د. محمد عباس محمد عرابي - البيان في قصيدة "كلُّ الجفونِ متاهاتُ ليلٍ" للشاعر درويش الأسيوطي

عرض /محمد عباس محمد عرابي


في رائعته "كلُّ الجفونِ متاهاتُ ليلٍ"للشاعر القدير درويش الأسيوطي،تسبح في بحور البيان البلاغي بمتعة تخاطب العقلي ،وهي قصيدة يغلب عليها مسحة من الحزن والألم،حزن يشعر به ذوي العقول الأريبة ،والأحاسيس المرهفة والمشاركة الوجدانية أحاسيس مشاركة الآخر في آلامه ، وقد استطاع شاعرنا القديردرويش الأسيوطي توظيف الأساليب البيانية البلاغة في بيان وإبراز مشاعر الحزن هذه، يقول شاعرنا المبدع في درته الشعرية الفريدة " كلُّ الجفونِ متاهاتُ ليلٍ":
بناصيةِ الوقتِ أجلسُ،
أقتاتُ خبزَ التمنِّي،
وأشربُها مرَّةً ..
مثلَ خاتمةِ العمرِ،
قد ضاقَ صدري بما دار حَولِي،
ودار برأسي ، فدارَ ودار .. !!
فما عادَ صوتُ العصافيرِ
يُوقظُني في الصباحِ ..
وما عادَتِ الشمسُ تشرقُ مِنْ خلفِ أهدَابِها ،
فالشموسُ تغيبُ بمشرقِها ..
والزمانُ استدار .!!
وما سهرت لي نجومٌ
أُسهِّدُها بالتذكُّرِ ..
ما عادَ مِنْ قَمرٍ في المدار..!!
ربما لم أعدْ أبصرُ الآنَ شيئًا سواهُ ..
فأهتفُ مستبشرًا :
مرحبًا أيُّها الموتُ ..
يا صاحبًا لم يَعُدْني على فُرُشِ الارتحالِ سِوَاهُ ..
ربَّما جئْتني مُبْكِرًا ..
كالمذابينَ شوقًا ..
وعلِّي طلبتُكَ في وحدَتي .. !!
مَنْ سِواكَ يُلَقِّنُ قلبَ الوحيدِ
نَشِيدَ التَّوَجُّعِ ..
والجَذْرُ أضْحَى نظَامَ المياهِ
وقانونَ أيامِنَا .. والقَرَار ..!!
لم يعُدْ للتقاويمِ مدٌ
فهل ضاعَ مِنْ سَلَّةِ الوقتِ عُمرِي .
وهل أنهكَ الصدرَ ذاك الغناءُ المرار .. ؟
ها أنا في خريفِ التواريخِ ..
أقتاتُ أيامَهُ العاجزاتِ ،
وآملُ أنْ يُشرقَ الفجرُ
مِن كُوَّةِ الصَّدرِ ..
والفَجرُ ضَلْ المسار..!!
وحَدنا خلَّفَتْنَا المواقيتُ ،
نشربُها مُرةً ،
دونَ صحبٍ ،
ينيرونَ في كُوةِ الصدرِ،
يُثيرونَ في باحةِ الصدرِ صيْحاتَهم
والنكاتِ ..
فكلُّ الصحابِ مضوا ..
والطريقُ إليهم يَحار ..
أيها الذاهبونَ بمَا أسعدَ القلبَ مهلاً ..
خُذوني على سرَّةِ الغَيبْ طِفلاً ..
فليسَ على دَرَجِ العمرِ
ما عادَ يمتُعُ عيني
وما عاد طعمُ القصائدِ شهدًا
على شفةِ الشعراءِ
وما عادَ شِعرِي بسمعِ المحبينَ ..
ينبتُ في رأسِ من يعشقونَ الدَّوَار . ..!!
كلُّ شيءٍ يذوبُ بكفِّ انتظاري ..!!
فيا أيها االعازفونَ على أضْلُعي لَحنَهُم ..
أوقفوا ذالكَ اللحنَ ..
ما عادَ يطربُني النايُ ،
ما عادَ يُرجِفُ قلبي كُحلُ العيونِ
و إسبالةُالجفنِ ،
كلَُّ الجفونِ مَتاهاتُ ليلٍ ..
وكلُّ العيونِ صحارى .. قِفَارْ ..
حيث لايكاد تخلو مقطوعة من مقطوعات القصيدة من خيال سامق ومجاز وبيان وكناية وصورة فنية خيالية بدءًا من عنوان القصيدة حتى آخر كلمة فيها:
فالعنوان "كلُّ الجفونِ متاهاتُ ليلٍ": نجد فيه التشبيه والصورة الفنية التي عبر فيه الجمع كلُّ الجفونِ متاهاتُ ليلٍ،وها نحن نرى أن للوقت ناصية يجلس بها الشاعر ،والصورة في قوله "بناصيةِ الوقتِ أجلسُ،وقوله "أقتاتُ خبزَ التمنِّي"وها هي الشمس لا تشرق مِنْ خلفِ أهدَابِها ،كما أن النجوم لا تسهر ،وقوله :"يا صاحبًا لم يَعُدْني على فُرُشِ الارتحالِ سِوَاهُ .. ، وقوله:
"فهل ضاعَ مِنْ سَلَّةِ الوقتِ عُمرِي ."
وهل أنهكَ الصدرَ ذاك الغناءُ المرار .. ؟
وجميع ما يلي من أسطر شعرية (خريفِ التواريخِ-أقتاتُ أيامَهُ العاجزاتِ-ُشرقَ الفجرُ- كُوَّةِ الصَّدرِ)في قوله :
ها أنا في خريفِ التواريخِ ..
أقتاتُ أيامَهُ العاجزاتِ،
وآملُ أنْ يُشرقَ الفجرُ
مِن كُوَّةِ الصَّدرِ ..
والفَجرُ ضَلْ المسار..!!
إلى أن يقول :
ما عادَ يُرجِفُ قلبي كُحلُ العيونِ
و إسبالةُالجفنِ ،
كلَّ الجفونِ مَتاهاتُ ليلٍ ..
وكلُّ العيونِ صحارى .. قِفَارْ ..
صور فنية بلاغية معبرة لتؤكد براعة الشاعة ومهارته الإبداعية في إيضاح المشاعر الحزينة المسيطرةعلىالنفوس في كل كلمة من كلمات القصيدة، وهذا ليس بغريب على شاعر قدير مبدع درويش الأسيوطي الذي يعد – حفظه الله من –رواد الشعر في عصرنا الراهن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى