الفساد في السلطة في استغلال المناصب لتحقيق مصالح شخصية تضر بمصلحة العامة. في الرواية، نجد شخصيات تتولى مناصب قيادية أو مسؤوليات تنفيذية تتخذ قرارات تصب في مصلحتها الخاصة، بينما تؤثر هذه القرارات بشكل سلبي على المجتمع. من خلال هذه الأفعال، يتمكن رجال الأعمال من تعزيز نفوذهم في السوق واستغلال الامتيازات التي يحصلون عليها نتيجة لهذه الممارسات الفاسدة.
تشهد الرواية تواطؤًا بين رجال الأعمال والمسؤولين الحكوميين للحصول على عقود ومشاريع دون منافسة قانونية. يتمكن الباطرونا من نهب المال العام والتلاعب بالمناقصات الحكومية، مما يتيح لهم فرصة تحقيق أرباح ضخمة. في الوقت ذاته، يعاني المواطنون العاديون من هذه السياسات الفاسدة، التي تمنحهم فرصًا أقل وتزيد من تهميشهم.
يتناول الفساد المالي والإداري في الرواية أيضًا قضايا الرشوة والمحسوبية، حيث يستطيع رجال الأعمال فرض سيطرتهم على المشاريع الكبرى من خلال دفع رشاوى للمسؤولين. هذه الممارسات تؤدي إلى هدر المال العام وتعزز التفاوت الاجتماعي وتعمق الفقر في المجتمع.
نتيجة للفساد المستشري، يعاني المواطنون من تدني مستوى الخدمات العامة، حيث تذهب موارد الدولة إلى جيوب الفاسدين. كما أن تقويض الثقة في النظام الإداري يؤدي إلى ضعف المشاركة السياسية وزيادة الشكوك في المؤسسات الحكومية. هذه البيئة تخلق حالة من الإحباط الشعبي وتقوض الفاعلية الاجتماعية.
تستمر دورة الفساد في التفاقم، حيث يظهر أن النظام الفاسد يعيد إنتاج نفسه. يرتبط بقاء رجال الأعمال في السلطة باستمرار هذا الفساد، مما يجعل مقاومة التغيير والإصلاح أكثر صعوبة كلما ازداد عدد المستفيدين من هذا النظام.
لكن الرواية لا تقتصر فقط على عرض مظاهر الفساد، بل تسلط الضوء أيضًا على الشخصيات التي تسعى لمكافحته، ما يعكس رغبة المجتمع في التغيير وإعادة بناء نظام أكثر عدالة ومساواة. تتصاعد الصراعات الداخلية والمجتمعية حول كيفية مواجهة هذا الفساد والعمل على إحداث تغيير إيجابي.
تُظهر الرواية، إذا، كيف يمكن أن يؤدي الفساد إلى تآكل قيم المجتمع وأخلاقياته، وكيف يستغل رجال الأعمال هذه الفوضى لتحقيق مكاسب خاصة. ومن خلال التوترات الداخلية، يقدم الكاتب نظرة شاملة على العواقب الاجتماعية والاقتصادية للفساد، ويُبرز التحديات التي يواجهها المجتمع في سعيه نحو الإصلاح والتغيير.
البنية الروائية: التلاعب بالزمان والمكان واللغة:
إن أسلوب الرواية في التلاعب بالزمان والمكان يعطيها طابعًا غير تقليدي، حيث لا تسير الأحداث وفق تسلسل زمني ثابت. بل هناك تداخل بين الماضي والحاضر، ما يعكس طبيعة الذاكرة البشرية التي لا تلتزم بالخطوط الزمنية. هذا الأسلوب السردي يعمق التجربة الإنسانية ويعكس معاناة الشخصيات في مواجهة صراعات غير محكومة بالزمان أو المكان. اللغة أيضًا تلعب دورًا مهمًا في هذه البنية الروائية، حيث يمزج الكاتب بين العربية الفصحى والدارجة، مما يعكس التوتر بين عالمين متباينين: عالم البادية التقليدي وعالم المدينة الحديث. هذا المزيج اللغوي ليس مجرد أسلوب سردي، بل هو انعكاس للهوية المزدوجة للشخصيات، التي تجد نفسها بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والحداثة.
التخييل والذاكرة: إخصاب النص الروائي:
استخدام التخييل في الرواية لا يقتصر على كونه وسيلة لتقدم السرد، بل هو طريقة لاكتشاف أبعاد أعمق من الحقائق التي يصعب التعبير عنها مباشرة. من خلال التخييل، يطرح الكاتب تساؤلات وجودية تتعلق بالهوية، الحرية، والعدالة، دون أن يغرق في خطاب مباشر قد يفقد النص عمقه. أما الذاكرة، فتلعب دورًا محوريًا في فهم الشخصيات لطبيعة صراعاتها الحالية، حيث إنها ليست مجرد استرجاع للأحداث الماضية، بل هي عملية مقاومة فعلية. من خلال استحضار الماضي، تتمكن الشخصيات من فهم جذور الأزمات التي تواجهها، وتكتسب القدرة على إيجاد حلول جديدة لهذه الصراعات.
الحرية والنضال: من الذات إلى الوطن:
في بداية الرواية، قد يظهر النضال كقضية شخصية، محورية في حياة الفرد، لكن مع تقدم الأحداث، يصبح هذا الصراع أكثر شمولًا، حيث يتحول من قتال من أجل التحرر الشخصي إلى نضال جماعي من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية. الرواية تعرض الحرية ليس فقط كغياب للقيود، بل كقدرة على العيش بكرامة وإنسانية، ما يجعل النضال أكثر ارتباطًا بالجماعة وبناء مجتمع قائم على مبادئ العدالة والحرية. الحرية في هذا السياق هي عملية مستمرة من التحرر والنضال لتحقيق مجتمع لا يعاني فيه الأفراد من القمع.
السيرة الذاتية والفن الروائي:
الرواية تستدعي بعض عناصر السيرة الذاتية، لكنها تتجاوزها لتصبح رواية عن الإنسان بشكل عام. التحول من سرد التجربة الذاتية إلى حكاية تعكس قضايا أوسع تعكس التحديات التي يواجهها المجتمع ككل. هذا الانزياح يعكس رؤية الكاتب التي تشير إلى أن القضايا الفردية هي جزء لا يتجزأ من القضايا الاجتماعية الأعم. كما أن الأسلوب الروائي نفسه يعتمد على التجديد في قواعد السرد، مما يجعل الرواية ليست مجرد قصة تُحكى، بل تجربة فنية تتجاوز الشكل التقليدي وتفتح أبوابًا متعددة للتفسير والتحليل.
في النهاية، نرى أن الرواية ليست مجرد عمل أدبي تقليدي، بل هي نص عميق ومعقد يقدم صورة شاملة للصراع الإنساني المستمر من أجل الحرية والعدالة. بتكامل هذه العناصر، تظهر الرواية كعمل فني إنساني يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويطرح أسئلة تهم كل من يسعى للبحث عن الحرية والكرامة في عالمه الخاص.
واكخلاصة يمكن القول إن العمل ككل ينضبط لثنائية أعمق ترتبط بالظاهر والباطن أو المضمر. فإذا كانت الرواية تتحدث عن الحنين إلى البادية وتعلي من شأنها لتوافر اسباب عدة منها الأصل والنقاء والتضامن وكل ما هو جميل؛ فإن المضمر أو الباطن هو سيادة بنية عميقة تتحكم في الرواية وتؤكد أنها مستمرة في الزمان؛ يرتبط الأمر بالبنية العميقة المتمثلة في التسلط وتسيد سلطان القمع. لكن ذلك لا يعني الخضوع له كون العمل يعلي من قضية النضال وضرورة استمراريته عن طريق الأبناء الذين حظوا بتعليم جيد كفيل بان يجعلهم يفهمون هذا القانون ويعملون على تحطيمه كما حطم الآباء والأجداد سطوة المستعمر وحققوا الاستقلال. إن سيادة قيم الفضيلة والجمال في البادية تجعل اهلها يعودون إليها كل مرة من المدينة حيث قيم الزيف ليجددوا انفسهم بشرب تلك القيم من معينها الخالد. قام الأجداد ومن بعدهم الآباء بمجابهة المستعمر وهم ذوو حظ علم متوسط وتركوا لابنائهم بعد أن منحوهم تعليما جيدا قضية الفساد والتسلط لمقاومته ودحره. لعل هذه الثنائية وما تولده من صراع هي ما يشكل بنية الرواية العميقة وقد غلفها باحداث متنوعة تلاعب بترتيبها وعمل على تركيب بنيته اللغوية من العربية والدارجة؛ واعتمد التخييل واستدعى الذاكرة لتكون فعلا مخصبا للمتن الروائي حيث تم التلاعب بترتيب الاحداث والامكنة والازمنة وحرك الحواس الخمس ووظف الالوان ودور السيرة الذاتية من جديد وفق قواعد الفن الروائي ليخرج الكتابة من شرنقة التمحور حول الذات إلى فضاء ارحب يتعلق بالوطن بشكل خاص وبالإنسان بشكل أخص مدام انها تعلي من قضية الحرية وتشيد بمقاومة الفساد والتسلط.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى