كانت التوتة تكبر وتكبر، لم تكن أغصانها وحدهها هي التي تكبر، بل كذلك تلك الشرايين التي تمتص ماءها وغذاءها، كانت جذورها تتمدد تحت الأرض، تبحث عن سراديب تمنحها ماء الحياة، كانت تتحسس تحت التراب مسالك الماء كي تروي ضمأها الكبير وتواصل الترعرع كي يتمدد ظلها أكثر، اكتشف جدي ذات خريف خلال تنظيف الماجل ان الشجرة باتت تتقاسم الماء مع العائلة وأن جذورها التي تمدّدت بعيدا قد تسللت من بعض الشقوق نحو الماجل وأنها صارت تمثل تهديدا له وللبيت عامة، فكان القرار الصعب، قطع رأس الأفعى كي يموت ذيلها تحت الأرض وكان جواب السيدة حازما "لا سبيل الى قلعها".
أعلنت بحسم عصيانها لزوجها ورفضها التفاوض في مسألة الاقتلاع ولا حتى في قطع جزء كبير من جذوعها، عاركت بحدة وأّلّبت كل أولادها كي يتصدوا لهذا القرار الجائر، بكت ذات صباح وهي تتأمل الشجرة وتتحسس لحاء جذعها الضخم: "غرستها حين حملت بأمك بعد عامين أو أكثر من زواجي بجدك، كنت أحب التوت وأشتهيه وحين حللت بهذا البيت كان البستان مليئا بكل الخيرات وكان سي عبد القادر مغرما به، يبحث عن كل أنواع الثمر فيجلبه ويغرسه وكثيرا ما يوصي بغصن ليطعم به شجيرة وكثيرا ما جلب له أصحابه شجيرات أو أغصانا للتطعيم من جهات اخرى من البلاد لكن البستان كان ناقصا، لم تكن فيه توتة لذلك أوصيت والدي الله يرحمو أن يحضر لي شجيرة توت غرستها بيدي وسقيتها واعتنيت بها، يا حسرة كانت رفيقتي أشكو لها من همي كلما أحسست بقلق أو هم لا أقدر أن أذيعه لأحد، كم ربطت فيها قطعا من قماش فستان أو لفافة من صوف ايزار أخيطه، كم دفنت تحتها من خصائل شعري، أجمع ما يعلق بالمشط من خصلات وأدفنه في ظلها فأشعر أن شعري يزداد قوة وبهاء، كم عقدت فيها وتحتها من نذور وأمنيات ؟ ألبستها ذات مرة أساوري وحليي، كان ذلك حين مرض سامي بالحصبة، تنظر إليّ وهي تبتسم: "تضحك ؟" "حناتك بوهالية" أربعة أيام والحمى تأكل جسده، لم ينفع دواء الطبيب حتى خشيت أن أفقده، كنت لا أنام الليل، أغمض عيني للحظات وأفيق مذعورة فأغلفه بماء الزهر وفي الليلة الثالثة حلمت أن التوتة تمد لي غصنا من أغصانها فأقطف ثمرها وأطعمه لسامي فيضحك. وحين أفقت في الصباح حملته في حضني، فرشت جلدا في ظلها ونذرت أن أكسوها الذهب ان هي دعت معي الله كي ينقذ ولدي ثم قطفت بعض أوراقها الخضراء وغليتها وسقيته منها بعض الماء ودلكت جسمه بالبقية وسط ذهول جدك الذي راقبني بعين حائرة واكتفى بابتسامات حزينة، وعدت أني سأجعل تلك التوتة عروسا ان شفي ولدي وفعلت، في اليوم الخامس بدأت الحرارة تخف وبدأت الحياة تعود إليه وبعد أسبوع تعافى فأخرجت أساوري وكامل حليي وعلقته في غفلة من الحاج في أغصان التوتة الصغيرة ونمت نوما عميقا لم يوقظني منه سوى صوت جدك المؤنب كان مذهولا لسلوكي وكنت سعيدة بنجاة ولدي".
"شوف يا سي عبد القادر كان تقدر العشرة اللي بيناتنا وحياة صغارك وبرحمة أمك العزيزة لا تقلّعها" كان ذاك آخر فصل في التفاوض. قبل الحاج طلبها وترك التوتة بعد أن قطع جذورها المعتدية وأصلح جدران الماجل. كبرت التوتة صحبة السيدة وتعبت لتعبها ويبست أغصانها وشاخت، وربّما فقدت ذاكرتها أو لعلها مازالت تشتاق لتلك المرأة النشيطة التي غرستها واعتنت بها وحكت لها وشكت لها همومها وحلّتها بالذهب ودافعت عنها كي تظل على قيد الحياة، لعلها، لعلها...تتحرك أغصانها بريح خفيفة فتتطاير أوراقها، يغزوني البرد فأطفئ سيجارتي وأحرك عربتي لأعود إلى فراشي بحثا عن الدفء وعن نوم أريح فيه هواجسي وأتعابي.
أعلنت بحسم عصيانها لزوجها ورفضها التفاوض في مسألة الاقتلاع ولا حتى في قطع جزء كبير من جذوعها، عاركت بحدة وأّلّبت كل أولادها كي يتصدوا لهذا القرار الجائر، بكت ذات صباح وهي تتأمل الشجرة وتتحسس لحاء جذعها الضخم: "غرستها حين حملت بأمك بعد عامين أو أكثر من زواجي بجدك، كنت أحب التوت وأشتهيه وحين حللت بهذا البيت كان البستان مليئا بكل الخيرات وكان سي عبد القادر مغرما به، يبحث عن كل أنواع الثمر فيجلبه ويغرسه وكثيرا ما يوصي بغصن ليطعم به شجيرة وكثيرا ما جلب له أصحابه شجيرات أو أغصانا للتطعيم من جهات اخرى من البلاد لكن البستان كان ناقصا، لم تكن فيه توتة لذلك أوصيت والدي الله يرحمو أن يحضر لي شجيرة توت غرستها بيدي وسقيتها واعتنيت بها، يا حسرة كانت رفيقتي أشكو لها من همي كلما أحسست بقلق أو هم لا أقدر أن أذيعه لأحد، كم ربطت فيها قطعا من قماش فستان أو لفافة من صوف ايزار أخيطه، كم دفنت تحتها من خصائل شعري، أجمع ما يعلق بالمشط من خصلات وأدفنه في ظلها فأشعر أن شعري يزداد قوة وبهاء، كم عقدت فيها وتحتها من نذور وأمنيات ؟ ألبستها ذات مرة أساوري وحليي، كان ذلك حين مرض سامي بالحصبة، تنظر إليّ وهي تبتسم: "تضحك ؟" "حناتك بوهالية" أربعة أيام والحمى تأكل جسده، لم ينفع دواء الطبيب حتى خشيت أن أفقده، كنت لا أنام الليل، أغمض عيني للحظات وأفيق مذعورة فأغلفه بماء الزهر وفي الليلة الثالثة حلمت أن التوتة تمد لي غصنا من أغصانها فأقطف ثمرها وأطعمه لسامي فيضحك. وحين أفقت في الصباح حملته في حضني، فرشت جلدا في ظلها ونذرت أن أكسوها الذهب ان هي دعت معي الله كي ينقذ ولدي ثم قطفت بعض أوراقها الخضراء وغليتها وسقيته منها بعض الماء ودلكت جسمه بالبقية وسط ذهول جدك الذي راقبني بعين حائرة واكتفى بابتسامات حزينة، وعدت أني سأجعل تلك التوتة عروسا ان شفي ولدي وفعلت، في اليوم الخامس بدأت الحرارة تخف وبدأت الحياة تعود إليه وبعد أسبوع تعافى فأخرجت أساوري وكامل حليي وعلقته في غفلة من الحاج في أغصان التوتة الصغيرة ونمت نوما عميقا لم يوقظني منه سوى صوت جدك المؤنب كان مذهولا لسلوكي وكنت سعيدة بنجاة ولدي".
"شوف يا سي عبد القادر كان تقدر العشرة اللي بيناتنا وحياة صغارك وبرحمة أمك العزيزة لا تقلّعها" كان ذاك آخر فصل في التفاوض. قبل الحاج طلبها وترك التوتة بعد أن قطع جذورها المعتدية وأصلح جدران الماجل. كبرت التوتة صحبة السيدة وتعبت لتعبها ويبست أغصانها وشاخت، وربّما فقدت ذاكرتها أو لعلها مازالت تشتاق لتلك المرأة النشيطة التي غرستها واعتنت بها وحكت لها وشكت لها همومها وحلّتها بالذهب ودافعت عنها كي تظل على قيد الحياة، لعلها، لعلها...تتحرك أغصانها بريح خفيفة فتتطاير أوراقها، يغزوني البرد فأطفئ سيجارتي وأحرك عربتي لأعود إلى فراشي بحثا عن الدفء وعن نوم أريح فيه هواجسي وأتعابي.