بين النقد والقراءة:
يعتمد النقد في إصدار أحكامه على مجموعة من المعايير القبلية التوجيهية، التي يأمل الناقد العثور عليها في النص الأدبي. بتلك المعايير يؤكد أو ينفي أحكامه القبلية.كأن يبرز الخصائص الفنية لجنس أدبي ما أو مدرسة أواتجاه بطريقة مدرسية أو أكاديمية. تحيل كلمة النقد هنا على التعريف اللغوي العربي القديم المأخوذ من حقل الصيرفة: "تمييز الفاسد والصالح من النقود."
بينما القراءة ممارسة ذهنية ونفسية تسعى إلى تأويل الأثر الأدبي (أرسطو) أو التفاعل الحاصل بين النص /النصوص المقروءة والقارئ. يحصل التفاعل لحظة القراءة فهو آني منفلت ولا يقوم على الماقبل الثابت داخل قواعد محددة سلفا.
إن الناقد لشعر الزجل عليه أن يضبط آلته النقدية بمجموعة من المصطلحات والقواعد الفنية، المتعارف عليها داخل هذا الحقل الفني كالأغصان والأحمال والأدوار وتنوع القافية والمطالع والأقفال والخرجات والأسماط دون إغفال الموروث من خصائص القصيدة العربية؛ أوإغفال أسس التصنيف إلى زجل الملحون وزجل العيطة وزجل الإنشاد. وهذا عمل عظيم وشيق له رجالاته.
أما القراءة العاشقة فتتأسس على قاعدة تقول: بأن كل عمل أدبي يحتوي على مؤشرات أسلوبية تنبه القارئ فتحدث ما يسمى بالتفاعل بينه وبين النص. فيقوم بالبحث عن مصدر هذا التفاعل كي يترجمه إلى إنتاج قد يوازي أو يفوق النص المقروء. وبما أن القصيدة الزجلية المغربية تملك من المنبهات الأسلوبية ما يخلق أنواعا من التفاعلات ذات الأثر الفني الراقي وبما أننا كقراء مغاربة تشعرنا القصيدة الزجلية بالهوية والانتماء إلي بلد متعدد الثقافات؛ فإن أي تأويل لذلك التفاعل لن ينزاح عن الهوية كوظيفة أساسية لشعر الزجل وعما يعشق المغربي من خصائص فنية يحملها هذا الجنس الأدبي.
مشاهدة المرفق 28415
تختلف قراءة القصيدة الزجلية عن قراءة القصيدة العربية بكل تشعباتها القديمة والحديثة. إن قراءة قصيدة عربية تشعر القارئ بأنه مكبل و مقيد بسيميترية توزيع الجمل؛ قد تكون تلك الجمل طويلة منظمة في سطرين أفقيين بينهما بياض ينتهي سطرها الأخير بمصب يتكرر على طول القصيدة أو قصيرة تكسر نظاما قديما، تتحكم في بنائها امتداد سواد الحبر في بياض الورقة. لكن في الزجل يختفي السواد والبياض وتتحول الكلمات إلى فراشات ترقص وتُراقص؛ إنه فعلا شعر بنات الشفة.. فعندما تعرض لهذا المقطع الزجلي:
أنا وعشيرتي الگربة كانت عندي الأهمية
كنت مغمور بالمحبة وسط الأحياء الشعبية
فين أيامي فينها اللي كنت فيها معزوز
فين ايامي وزينها قبل ما يدخل البزبوز
إن القارئ المستمع لهذا القول يسرع في فك أغلال الكلمات من فضائها الضيق الورقة إلى فضاء أرحب أشبه برحابة
الساحة المراكشية جامع الفناء، فيمثل أمام عينيه الگراب ويستحضر كل تحولات هذه الحرفة نتيجة التطورات الحديثة وأبرزها مد البيوت بالماء. ألا ينطبق هذا التفاعل على المهراز في هذا الديوان؟
مشا تخبا مهرازنا مع الديكور ديال الدار
فضل يسكت وما يفضح عوارنا ويظل يشوف طول النهار
تلفنا الطريق وضاع صوابنا نستهلكو المطحون بلا شوار
ها نحن نخرج عن اللفظ المحصور في الترادف والتضاد إلى التلفظ المفتوح على كل تأويلات الدلالات التداولية، بأبعادها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والجمالية. مما يؤكد قولة الفيلسوف اليوناني أرسطو:
"الشعر أكثر فلسفة من التاريخ وأعلى قيمة منه."
تأسيسا على ذلك أُصرحُ أن تفاعلا إيجابيا تحقق لدي وأنا أقرأ "المهراز" فعند محاولة تأويلي للأثر الفني الجميل الذي أحدثته ثلاثون قصيدة في الديوان، خلصت إلى أن عليَّ البحث في لغة وإيقاع ورؤية الشاعر نور الدين بن شقرون كعناصر متفاعلة داخل النص الواحد وممتدة للنصوص الأخرى. فاعتبرتها مركز ثقل ومصدر هذه الشحنة النفسية الذهنية.
1 ـ لغة الديوان:
يتفق الدارسون للزجل بأن القصيدة الزجلية تمثل نقطة تحول في تطور القصيدة العربية. وأن أبرز مظهر لهذا التحول هو المظهر اللغوي؛ أي الانتقال بالشعر من الفصحى إلى الدارجة/العامية. إن الدارجة كوسيلة تواصل يومي تشكل هوية وطنية، لذلك فالبحث في الأثر الفني للغة القصيدة الزجلية لا يخرج عن إطار العامية المغربية. من هنا نشتم في الزجل رائحة البادية بكل أبعادها: الكانون والغبار وأصوات الحيوانات ووسائل الحرث والحصاد وفرحة السوق والتسوق والأهازيج التي منحتنا فن العيوط العبدي والحوزي والمرساوي والگريحة...
ونشتم ثوابل المدن المغربية العتيقة بلهاجاتها: الفاسية والمراكشية والطنجاوية والمسفيوية والرودانية...
وأريج الأمازيغية التي انصهرت بعض كلماتها في الخطاب اليومي المغربي: الزكروم، ميسا (الطاولة في الريفية) تقشابت، تحراميات، التكرفيس... بل والتعبير في لهجتنا المغربية بالبنية النحوية والصور البلاغية الأمازيغية.
في ديوان المهراز نجد هذا التمازج العجيب بين كلمات متعددة المصدر، مثل:الگرجومة، الدمدومة، الدصارة، الحزارة، كعبي وكعبية، الواكح والعرام، الگوم والتقشاب، مكفسة وعفسة، البينگا والطيسة، الكبال والحلحال، هاك وارا والقصارة، الكديدة وصلبان، تايطير من المقلة، يتزاگلو... وغيرها كثير.
كل الكلمات السابقة لا تحمل دلالة في ذاتها إن لم توظف في سياقها التداولي في البادية أو في مراكش وفاس وفي بعدها الأمازيغي. هذا يؤكد أن مصدر التفاعل هو هذا الجمع بين من يظنه متباعد، إنه جمع بين أفراد شعب قد يختلفون في اللهجات لكن قصيدة بن شقرون وغيره من المبدعين وحدتهم فتحولت إلى أغاني تفرض وجودها في كل الأفراح.
إن لغة الشاعر نورالدين بن شقرون تنتمي للزجل الأبيض لأنه لم يتكلف في لغته؛ فلم يوظف غريب الألفاظ ولم يسقط في سوقيتها المبتذلة، وهو يعي أن كل تكلف لغوي يفسد المعنى. فلم يسقط سقوط الشاعر التافه الذي يقول عنه الفيلسوف الألماني نيتشه:
" الشاعر التافه يكدر المياه كي تبدو عميقة."
2 ـ الإيقاع:
الإيقاع في الشعر هو انتظام الأصوات والكلمات داخل أوزان تقوم على تفعيلات عمادها الحركة والسكون من أجل أداء وظيفة موسيقية.
ما يثير الانتباه في"المهراز" قصر الجمل الشعرية. إن قصر الجمل مرتبط بنفس الشاعر وانتمائه الوظيفي للاقتصاد، فهو يؤلف بعدد قليل من الكلمات الأشطر الشعرية فتحقق بذلك الامتاع والاقناع. ولعل أقصر بناء إيقاعي في الديوان هو قصيدة:"الندامة"
راسك محني
لسانك ملوي
عينك تبكي
دموعك تسري
مني حشمان
وانت ندمان
كلمتان خفيفتان حققتا إيقاعا يسري بسرعة في أعماق نفس القارئ. إن إيقاع الديوان إيقاع نفسي بامتياز لهذا كانت الجمل الشعرية قصيرة وكان الصدى الموسيقي لها أبلغ. وللتأكد من ذلك اقرأ بصوت جهوري أي قصيدة سيشعرك الإلقاء بجمالية أجراس القصائد.
الرؤية:
من لا رؤية له لا إبداع له. تلك شرط الإبداع الأدبي. ينظر إلى الرؤية من زاويتين:
1ـ الرؤية الفنية
هي ثقافة الأديب الفنية أي مايملك من معرفة وأدوات فنية يستدعيها أثناء إنتاجه. ويكتشفها القارئ بين ثنايا النصوص. لقد ولج الشاعر نور الدين بن شقرون باب الزجل من حديقة أزهار الشر لبودلير وهو ما سيترك أثره في الديوان عندما يصرح بموليير علنا أو عند سخريته بالبون أني أو سان فالتان. لكن أفصح ما عبر به عن رؤيته الفنية نجده في قصيدة:" سوق الكلام" حيث يقول:
گلت نقضي ونزيد القوام
كلامي يرجع صالح
يفهموه القاريين والعوام
وَلْفُونِي ديما واضح
تخيلتو مصدر إلهام
نتمنى نكون فالح
يُصرِّح الشاعر نور الدين بن شقرون بأنه ينتقي الكلمات الجزلة - لاغريبة ولاسوقية- من أجل إبداع رسالة شعرية تصل الجميع، معتزا بأن الإلهام عنده ينبع من هذا الواقع الذي تجتمع داخله الأضداد بعيدا عن الإلهام الميتافيزيقي.
هذا ما يحيل من داخل النص على مجموعة من المعايير الجمالية التي تمنح الكلام صفته الشعرية.
2. رؤية العالم:
يقصد بها الموقع الذي يرى الأديب من خلاله العالم بكل أحداثه وتحولاته. هنا وجب التمييز بين من ينظر إلى العالم من خلال نصوص"ثقافة النصوص كبرج عاجي" ومن يضع نفسه داخل تجربة مباشرة تمنحه رؤية قد تكون مأساوية أو سعيدة، عضوية أو انتهازية..
إن رؤية الزجال نورالدين بن شقرون للعالم رؤية مباشرة. فقد استثمر أحداثا ومواقف كان جزءا منها ولا يتجزأ عنها:عاشها وعايشها ثم تمثلها ذهنيا وأدخلها داخل قالب فني"قصيدة الزجل " وجعل منها رسالة أدبية تتغيا خلق الأثر الفني التفاعلي عند المتلقي. تقوم رؤية الزجال في هذا الديوان على مجموعة من الأبعاد هي:
- البعد الوطني : يعتز الشاعر بانتمائه للمغرب كمؤسسات "مدح الملك محمد السادس والتشبث بالمؤسسة الملكية" ورد ذلك في قصيدة:" الوثاق الرصين" وقصيدة:" تذكير لناكر الجميل"
- البعد الديني: الاعتزاز بانتمائه للإسلام. نجد ذلك في القصائد:" رمضان شهر الغفران" " سوق الضحية"
- البعد القومي: عندما يعلن تضامنه مع القضية الفلسطينية: قصيدة:" الفا الصامدة"
- البعد البيئي:" الأرض تستغيث" و"استغاثة قطرة ماء"
- البعد الاجتماعي والأخلاقي والسياسي: ركز فيه على التحولات التي شهدها المغاربة في نمط العيش واللباس وصراع الأجيال وتغير العادات والتقاليد وبروز مغاربة انتهازيين وصوليين لا يؤمنون بالقيم الأخلاقية ولا يلتزمون بالمواثيق السياسية ويتاجرون في كل شيء مما ترتب عنه غلاء المعيشة وضياع الحقوق وسيادة اليأس. كل هذا نجده داخل قصائد "المهراز" ونجد معه صوت الشاعر الشاجب والمندد والمنتظر للتغيير. تولَّدَ عن رؤيته وإيقاعاته ولغته هذا الزجلُ الجميل الذي منح لنا فرصة اللقاء بهذا الجمهور الأجمل.
موسى مليح
آيت أورير الحوز 10فبراير 2025
- من حفل توقيع وقراءة في ديوان المهراز للزجال نور الدين بنشقرون .. الحفل الذي نظمته جمعية الابداع والبيئة والتنمية ..
يعتمد النقد في إصدار أحكامه على مجموعة من المعايير القبلية التوجيهية، التي يأمل الناقد العثور عليها في النص الأدبي. بتلك المعايير يؤكد أو ينفي أحكامه القبلية.كأن يبرز الخصائص الفنية لجنس أدبي ما أو مدرسة أواتجاه بطريقة مدرسية أو أكاديمية. تحيل كلمة النقد هنا على التعريف اللغوي العربي القديم المأخوذ من حقل الصيرفة: "تمييز الفاسد والصالح من النقود."
بينما القراءة ممارسة ذهنية ونفسية تسعى إلى تأويل الأثر الأدبي (أرسطو) أو التفاعل الحاصل بين النص /النصوص المقروءة والقارئ. يحصل التفاعل لحظة القراءة فهو آني منفلت ولا يقوم على الماقبل الثابت داخل قواعد محددة سلفا.
إن الناقد لشعر الزجل عليه أن يضبط آلته النقدية بمجموعة من المصطلحات والقواعد الفنية، المتعارف عليها داخل هذا الحقل الفني كالأغصان والأحمال والأدوار وتنوع القافية والمطالع والأقفال والخرجات والأسماط دون إغفال الموروث من خصائص القصيدة العربية؛ أوإغفال أسس التصنيف إلى زجل الملحون وزجل العيطة وزجل الإنشاد. وهذا عمل عظيم وشيق له رجالاته.
أما القراءة العاشقة فتتأسس على قاعدة تقول: بأن كل عمل أدبي يحتوي على مؤشرات أسلوبية تنبه القارئ فتحدث ما يسمى بالتفاعل بينه وبين النص. فيقوم بالبحث عن مصدر هذا التفاعل كي يترجمه إلى إنتاج قد يوازي أو يفوق النص المقروء. وبما أن القصيدة الزجلية المغربية تملك من المنبهات الأسلوبية ما يخلق أنواعا من التفاعلات ذات الأثر الفني الراقي وبما أننا كقراء مغاربة تشعرنا القصيدة الزجلية بالهوية والانتماء إلي بلد متعدد الثقافات؛ فإن أي تأويل لذلك التفاعل لن ينزاح عن الهوية كوظيفة أساسية لشعر الزجل وعما يعشق المغربي من خصائص فنية يحملها هذا الجنس الأدبي.
مشاهدة المرفق 28415
تختلف قراءة القصيدة الزجلية عن قراءة القصيدة العربية بكل تشعباتها القديمة والحديثة. إن قراءة قصيدة عربية تشعر القارئ بأنه مكبل و مقيد بسيميترية توزيع الجمل؛ قد تكون تلك الجمل طويلة منظمة في سطرين أفقيين بينهما بياض ينتهي سطرها الأخير بمصب يتكرر على طول القصيدة أو قصيرة تكسر نظاما قديما، تتحكم في بنائها امتداد سواد الحبر في بياض الورقة. لكن في الزجل يختفي السواد والبياض وتتحول الكلمات إلى فراشات ترقص وتُراقص؛ إنه فعلا شعر بنات الشفة.. فعندما تعرض لهذا المقطع الزجلي:
أنا وعشيرتي الگربة كانت عندي الأهمية
كنت مغمور بالمحبة وسط الأحياء الشعبية
فين أيامي فينها اللي كنت فيها معزوز
فين ايامي وزينها قبل ما يدخل البزبوز
إن القارئ المستمع لهذا القول يسرع في فك أغلال الكلمات من فضائها الضيق الورقة إلى فضاء أرحب أشبه برحابة
الساحة المراكشية جامع الفناء، فيمثل أمام عينيه الگراب ويستحضر كل تحولات هذه الحرفة نتيجة التطورات الحديثة وأبرزها مد البيوت بالماء. ألا ينطبق هذا التفاعل على المهراز في هذا الديوان؟
مشا تخبا مهرازنا مع الديكور ديال الدار
فضل يسكت وما يفضح عوارنا ويظل يشوف طول النهار
تلفنا الطريق وضاع صوابنا نستهلكو المطحون بلا شوار
ها نحن نخرج عن اللفظ المحصور في الترادف والتضاد إلى التلفظ المفتوح على كل تأويلات الدلالات التداولية، بأبعادها النفسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والجمالية. مما يؤكد قولة الفيلسوف اليوناني أرسطو:
"الشعر أكثر فلسفة من التاريخ وأعلى قيمة منه."
تأسيسا على ذلك أُصرحُ أن تفاعلا إيجابيا تحقق لدي وأنا أقرأ "المهراز" فعند محاولة تأويلي للأثر الفني الجميل الذي أحدثته ثلاثون قصيدة في الديوان، خلصت إلى أن عليَّ البحث في لغة وإيقاع ورؤية الشاعر نور الدين بن شقرون كعناصر متفاعلة داخل النص الواحد وممتدة للنصوص الأخرى. فاعتبرتها مركز ثقل ومصدر هذه الشحنة النفسية الذهنية.

1 ـ لغة الديوان:
يتفق الدارسون للزجل بأن القصيدة الزجلية تمثل نقطة تحول في تطور القصيدة العربية. وأن أبرز مظهر لهذا التحول هو المظهر اللغوي؛ أي الانتقال بالشعر من الفصحى إلى الدارجة/العامية. إن الدارجة كوسيلة تواصل يومي تشكل هوية وطنية، لذلك فالبحث في الأثر الفني للغة القصيدة الزجلية لا يخرج عن إطار العامية المغربية. من هنا نشتم في الزجل رائحة البادية بكل أبعادها: الكانون والغبار وأصوات الحيوانات ووسائل الحرث والحصاد وفرحة السوق والتسوق والأهازيج التي منحتنا فن العيوط العبدي والحوزي والمرساوي والگريحة...
ونشتم ثوابل المدن المغربية العتيقة بلهاجاتها: الفاسية والمراكشية والطنجاوية والمسفيوية والرودانية...
وأريج الأمازيغية التي انصهرت بعض كلماتها في الخطاب اليومي المغربي: الزكروم، ميسا (الطاولة في الريفية) تقشابت، تحراميات، التكرفيس... بل والتعبير في لهجتنا المغربية بالبنية النحوية والصور البلاغية الأمازيغية.
في ديوان المهراز نجد هذا التمازج العجيب بين كلمات متعددة المصدر، مثل:الگرجومة، الدمدومة، الدصارة، الحزارة، كعبي وكعبية، الواكح والعرام، الگوم والتقشاب، مكفسة وعفسة، البينگا والطيسة، الكبال والحلحال، هاك وارا والقصارة، الكديدة وصلبان، تايطير من المقلة، يتزاگلو... وغيرها كثير.
كل الكلمات السابقة لا تحمل دلالة في ذاتها إن لم توظف في سياقها التداولي في البادية أو في مراكش وفاس وفي بعدها الأمازيغي. هذا يؤكد أن مصدر التفاعل هو هذا الجمع بين من يظنه متباعد، إنه جمع بين أفراد شعب قد يختلفون في اللهجات لكن قصيدة بن شقرون وغيره من المبدعين وحدتهم فتحولت إلى أغاني تفرض وجودها في كل الأفراح.
إن لغة الشاعر نورالدين بن شقرون تنتمي للزجل الأبيض لأنه لم يتكلف في لغته؛ فلم يوظف غريب الألفاظ ولم يسقط في سوقيتها المبتذلة، وهو يعي أن كل تكلف لغوي يفسد المعنى. فلم يسقط سقوط الشاعر التافه الذي يقول عنه الفيلسوف الألماني نيتشه:
" الشاعر التافه يكدر المياه كي تبدو عميقة."
2 ـ الإيقاع:
الإيقاع في الشعر هو انتظام الأصوات والكلمات داخل أوزان تقوم على تفعيلات عمادها الحركة والسكون من أجل أداء وظيفة موسيقية.
ما يثير الانتباه في"المهراز" قصر الجمل الشعرية. إن قصر الجمل مرتبط بنفس الشاعر وانتمائه الوظيفي للاقتصاد، فهو يؤلف بعدد قليل من الكلمات الأشطر الشعرية فتحقق بذلك الامتاع والاقناع. ولعل أقصر بناء إيقاعي في الديوان هو قصيدة:"الندامة"
راسك محني
لسانك ملوي
عينك تبكي
دموعك تسري
مني حشمان
وانت ندمان
كلمتان خفيفتان حققتا إيقاعا يسري بسرعة في أعماق نفس القارئ. إن إيقاع الديوان إيقاع نفسي بامتياز لهذا كانت الجمل الشعرية قصيرة وكان الصدى الموسيقي لها أبلغ. وللتأكد من ذلك اقرأ بصوت جهوري أي قصيدة سيشعرك الإلقاء بجمالية أجراس القصائد.
الرؤية:
من لا رؤية له لا إبداع له. تلك شرط الإبداع الأدبي. ينظر إلى الرؤية من زاويتين:
1ـ الرؤية الفنية
هي ثقافة الأديب الفنية أي مايملك من معرفة وأدوات فنية يستدعيها أثناء إنتاجه. ويكتشفها القارئ بين ثنايا النصوص. لقد ولج الشاعر نور الدين بن شقرون باب الزجل من حديقة أزهار الشر لبودلير وهو ما سيترك أثره في الديوان عندما يصرح بموليير علنا أو عند سخريته بالبون أني أو سان فالتان. لكن أفصح ما عبر به عن رؤيته الفنية نجده في قصيدة:" سوق الكلام" حيث يقول:
گلت نقضي ونزيد القوام
كلامي يرجع صالح
يفهموه القاريين والعوام
وَلْفُونِي ديما واضح
تخيلتو مصدر إلهام
نتمنى نكون فالح
يُصرِّح الشاعر نور الدين بن شقرون بأنه ينتقي الكلمات الجزلة - لاغريبة ولاسوقية- من أجل إبداع رسالة شعرية تصل الجميع، معتزا بأن الإلهام عنده ينبع من هذا الواقع الذي تجتمع داخله الأضداد بعيدا عن الإلهام الميتافيزيقي.
هذا ما يحيل من داخل النص على مجموعة من المعايير الجمالية التي تمنح الكلام صفته الشعرية.
2. رؤية العالم:
يقصد بها الموقع الذي يرى الأديب من خلاله العالم بكل أحداثه وتحولاته. هنا وجب التمييز بين من ينظر إلى العالم من خلال نصوص"ثقافة النصوص كبرج عاجي" ومن يضع نفسه داخل تجربة مباشرة تمنحه رؤية قد تكون مأساوية أو سعيدة، عضوية أو انتهازية..
إن رؤية الزجال نورالدين بن شقرون للعالم رؤية مباشرة. فقد استثمر أحداثا ومواقف كان جزءا منها ولا يتجزأ عنها:عاشها وعايشها ثم تمثلها ذهنيا وأدخلها داخل قالب فني"قصيدة الزجل " وجعل منها رسالة أدبية تتغيا خلق الأثر الفني التفاعلي عند المتلقي. تقوم رؤية الزجال في هذا الديوان على مجموعة من الأبعاد هي:
- البعد الوطني : يعتز الشاعر بانتمائه للمغرب كمؤسسات "مدح الملك محمد السادس والتشبث بالمؤسسة الملكية" ورد ذلك في قصيدة:" الوثاق الرصين" وقصيدة:" تذكير لناكر الجميل"
- البعد الديني: الاعتزاز بانتمائه للإسلام. نجد ذلك في القصائد:" رمضان شهر الغفران" " سوق الضحية"
- البعد القومي: عندما يعلن تضامنه مع القضية الفلسطينية: قصيدة:" الفا الصامدة"
- البعد البيئي:" الأرض تستغيث" و"استغاثة قطرة ماء"
- البعد الاجتماعي والأخلاقي والسياسي: ركز فيه على التحولات التي شهدها المغاربة في نمط العيش واللباس وصراع الأجيال وتغير العادات والتقاليد وبروز مغاربة انتهازيين وصوليين لا يؤمنون بالقيم الأخلاقية ولا يلتزمون بالمواثيق السياسية ويتاجرون في كل شيء مما ترتب عنه غلاء المعيشة وضياع الحقوق وسيادة اليأس. كل هذا نجده داخل قصائد "المهراز" ونجد معه صوت الشاعر الشاجب والمندد والمنتظر للتغيير. تولَّدَ عن رؤيته وإيقاعاته ولغته هذا الزجلُ الجميل الذي منح لنا فرصة اللقاء بهذا الجمهور الأجمل.
موسى مليح
آيت أورير الحوز 10فبراير 2025


- من حفل توقيع وقراءة في ديوان المهراز للزجال نور الدين بنشقرون .. الحفل الذي نظمته جمعية الابداع والبيئة والتنمية ..