عبدالرحيم التدلاوي - الشخصيات واللغة والبعد السياسي والاجتماعي في مجموعة "الممكن من المستحيل" لعبد الجبار السحيمي

توضيح لا بد منه
قرأتُ هذا العمل منذ سنوات، ولم يكن في ذهني حينها أن أخصص له قراءة تحليلية أو دراسة معمقة. لكنه ظل عالقًا في ذاكرتي، إلى أن صادفته مؤخرًا على أحد المواقع الإلكترونية بصيغة PDF، فدفعني ذلك إلى إعادة تحميله والعودة إليه بنظرة جديدة، ساعيًا إلى إعادة قراءته بعينٍ نقدية مختلفة، والبحث عن مداخل قرائية يمكن أن تسلط الضوء على أبعاده المختلفة. ومن هنا جاء هذا المنجز، الذي يحمل في طياته تأثرًا غير مباشر بقراءات بعض من سبقوني إلى تحليل هذا العمل، حيث كان حضورها طفيفًا في سياق بحثي، إلى جانب استلهام مباشر من قراءات أخرى سأحرص على الإشارة إلى أصحابها بشكل صريح، تثمينًا لجهودهم وإثراءً للنقاش النقدي حول هذا العمل القصصي.

1741886948888.png

تحليل مجموعة "الممكن من المستحيل"
الشخصيات
القارئ لمجموعة "الممكن من المستحيل" سيدرك أن عبد الجبار السحيمي يمزج في قصصه بين الواقعية النقدية والتأمل الفلسفي، موظِّفاً لغة مكثفة ورموزاً متعددة الطبقات. أود في تحليلي هذا الوقوف عند الشخصيات أولًا، ثم محاولة إبراز الجماليات السردية والفكرية التي تُميّز العمل، مع التركيز على التفاعل بين الشكل والمضمون، حيث تتجلى الانزياحات الفنية في سياقاتها الاجتماعية والسياسية.
تتشكل الشخصيات في مجموعة "الممكن من المستحيل" بوصفها انعكاساً لتعقيدات الواقع الاجتماعي والوجودي، حيث تتوزع بين تجسيد القهر، والانغماس في التناقضات الحياتية، والسعي نحو مقاومة خفية. يقدّم السحيمي هذه الشخصيات بتكثيف رمزي، يجعل منها مرايا لواقع مضطرب، تتبدى ملامحه في كل قصة بشكل متباين.
تحليل بعض الشخصيات
في قصة "المساء الآخر"، تجسّد العلاقة بين الشاب والفتاة (فاطمة) الفراغ العاطفي في العلاقات الحديثة؛ إذ ترفض الحب بسخرية تعكس استهلاك المشاعر في مجتمع متقلب. أما الجرسون، فهو شخصية ثانوية ترمز إلى الإنسان الذي يؤدي أدواره اليومية بلا وعي، أشبه بآلة تعمل ضمن نظام اجتماعي ميكانيكي. تنتهي القصة بهروب الرجل، مستعيدًا شريط لقاءاتهما وتفاعلاتهما، ليقرر هذه المرة الابتعاد بدلًا من انتظارها كعادته، باحثًا عن فتاة تبادله الحب بصدق وتتفاعل مع غزله بحرارة.
بينما تكشف قصة "حمدان" عن صراع داخلي بين القيم الأخلاقية ومتطلبات الحياة القاسية، حيث يتحول حمدان، الموظف البسيط، إلى شخص فاسد بسبب الفقر والضغط الاجتماعي، في حين تمثل زوجته زهرة تجلياً لمتطلبات المجتمع الاستهلاكية التي تدفعه نحو الانهيار. ابنته خديجة، من جهتها، تعكس البراءة المسحوقة بفعل القمع الأبوي الذي لا يلتفت لاحتياجاتها.
تظهر العزلة القاسية في "حكاية حزينة"، حيث يموت رجل وهو يحمل حذاء طفل، في مشهد رمزي لمدى هشاشة الحياة في المدينة، بينما تظل الفتاة التي تنتظره رمزاً للحب الذي يتبدد في مجتمع لا يرحم.
اللغة والأسلوب
تعد اللغة عند السحيمي أداة لنقل الأحداث وفضاء لتوليد المعاني عبر تكثيف الأسلوب والانزياحات اللغوية. في قصة "حمدان"، يُترجَم الصراع الداخلي للموظف الفقير إلى جمل قصيرة مشحونة بإيقاع دراماتيكي، حيث يتحول الصمت إلى رمز للانهيار، بينما تصبح الصرخة تعبيراً عن الضغط الاجتماعي. هذا التكثيف اللغوي يُكسب السرد طابعاً شاعرياً يُحمِّله دلالات تتجاوز المعنى الظاهري للكلمات.
تلعب الرموز دوراً محورياً في النص، إذ تُحوِّل العناصر اليومية إلى استعارات كونية. في قصة "السجن الكبير"، يتجاوز السجن معناه الحرفي ليصبح تمثيلاً للقمع الذاتي والاجتماعي، حيث يبرز التناقض بين محاولة تزيين القهر برمزية "الورد" داخل الزنزانة.
البناء السردي
يعتمد السحيمي على تعدد الأصوات وتشظي الزمن، مما يمنح النص بعداً رؤيوياً. في قصة "في المدينة"، يتداخل صوت الراوي مع أصوات الشخصيات، فتظهر المدينة كفضاء لاغتراب الإنسان في زمن حديث متسارع، حيث تضيع الذات في دوامة الآليات الحياتية الجافة. هذا الأسلوب يستدعي تقنيات تيار الوعي لكنه يُطوَّع ليعكس خصوصية التجربة المغربية.
القضايا الاجتماعية والسياسية
البعد الاجتماعي-السياسي حاضر بقوة، حيث يكشف السحيمي عن بنى الفساد والاستغلال التي تُحاصر الإنسان المغربي. في "حمدان"، يُصوَّر الفساد الإداري ببساطة مباشرة، لكن أثره يتجاوز الحدث الفردي ليكشف عن نظام قائم على المقايضة الأخلاقية. لا يكتفي السحيمي بوصف الواقع، بل يطرح أسئلة أخلاقية عميقة حول حدود الفقر والانحراف، مما يجعل السرد أداة نقد اجتماعي بامتياز.
تأثيرات أدبية
تتجلى في المجموعة تأثيرات أدبية متنوعة، حيث يلتقي التأثر بكافكا بخصوصية السرد المغربي، في نصوص تجمع بين العمق المعنوي والبناء الفني المتقن. كما يبرز الانزياح عن الواقعية التقليدية في اتجاه سرد أكثر تجريبية، حيث تمتزج العناصر الواقعية بالرمزية، مما يمنح النص بُعداً تأويلياً غنياً.
الخاتمة
تعتمد المجموعة تصوير الواقع من خلال إعادة تشكيله بواسطة راو لا يركن بالمطلق إلى السرد التقليدي. وتكمن جمالية المجموعة في تحويل التفاصيل اليومية إلى استعارات، والمحلي إلى كوني، عبر لغة دقيقة توازن بين الاقتصاد في التعبير وعمق الدلالة. هذه المجموعة تُؤسِّس لسردية مغربية جديدة، تتجاوز التصنيفات الجاهزة، وتفتح المجال أمام القارئ ليُعيد بناء الحكاية أو يخلقها من جديد.



المصادر والمراجع
المصدر:
الممكن من المستحيل، عبد الجبار السحيمي، عيون المقالات، الطبعة الثانية، الدار البيضاء 1988.
المراجع:
محمد غرناط، الكتابة القصصية عند عبد الجبار السحيمي، جريدة القدس العربي، 11 فبراير سنة 2013.
المستحيل من الممكن، مقالة نقدية نشرت في العلم الثقافي يوم 02/07/2012، مأخوذة عن محرك البحث مغرس.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى