تعبتْ حقائبهُ من كثرة التجوال .. طلبتْ منه هدنةً ، لكنّ خفيَّاً أقوى من الشَوقِ يُحرّقه .. لم يأبه لتوسلات ثيابه التي أبلاها السفر وتـناوُب الشمس والرياح العاصفة .. ولم ينتبه للأصوات المحيطة به تشدّه .. تحاول منعه .. لكن لا حياة لمن يلملمُ شخصيّته الجديدة يطويها بعناية ويخبئّها بين طيّات أغراضه .. ويفتح ابوابه لاستقبال هذا القادم العزيز .. الحبّ ..
كم كان تافهاً عندما ظنَّ انّ الحبّ يصادفك مرّة واحدة .. وكم كان غبيّاً عندما اعترته مرّة مشاعر جارفة .. اقتسم حينها قلبه وحياته .. وعاش ينزع بحجيرات تضخّ الدم وتتحشرج .. حتى قابلها ذات سفرة .. فَعَجّت دماء الشباب في أوردته، تعجّب من مقدرته على الحب والشوق واللهفة .. فقد كان على يقين بأن مشاعره تجمدّت على أقطاب الملل العائلي .. ولن يذيب هذا الثلج حتى الثغر الأوزوني الكبير ..
لكنّ الشمسَ سطعت فجأةً .. أذابت صقيع العالم من حوله فتناسى حاضره .. تجاوزَ واقعَهُ .. ومَهَرَ في الاكثار من أعماله وسفرياته ..
كلما مرَّ الحدود وخُتِمَ جوازه تنفس الصعداء، شعر لفحات الحر نسيماً عليلاً يُبرِّد جمر حاضره المتوقِّد .. اجتيازٌ يفتح له أبواب الماضي والمستقبل معاً .. فيعيده شاباً يحّرقه الشوق والحنين .. تـنبض عروقه حياة بعد أن كان قد نعى مشاعره متَّهماً قرينته بقتل أحاسيسه، بتساقط أوراقه وبأخراجه من جنّة عدن ..
ها هي الأخرى هناك تُحْييه من جديد .. تـنفخ الروح في هذا التراب المتداعـي فيتحوّل انسانـاً .. آدم الجديد الذي لم يُـلدغ مرّتين .. لن يأكل من شجرة المعرفة .. فاللامعرفة هي الأسلم .. يتجاهل كلّ الواقع المحيط به .. يتغابى .. يتغاضى .. يتعامى حتى عن أبنائه .. ولا يرى إلاّ تلك التي تزحف في جنـّته .. تلتف حول حياته وجيوبه .. فأنّى لها أن تجد أخرقَ يزورها كلّ حين، يكسي عريّها وجوعها .. يحقّق ذاته الضائعة تحت أقدامها..
تمرّ ليالي سفره كلمح البصر .. فتتثاقل الحقائب همّاً وهدايا .. يعود أدراجه نحو الحقيقة الرابضة على صدره .. تفتح الأيدي الصغيرة هداياها فتمزّق مع الأوراق قلباً لا يستطيع أن يحتملَ مشاعرَ متـناقضة .. ويكاد ينفجر تضخُّماً ..
وتمدُّ زوجته يداً متردّدة .. فهذا الاختيار المفاجىء لأنواع عطر غريبة، تعبق منها روائح لم تعهدها من قبل .. فهل نسيَ عطرها المفضّل .. أم أنّه يريد أن يشمّ رائحة تفوح منها وتذكّره بغيرها !
هـل أنساه ارتـجاج السفر بأنها المرأة التي هـزّت أركانه ذاتَ حبّ .. وأنها غدت تقرأه غيباً .. تشمّ روائح انفعالاته ، تضع النقاط والفواصل في صفحات ايّامه وتتركه حَدَثاً تصاعدياً ، كلما ظنَّ أنّه بلغ القمة معها وبدأ الانحدار .. فاجأته بقوّتها الخارقة .. تشدّه وتجذبه نحو الأعلى .. لقد أتعبته قممها الشامخة .. فتهالك عند أوّل منعطف ..
سمعَتْهُ يلتقط أنفاسه فأيقنت أنّ سفراته المتكررة ليست عملاً .. وهذا الجواز المختوم اياباً وذهاباً يدمغ قلبها بالشّك .. وابتسامتهُ المزيّفة تضع الدمعة في عيونها .. وهذه الهدايا الغريبة من وراء الحواجز تهديها الى السر الدفين .. وأيّ سرٍّ يتوارى وقد تعوّدت أن تقرأ ما وراء سطوره، وأن تسمع صدى كلماته .. وبحدسها النسائي شعرت جسداً ميتاً بارداً .. عرّى كلّ الأكاذيب .. وغرس خنجراً مسموماً في قلبها ..
أصبحت كالغزال الجريح، لا تستطيع أن تهربَ وجراحها نازفة وصغارها حولها يلعقون الندوب ويرطبون الشقوق المدّماة ..
كلما حالت دونه ودون حقائبه .. نشب أظفاره في حشاها .. فاستـلّت من جعبتها دموعاً وصوراً وذكريات .. عرضتْها أمامه علّه يحّن إلى الأيام الخوالي ..
عانَقتْهُ على مضض .. فلامستْ جسداً غريباً يتـنكَّر لدفئها .. كم ألهَبَتْهُ وتركته جمراً مشتعلاً يتطاير رماده على مهل .. كان يراها عالماً يزخر جمالاً وفتنة .. والآن لا يأبه لسحرها .. ولا يلتفت اليها ..
قررتْ أن تسير مع التيار وأن تعيق الجرف المتدفّق بحكمةٍ ..
هل سمعتَ ما حلّ بفلانة ..؟
لا تهمّني أخبار الناس..ولا حكايا هذا البلد المتخلّف؟
لم أكن أعهدكَ متحضّراً ومنفتحاً ..
سمعتُ أنّها تركت البيت .. لكن للضرورة أحكام .. والبيوت أسرار ..
هي لم تترك بيتها .. لقد تركها البيت لأنّها غدرتْ بعهد الوفاء ..
وَمَضَتْ في مخيّلتهِ مخاوف .. حاول أن يسامح تلك المرأة في قرارة نفسهِ .. لكنّه وجد لسانه يتلعثم ..
حاول أن يبحث لها عن الأعذار في ثنايا عقله .. لكنّه لم يجد عذراً يبرّر فعلتها .. فصمتَ ..
هل انطفأت حقّاً جذوة حبّه الأوّل؟ وهل ستتحوّل جمرة عشقه الحاليّة إلى رمادٍ في يوم ما...؟
أحرقتْهُ الأفكار تشتعل لهيباً .. فالنزوة العابرة كطلقة رصاص طائشة .. إنْ لم تصِبْكَ أزعجتكَ بدويّها .. وإنْ لم تُردِكَ قتيلا .. أحيَتْكَ من جديد ..
حاولَ أنْ يقارنَ خطيئته بخطيئتها .. ارتبكَ .. نظر إلى الحقيبة الجاهزة تتململ مللاً .. وإلى جواز سفره ملقى هناك يئنّ .. ونظر إليها فرأى نظرة مترقّبة .. جديدة .. حزينة .. لكنها قويّة لم يعرف أن يقرأها .. فغضّ الطرفَ .. وسافر مع هواجسه .........
* راوية جرجورة بربارة ( أبوسنان)
13.03.06
كم كان تافهاً عندما ظنَّ انّ الحبّ يصادفك مرّة واحدة .. وكم كان غبيّاً عندما اعترته مرّة مشاعر جارفة .. اقتسم حينها قلبه وحياته .. وعاش ينزع بحجيرات تضخّ الدم وتتحشرج .. حتى قابلها ذات سفرة .. فَعَجّت دماء الشباب في أوردته، تعجّب من مقدرته على الحب والشوق واللهفة .. فقد كان على يقين بأن مشاعره تجمدّت على أقطاب الملل العائلي .. ولن يذيب هذا الثلج حتى الثغر الأوزوني الكبير ..
لكنّ الشمسَ سطعت فجأةً .. أذابت صقيع العالم من حوله فتناسى حاضره .. تجاوزَ واقعَهُ .. ومَهَرَ في الاكثار من أعماله وسفرياته ..
كلما مرَّ الحدود وخُتِمَ جوازه تنفس الصعداء، شعر لفحات الحر نسيماً عليلاً يُبرِّد جمر حاضره المتوقِّد .. اجتيازٌ يفتح له أبواب الماضي والمستقبل معاً .. فيعيده شاباً يحّرقه الشوق والحنين .. تـنبض عروقه حياة بعد أن كان قد نعى مشاعره متَّهماً قرينته بقتل أحاسيسه، بتساقط أوراقه وبأخراجه من جنّة عدن ..
ها هي الأخرى هناك تُحْييه من جديد .. تـنفخ الروح في هذا التراب المتداعـي فيتحوّل انسانـاً .. آدم الجديد الذي لم يُـلدغ مرّتين .. لن يأكل من شجرة المعرفة .. فاللامعرفة هي الأسلم .. يتجاهل كلّ الواقع المحيط به .. يتغابى .. يتغاضى .. يتعامى حتى عن أبنائه .. ولا يرى إلاّ تلك التي تزحف في جنـّته .. تلتف حول حياته وجيوبه .. فأنّى لها أن تجد أخرقَ يزورها كلّ حين، يكسي عريّها وجوعها .. يحقّق ذاته الضائعة تحت أقدامها..
تمرّ ليالي سفره كلمح البصر .. فتتثاقل الحقائب همّاً وهدايا .. يعود أدراجه نحو الحقيقة الرابضة على صدره .. تفتح الأيدي الصغيرة هداياها فتمزّق مع الأوراق قلباً لا يستطيع أن يحتملَ مشاعرَ متـناقضة .. ويكاد ينفجر تضخُّماً ..
وتمدُّ زوجته يداً متردّدة .. فهذا الاختيار المفاجىء لأنواع عطر غريبة، تعبق منها روائح لم تعهدها من قبل .. فهل نسيَ عطرها المفضّل .. أم أنّه يريد أن يشمّ رائحة تفوح منها وتذكّره بغيرها !
هـل أنساه ارتـجاج السفر بأنها المرأة التي هـزّت أركانه ذاتَ حبّ .. وأنها غدت تقرأه غيباً .. تشمّ روائح انفعالاته ، تضع النقاط والفواصل في صفحات ايّامه وتتركه حَدَثاً تصاعدياً ، كلما ظنَّ أنّه بلغ القمة معها وبدأ الانحدار .. فاجأته بقوّتها الخارقة .. تشدّه وتجذبه نحو الأعلى .. لقد أتعبته قممها الشامخة .. فتهالك عند أوّل منعطف ..
سمعَتْهُ يلتقط أنفاسه فأيقنت أنّ سفراته المتكررة ليست عملاً .. وهذا الجواز المختوم اياباً وذهاباً يدمغ قلبها بالشّك .. وابتسامتهُ المزيّفة تضع الدمعة في عيونها .. وهذه الهدايا الغريبة من وراء الحواجز تهديها الى السر الدفين .. وأيّ سرٍّ يتوارى وقد تعوّدت أن تقرأ ما وراء سطوره، وأن تسمع صدى كلماته .. وبحدسها النسائي شعرت جسداً ميتاً بارداً .. عرّى كلّ الأكاذيب .. وغرس خنجراً مسموماً في قلبها ..
أصبحت كالغزال الجريح، لا تستطيع أن تهربَ وجراحها نازفة وصغارها حولها يلعقون الندوب ويرطبون الشقوق المدّماة ..
كلما حالت دونه ودون حقائبه .. نشب أظفاره في حشاها .. فاستـلّت من جعبتها دموعاً وصوراً وذكريات .. عرضتْها أمامه علّه يحّن إلى الأيام الخوالي ..
عانَقتْهُ على مضض .. فلامستْ جسداً غريباً يتـنكَّر لدفئها .. كم ألهَبَتْهُ وتركته جمراً مشتعلاً يتطاير رماده على مهل .. كان يراها عالماً يزخر جمالاً وفتنة .. والآن لا يأبه لسحرها .. ولا يلتفت اليها ..
قررتْ أن تسير مع التيار وأن تعيق الجرف المتدفّق بحكمةٍ ..
هل سمعتَ ما حلّ بفلانة ..؟
لا تهمّني أخبار الناس..ولا حكايا هذا البلد المتخلّف؟
لم أكن أعهدكَ متحضّراً ومنفتحاً ..
سمعتُ أنّها تركت البيت .. لكن للضرورة أحكام .. والبيوت أسرار ..
هي لم تترك بيتها .. لقد تركها البيت لأنّها غدرتْ بعهد الوفاء ..
وَمَضَتْ في مخيّلتهِ مخاوف .. حاول أن يسامح تلك المرأة في قرارة نفسهِ .. لكنّه وجد لسانه يتلعثم ..
حاول أن يبحث لها عن الأعذار في ثنايا عقله .. لكنّه لم يجد عذراً يبرّر فعلتها .. فصمتَ ..
هل انطفأت حقّاً جذوة حبّه الأوّل؟ وهل ستتحوّل جمرة عشقه الحاليّة إلى رمادٍ في يوم ما...؟
أحرقتْهُ الأفكار تشتعل لهيباً .. فالنزوة العابرة كطلقة رصاص طائشة .. إنْ لم تصِبْكَ أزعجتكَ بدويّها .. وإنْ لم تُردِكَ قتيلا .. أحيَتْكَ من جديد ..
حاولَ أنْ يقارنَ خطيئته بخطيئتها .. ارتبكَ .. نظر إلى الحقيبة الجاهزة تتململ مللاً .. وإلى جواز سفره ملقى هناك يئنّ .. ونظر إليها فرأى نظرة مترقّبة .. جديدة .. حزينة .. لكنها قويّة لم يعرف أن يقرأها .. فغضّ الطرفَ .. وسافر مع هواجسه .........
* راوية جرجورة بربارة ( أبوسنان)
13.03.06