محمد بشكار - بحدين أكتب مذبوحا..!

ثمة من يُحب أن يَقْرَأكَ ناثرا تَخْرُجُ من نفسكَ التي ما أكثر ما تغلق عليها بسبعة أقفال و تُلقي المفاتيح في بحر ليس في حقيقة أعماقه سوى ذاتك المختلجة أكثر من تلاطم موج لا يزيدك إلا غرقاً..!
ثمة من يُحبُّ أن يَسْرَحَ في سُطوركَ ناثرا لتخرج من همِّكَ الخاص كي تُخالط هموم المجتمع، و تطلق رجليك في أيتها مقهى و تطلق معهما عينيك لكي يتنزها في شؤون الخلق، فلا تكاد تلمس القلم حتى يلسعك الضرر السحيق الذي هدَّ بالفقر جيوب المواطنين، فكأنك تلمس مع القلم الألم الذي وصل جرحه للعظم..!
أن تمضي في الدروب السفلى للكتابة نثرا كأنك تُمْسكُ جمرا أو تتأبط شرّاً؛ لن تقول دائما ما يعجب بعض الناس ممن تحوَّلت بطونهم إلى أفران من فرط عجينها الذي لا يصلح لفساده خبزا..!
ستصبح و أنت تُمسك بسطر أو سطرين من النثر سوطاً، قاسي القلب لا تأخذك الرأفة و أنت تجلد من اختلس أموال المساكين و فر خارج البلاد أو حتى داخلها محتميا بأحد المتنفذين بعد أن اقتسم معه الغنيمة، ليأكلا معا على طبق واحد الأرزاق الهزيلة لفقراء لا يملكون في أكتافهم لحما و لا شحما قد يفيض بالمرق..!
الكتابة نثرا لا يحشم على عِرْضِه إذا كان من يكتبه شريفا ولا يجعل ضميره جيبا مفتوحا في مزاد علني أو سري لمن يدفع أكثر، يقول الحقيقة دون خشيةٍ من لوم أو عقاب، يشير بالقلم الذي يثقب الأعين إلى من نهب عرَق المواطنين من صندوق التقاعد ليُسدد ديونه الخاصة، و تركه فارغا ليموت الناس كمدا قبل المعاش..!
ثمة من يُحبُّ أن يقرأكَ ناثرا لأنك تجُرُّ بالكلمة المباشرة و المُسَدَّدة دون لفٍّ أو دوران، متاعب قد تجرك بدورها إلى غياهب السجون دون أن تمس من فَضَحْتَ فسادَهم شوكةٌ من قنفذٍ أملس..!
الكتابة نثرا ليست يسيرة كما يحسب بعض من يسْتسهِل هذا العبء الأدبي أو الإعلامي، فتجده كلما وخزت ذبابةٌ شعرة في رأسه يظنها فكرة فيلقمها و هي طائرة، ليحط أسفله أعني على الورقة أي شيء و كيفما اتفق دون أن يعلم أنه يُزكمنا بما لا نجد له دواءً حتى في النخالة عساه يلتئم من إسهال..!
إنه لعملٌ جسيم و مهيب لمن يقتفي في سطوره كل جرائم الفساد التي قد يقترفها طبيب من ذوي المصحات الخاصة و هو يترك مريضا يموت لأنه لا يملك مالا يُسدِّد به تكلفة إحدى العمليات الجراحية الخطيرة؛ أو محامي يتلاعب بالقانون و يحشد كل الدلائل الزائفة ليُبرِّئ المجرم و يُجَرِّم البريء الذي يُسجن مدى الحياة زورا و بهتانا؛ أو أستاذ يزيد التلاميذ جهلا بدروس كل معلوماتها الخاطئة من بنات خياله، و لا يدري أنه بهذا الصنيع إنما يبني للمجتمع صرحا مغشوشا لنكون جميعا حين يسقط البناء ضحايا جيل جاهل لا يستطيع تحمل المسؤولية أو يفقه شيئا؛ أو مهندس معماري يشوه فضاءنا بعشوائيات وأقفاص من قبيل ما يُسمى اليوم السكن الإجتماعي، الذي يكفي أن تسعل ليطير من فوقك السقف، لتصبح الحياة أشبه بالإقامة قي قبر يكتم الأنفاس، و ما ذلك إلا لأن جشع المهندس و الشركة التي يشتغل لحسابها دفعه للسرقة من مواد البناء مالا كافياً يزيد فيلاتهم اتساعا و بيوتنا ضيقا و تغدو مدننا مقابر جماعية تعيث تشويها في البنيان و العمران..!
النثر إذا كان يتحرَّى في كلامه الصدق، أشبه باللعب بالنار، قد يصيب لتصدُقَ عليه العبارة الأثيرة (آخر الدواء الكي) أو قد يخيب فيُحرق كاتبه قبل أن تصل شرراةٌ واحدة للآخرين، خصوصا أننا بتنا نشهد في السنوات الأخيرة مع تفاقم المد المتطرف دينيا، تراجعا فظيعا في حريات التعبير سواء الإبداعية أو الإعلامية، و قد دفع هذا الغُلو في الإسلام الذي هو دين يُسْرٍ و ليس عسرا، إلى انغلاق الدولة و انكفائها على نفسها متوجِّسةً خيفة من كل ما يصدر عن الكلمة خشية اندلاع الفتنة، ضاربة عرض الحائط أو طوله، كل المفاهيم الحداثية التي تجعل أفراد المجتمع يعيشون زمنهم دون عُقدٍ فصامية و ليس زمنا سحيقا في التاريخ يلبسون ثيابه و يتحدثون كلامه و يهيمون في أفكاره التي بقيت في حجرها جامدة و تنتظر عقولا تُحرك سواكنها ببعض الإجتهاد؛ أجل النثر صريحٌ و يرقص بالوجه المكشوف حتى لو كان مذبوحاً، و لكن يجب أن نحمي كاتبه بقوانين لا تكبح الجِماح و تجعلنا نعيش كأنما الطير على رؤوسنا في مجتمع أخرس حيث لا يُكلِّمُ الواحد منا الآخر إلا في نفسه بالأعين خوفا حتى من اقتراف جريرة الإيماء..!
و إذا كان ثمة من يُحب أن يقرأك ناثرا من درجة فارس لا يني للقلم شاهرا في وجه الظلم الذي لا يملك في الحقيقة وجها، فثم من يُحب قراءَتَكَ شاعرا مشغولا بدوزنة الكلمة في مقامات ترتفع أعلى بالكلمة و لا يُهِمُّها إذا سقطتْ لِتَجْتَرحَ في جُرحها الصورة التي لا تخْطُر على خيالٍ أو رأتها عينٌ حتى في سلسلات الرسوم المتحركة؛ يُحبُّكَ شاعرا لتحدثه بما يحدثُ به نفسه دون أن يفهمه حتى يقرأ قصيدة، فيصيح: ذلك شعوري أيضا..!
لن أكذب على نفسي و أهوي بمطرقة التفضيل الفاصلة بين الناثر و الشاعر، إنما هما معا و إن كانا ينطقان من نفس القلم، أشبه بِحَدَّيْ السكين الذي يضرب بالمضاء الكافي من اليمين و اليسار، غير أن الجهد الشاق للكتابة الذي يترتَّبُ عنه نزيفٌ داخلي، يجعل الكاتب هو المذبوح..!

(افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" لعدد يومه الخميس 9 فبراير 2017)

تعليقات

أكتب الحقيقة و حارب من أجل القضية ، ففي كلتا الحالتين أنت مذبوح، هو واقعنا المر نحن شعوب المغرب العربي، لم نحقق التعايش سواء مع ذواتني أو مع الأحرن فنحن دوما ناقمين عن وضعنا، لعل الوجع خلق معنا و لا ندري، امض يا أخي فالقلم سلاح ذو حدين
 
أعلى