د. محمد عبدالله القواسمة - النقد والرواية العربية...

المقدمة

لعل عنوان هذه الدراسة "النقد والرواية العربية: النشوء والارتقاء" يكشف عن إشكالية الدراسة ومنهجها، ورؤيتها، وهدفها؛ فالإشكالية تقوم على أسئلة حول نشأة النقد والرواية ومسيرتهما معًا ومستقبل الرواية وتطويرها، ولحل هذه الإشكالية كان لابد من اللجوء إلى التاريخ والاستعانة بغيره من العلوم والمعارف، وتقوم الرؤية على أن النقد ضروري للإبداع وتابع له، ولا يكون نقد روائي دون رواية. وتهدف الدراسة إلى تعرف علاقة النقد بالرواية وعلاقة الرواية بالنقد، ومعرفة تأثير كل منهما في الآخر، ومعاينة الحالة التي وصل إليها كل منهما، بغية الوصول إلى الهدف الرئيس من الدراسة، وهو استشراف آفاق المستقبل الذي ستكون عليه الرواية، العنصر الرئيس الذي يتمحور حوله النقد الروائي.

استنادًا إلى هذا الفهم، وانطلاقًا من العنوان الذي حملته الدراسة كانت معالجة الإشكالية تحت العناوين التالية:

  • النشوء.
  • مسار النقد والرواية.
  • الدراسات النقدية في الرواية.
  • مستقبل الرواية.
النشوء

عند طرح موضوع نشأة الرواية العربية تظهر قضيتان يدور النقاش حولهما بين النقاد والباحثين العرب، مع أنهما ليستا من القضايا التي يهتم بها النقد الروائي عادة؛ فهما من اختصاص تاريخ الأدب أو نظرية الأدب: القضية الأولى تتصل بالجذور التاريخية للرواية العربية، والقضية الثانية حول تسمية الرواية العربية الأولى التي اقتربت من الحدود الفنية لهذا الجنس الأدبي المستحدث، وبُدئت بها مسيرة الرواية العربية.

اشغلت القضيتان النقاد العرب كثيرًا، واختلفوا في كلتا القضيتين: ففي القضية الأولى، ظهرت مقولتان: الأولى ترى أن الرواية العربية بالمقاييس الفنية الحديثة فن أخذ من الغرب، ولم توجد في مصنفات التراث العربي، حتى إن العرب كانوا يستهجنون فن القصة، يؤكد ذلك ما قاله محمود تيمور أحد رواد القصة العربية: «أول ما يصدم الباحث في الأدب العربي هو تفاهة القصة، وقلة ما كتب فيها، وعناية العربي بها» (1) كما يبين جورجي زيدان ضعف اهتمام العرب بالفن الروائي حتى بعد بداية التفاعل مع الغرب عن طريق النقل والترجمة والتعريب. يقول: "والرواية فن له شأن عظيم في آداب اللغة الإفرنجية يكاد يكون أهمها، وأما في العربية فإنه أضعف فروع الأدب"(2).

أما المقولة الثانية فترى أن جذور الرواية العربية الحديثة تعود إلى التراث العربي، وهي امتداد لما عرفه العرب من فنون السرد كالأمثال، والخطابة، والأساطير، والخرافات، والحكايات الشعبية، والمقامات، وأحاديث العشاق وغيرها؛ لأن "من المتعذر على التفكير العلمي أن يقبل ما يردده الكثيرون من أن هذا الفن مستحدث في أدبنا العربي لا جذور له، نقلناه مع ما نقلنا من صور الحضارة الغربية، وقلدناه محاكين ما نقلناه، ثم بدأنا ننتج بعد هذا ألوانا منفردة من هذا الفن الجديد على أدبنا" (3) ومن الذين أرجعوا أصول الرواية إلى العرب فاروق خورشيد، وعلى عبد الحليم محمود، ومحمد كامل حسن المحامي. ويأخذ فاروق خورشيد على دارسي تاريخ الرواية العربية الخضوع لأحكام المستشرقين، التي ترى أن هذا الفن مستحدث في أدبنا، نقلناه عن الآداب الغربية في مطلع حركتنا الفكرية عن طريق الترجمة والمحاكاة والتقليد، ويدعو إلى عدم الاستسلام لتلك الأحكام وعدم تكذيب الناقد أو الدارس إذا تعارض رأيه مع رأي المستشرقين. وهذه عقدة نقص ولدها الانفتاح الحضاري على الغرب بعد عصور من التخلف. (4)

لا شك في أن الصراع بين المقولتين بدأ في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن الماضي حين لم يكن لدى الباحثين العرب الوعي النظري أو الأدوات المنهجية الإجرائية للتعمق في فهم الرواية، ومع ذلك فقد ظهر في نقاشاتهم الاهتمام بتسمية هذا النوع من الكتابة(5)، كما نلاحظ في قول إبراهيم اليازجي: " أما القصة فهي مأخوذة من قص الخبر أو الحديث إذا ساقه وأورده بحسب وقوعه، وأصله من قص الأثر واقتصه إذا تتبعه شيئًا بعد شيء، فالقصة في الأصل بمعنى الخبر ثم نقلت إلى القصة التي تكتب... والمعنى الأخير هو المراد من القصة في الاصطلاح " (6)

في هذا القول تظهر محاولة اليازجي، وهو أحد رواد النهضة العربية تأصيل هذا الفن، وتسويغ وجوده في الحياة الثقافية العربية؛ فقد وعى بأن القصة لم يعد معناها كما هو في التراث العربي فحسب بل أصبح ذا دلالة اصطلاحية حديثة مرتبطة بنوع من السرد القصصي المكتوب، فضلًا عن دلالته القديمة. وفي هذا اعتراف بالأصول الغربية للرواية العربية مع أصولها العربية. ويتفق هذا مع فهم جورجي زيدان بأن فن القصة قد عرف سابقًا في آداب الأمم كافة، وهذا لا ينفي استفادة العرب مما عرف عند الغرب من فنون، منها فن الرواية في ذلك العهد الذي شاعت فيها روايات مترجمة أو مؤلفة على النمط الغربي، ويوضح ذلك بقوله: " نريد بالروايات القصص التي يعبر عنها الإفرنج بالرومان، وقد يتبادر إلى الأذهان أنها من الفنون الحديثة التي نشأت مع التمدن الحديث فاقتبسناها نحن من جملة ما اقتبسناه من عوامل هذا التمدن. وربما صح هذا الزعم عند التخصيص؛ أما عند الإطلاق، فالرواية قديمة جدًا، بل هي أقدم سائر فنون الأدب"(7)

وإذا كان فن الرواية ليس مقصورًا على الآداب الغربية فقد عرفته كل آداب العالم فإن هذا يدل على أن مرجعية الرواية العربية ليست في التراث الغربي وحده، بل إن التراث العربي كان له تأثير كبير في الرواية الغربية. ويذهب علي شلش إلى أن فن الرومانس عرفته الآداب الغربية بتأثير الأدب العربي؛ فقد كانت الأعمال القصصية مثل ألف ليلة وليلة، وأخبار عنترة وسيف بن ذي يزن، وحكايات الحب العذري رائجة في ذلك التراث.(8) ويدلل على أن المرجعية الغربية ليست هي المرجعية الوحيدة للرواية العربية من خلال الاضطراب في تسمية هذا الشكل السردي؛ فقد انتشر مصطلح الرومانية الغربي ذي المرجعية الفرنسية، ومصطلح القصة ذي المرجعية العربية، ثم استقر الأمر على مصطلح الرواية الذي ظهر قي بيروت منذ عام 1870 كما يرى كثير من النقاد(9) وهذا يؤكد " أن هذا المصطلح لم يكن ليتكرس لولا علاقته القوية بالتراث العربي من جهة وقابليته لاحتواء الرواية بمفهومها الحديث من جهة أخرى. فهذه المرونة الدلالية هي التي أهلته وتؤهله للاشتمال على إنجازات سردية متعددة ولا يمكن أن تستند كلها بالضرورة إلى النموذج الروائي الغربي حصرًا وتحديدًا" (10)

في النصف الأخير من القرن الماضي عندما تطورت الحركة النقدية العربية، وتعددت المناهج والموضوعات والمرجعيات عادت قضية أصل الرواية العربية تثار من جديد من منطلقات فكرية وأيديولوجية ومعرفية مختلفة عن تلك التي تحكمت في جيل الرواد. ودون أن نغرق في تتبع الدراسات والأبحاث التي تناولت هذه القضية، فإن معظم النقاد العرب يسلمون بأصل الرواية الغربي، وبأنها جنس مقتبس من التراث الغربي، وبخاصة الإنجليزي والفرنسي بدءًا من طه حسين، ويحيى حقي، وشوقي ضيف، إلى عبد المحسن طه بدر، وشكري فيصل، وسيد حامد النساج وغيرهم، فعندهم أن الرواية الغربية هي النموذج الأمثل الذي اقتدت به الرواية العربية وحاكته.

أما القضية الثانية التي انشغل بها النقد الروائي فهي قضية تسمية الرواية العربية الأولى مع أنها من القضايا الفرعية في الأدب الحديث. إذ أجمع كثيرون من النقاد والباحثين العرب على أن الرواية العربية الأولى، التي توافرت فيها الشروط الفنية الغربية هي رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل، التي نشرت عام 1914. وكان هيكل بدأ كتابتها عام 1910م متأثرًا برواية "غادة الكاميليا" 1848لألكسندر دوماس الابن، حين كان طالبا لشهادة الدكتوراه في الحقوق بباريس. وفرغ منها عام 1911م، وبعد أن عاد إلى مصر في منتصف عام 1912م تردد في نشر الرواية، لأنه خشي أن تغلب عليه صفة الكاتب الروائي على صفة المحامي. لكن أخيرًا انتصر على تردده، ودفع روايته إلى المطبعة واضعًا بدلًا من اسمه كلمتي (مصري فلاح) . مقدمًا كلمة (مصري) حتى لا تكون صفة للفلاح، لإحساسه بأن أبناء الطبقة البرجوازية كانوا ينظرون إلى المصريين الآخرين وجماعة الفلاحين باحتقار.(11)

ومن الروايات التي أُشير إليها بأنها الرواية العربية الأولى رواية" الأجنحة المتكسرة" لجبران خليل جبران، التي كانت ثمرة أيضًا لهذا التلاقح الفكري بين الرواية العربية والغربية، كما رأى بطرس حلاق في إحدى دراساته. (12) ووجد عبدالله إبراهيم أن رواية "زينب" ليست هي الرواية الأولى، فقد سبقتها روايات كثيرة لأدباء من بلاد الشام، في مقدمتها رواية خليل الخوري (١٨٣٦/١٩٠٧م) "وَيْ. إذن لستُ بإفرنجي" التي نشرها في جريدته "حديقة الأخبار" عام ١٨٥٩م مقدمًا إياها بقوله: إذا كنت أيها القارئ مللت مطالعة القصص المترجمة، وكنت من ذوي الحذاقة، فبادر إلى مطالعة هذا التأليف الجديد المسمى: "وي. إذن لست بإفرنجي"(13) وصدرت الرواية كاملة في كتاب عام ١٨٦م. وفي لبنان ظهرت رواية "الهيام في جنان الشام"، لسليم البستاني، ونشرت في مجلة «الجنان» ببيروت عام ١٨٧٠م.

وتذهب الناقدة يمنى العيد إلى أن من فتح باب الرواية العربية هي امرأة وليس رجلًا، وهي الكاتبة لبيبة هاشم في روايتها "قلب الرجل" التي صدرت عام 1904م، كأقدم نص روائي عربي قبل رواية زينب لهيكل.(14) ومن الذين أبعدوا رواية "زينب" عن الريادة أيضًا الناقد المصري محمد سيد عبدالتواب، في كتابه “بواكير الرواية العربية” الذي صدرت طبعته الثانية مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، حيث أكد وجود روايات سبقت "زينب" زمنيًا في الإنتاج الروائي العربي. واتفق مع الدكتور عبدالله إبراهيم بأن رواية "وي.. إذن لست بإفرنجي" التي ألّفها خليل أفندي الخوري سبقت رواية هيكل بنحو نصف قرن. وقد وضع عبدالتواب دراسة تحليلية نقدية للرواية، في الجزء الأخير من كتابه لأنها ــ كما قال ــ لم تُذكَر في أيّ من الدراسات من قبل. ويشير إلى أن عدد الروايات التي سبقت رواية “زينب” يزيد على مئتين وخمسين رواية تقريبًا، لكن رواية الخوري الأسبق زمنيًا والأفضل فنًا. وقد صدرت طبعتها الأولى عام 1858م والثانية عام 1860م(15)

مسار النقد والرواية

من البدهي القول إن الإبداع سابق للنقد، والرواية فن إبداعي يتقدم النقد، فما النقد الروائي إلا خطاب على خطاب أو ميتالغة، أي إنه يرتبط بالنص الروائي ارتباطًا قويًا " فالناقد يضاعف المعاني ويجعل لغة ثانية تطفو فوق اللغة الأولى للأثر، أي إنه ينتج تلاحمًا للعلامات" (16) كما يرى رولان بارت. لكن في حالة الرواية العربية فإن نقدها جاء متأخرًا عنها كثيرًا، فلم يكن للنقد الروائي حضور في تراثنا؛ فقد تمحور النقد الأدبي في هذا التراث حول الشعر، حتى إن ما أنجز فيه من نقد يكاد يُكوّن نظرية متكاملة، فعرفنا فيه كتبًا نقدية كثيرة، منها: "الشعر والشعراء" لابن قتيبة، و"طبقات فحول الشعراء" لمحمد بن سلام الجمحي، و"نقد الشعر" لقدامه بن جعفر وغيرها. أما النثر فلم يحظ باهتمام النقد؛ لأن الأدب العربي منذ نشأته الأولى قام على الرواية ولم يقم على الكتابة والتدوين. ولعل الجاحظ من أوائل الأدباء الذين اهتموا بالنثر في كتابه "البيان والتبيين"؛ إذ أورد فيه خطبًا، ورسائل، وأحاديث لمختلف فئات المجتمع وطبقاته. ولما لم يكن نقد روائي في تراثنا فكان على النقاد البدء بما بشبه الفراغ(17) كما تجلى ذلك في جهود عبدالله ابراهيم في كتابه "السردية العربية" 1992م، وكمال الروبي في كتابه "الموقف من القص في التراث النقدي والبلاغي" 1991م.

لعل من الضرورة، في الحديث عن مسار الرواية والنقد اللجوء إلى التصنيف المرحلي، مع أن التصنيف لا يكون دقيقًا في هذا المجال؛ لتداخل الظواهر، واحتمال وجود الظاهرة الواحدة في مراحل لاحقة، لكنه على الأقل كاف لتكوين تصور واضح لمسيرة الرواية والنقد معًا.

مرت مسيرة النقد والرواية ــ كما نرى ــ في أربع مراحل. المرحلة الأولى وهي مرحلة التكوين. بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في أعمال خليل الخوري وفرنسيس مراش وسليم البستاني، وامتدت إلى نهاية الأربعينيات من القرن الماضي. في هذه المرحلة بدأ النقد على صورة إشارات وتعليقات صحفية في الصحف والمجلات التي كانت تصدر في بلاد الشام بعد نشر أعمال أدبية قريبة من الشكل الروائي، كما مر بنا في تقديم الخوري لروايته. واستمرت الحالة هكذا حتى أربعينيات القرن الماضي، حيث كانت سيطرة الاستعمار الأوروبي للبلاد العربية. في تلك المدة خطت الرواية خطوة كبيرة باقترابها من الشكل الروائي بفضل الاحتكاك بالغرب، وازدهار ترجمة كثير من الأعمال الأدبية والروائية، وخاصة من الفرنسية والإنجليزية، كما في أعمال "حديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحي، و"زينب" لمحمد حسين هيكل، و"الأجنحة المتكسرة" لجبران خليل جبران، و"عودة الروح" و"يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم، و"الأيام" و"أديب" لطه حسين. ومثل هذه النصوص ــ وهذه الأعمال كما يرى الناقد محمد برادة "كانت تؤكد ميلاد جنس الرواية ميلادًا يميزها عن بقية الأجناس التعبيرية الأحرى، ويحقق لها عناصر خطابية مغايرة لمعايير البلاغة التقليدية(18) إلا أن موقف النقد منها كان موقفًا سلبيًا؛ فقد رأى بعض النقاد والباحثين في الرواية وسيلة للتسلية والمتعة، وأنها تقليد أجنبي يخدش الحياء، ويفسد الأخلاق، ويضعف الإحساس بالجمال. يقول مصطفى صادق الرافعي: " لا أزال إلى الآن مع الأدب العربي في فنه وبيانه أكثر مما أنا مع الحكاية ولغتها وعواطفها، فأكبر عملي إضافة الصور الفكرية الجميلة إلى أدبنا وبياننا متحاشيًا جهد الطاقة أن أنقل إلى كتابي دواب الأرض أو دواب الناس أو دواب الحوادث ، فإن الكتب ليست شيئًا غير طبائع كتابها تعمل فيمن يقرؤها عمل الطباع الحية فيمن يخالطها. والرواية إذا وضعها كاتب فاجر، فهي عندي ليست رواية بل هي عمل يجب أن يسمى في قانون العقوبات (فجورًا بالكتابة" (19)

في المرحلة الثانية وهي مرحلة التمكين التي تمتد من خمسينيات القرن الماضي إلى ما قبل السبعينيات منه أي عام 1967م، وهي مرحلة الاستقلال من الاستعمار الغربي. في هذه المرحلة تأثر االنقد والرواية بالتغييرات التي حدثت في الواقع العربي؛ إذ تنامى الوعي الوطني والقومي، وزاد اهتمام الناس بتتبع الأحداث السياسية والمنشورات الحزبية،
فضلًا عن التطورات العلمية والتكنولوجية. وكان لمجلة الآداب اللبنانية، التي تبنت الفلسفة الوجودية السارترية بنظرتها إلى الإبداع، ودعوتها إلى الحرية المسؤولة، أثر كبير في الثقافة العربية، وفي الحياة الأدبية بمما أثارته من قضايا تتصل بالحداثة، والتراث، والواقع والخيال، والشرق والغرب، والتنظير الشعري للقصيدة الحديثة.

وبدا النقد الروائي في حدود الستينيات غير مدرك للتحول في الرواية؛ فلم يخرج من أسر الأيديولوجيا، وبخاصة الأيديولوجيا الماركسية، فغرق في قضايا الشكل والمضمون، والأديب ودوره في المجتمع العربي، والثقافة العربية مقارنة بالثقافة الغربية، والالتزام، والفن الطلائعي، والأدب الإنساني، والإبداع الثوري، والواقعية الاشتراكية(20). وشهدت الساحة الثقافية العربية بعد صدور كتاب في الثقافة المصريةعام 1955 لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس معارك نقدية، كانت نقلة جديدة في النقد الأدبي وصفت بأنّها معركة بين جيلين: الجيل القديم بزعامة طه حسين والعقاد، والجيل الجديد أو جيل الشباب، ويمثله في ذلك الزمن محمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس، وحسين مروة. وكما يشير ألن روجر في كتابه" تراث الأدب العربي" The Arabic Literature Heritage (1998م)، أنّ هذا الصراع الفكري العنيف جر وراءه سجالات نقدية جديدة ناقشت مواضيع لم تطرح من قبل مثل: الأدب صورته ومضمونه، الصراع بين القديم والجديد، قبول الثقافة الغربية أو رفضها ومواضيع أخرى.(21)

ثم بدأت الرواية مشوارها المتسارع بعد تعقد الواقع، وبدأت التعبير عن القضايا الاجتماعية والأيديولوجية، وتصوير الصراع الاجتماعي والسياسي؛ لهذا تنوعت الرواية واتسعت، ولم تقتصر على السير الذاتية واللوحات الرومانسية، كما ظهر في أعمال لنجيب محفوظ، وحنا مينا، وجبرا إبراهيم جبرا، وغسان كنفاني، ويوسف ادريس. وبرزت الرواية النسائية ذات الهم السياسي والاجتماعي للطيفة الزيات، وليلى اليافي، ومنى جبور، وكوليت خوري، وحياة بيطار، وماجدة العطار، وإميلي نصر الله..‏

وتجلى الموقف الأيديولوجي الماركسي في كتاب غالي شكري" الرواية العربية في رحلة العذاب"، فرأى أن الرواية العربية خلال الستينيات من القرن العشرين نجحت في التوفيق بين الأسلوب الواقعي والقيمة الجمالية، وبرز ذلك في التيار الرومانسي على يد يوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس، وفي التيار الواقعي، على يد عبدالرحمن الشرقاوي وحنا مينا، كما نجحت أيضًا في المزواجة بين الطابع الخاص والمحلي والنزعة الإنسانية الرحبة التي تتجاوب مع أحلام البشر أنى كانوا. ومن أمثلة ذلك رواية "الحرام" ليوسف إدريس(22).

في المرحلة الثالثة التي هي مرحلة التجدد، وتبدأ قبل السبعينيات وتمتد إلى ثمانينيات القرن الماضي حين عصفت بالعرب الهزيمة المدوية أمام إسرائيل في حرب حزيران عام1967م، وظهور المقاومة الفلسطينية، ثم توقيع السادات معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979 م. في هذه المرحلة نشط النقد بين الكتاب والقراء وفي الجامعات، وتعددت الاتجاهات النقدية، وبخاصة الاتجاه البنيوي، وحظيت القصة والرواية بالنقد دون بقية الأجناس الأدبية الأخرى، واشتغل النقاد بدراسة نشأة القصة والرواية وتاريخهما وتطورهما، وتبوأت الرواية المكانة الأولى بوصفها الفن الأقدر على التعبير عن الهم القومي والإنساني،. لقد أجبرت هزيمة عام 1967م الروائي العربي إلى إعادة النظر في الرواية التي كانت قبل الهزيمة، فظهر ما يسمى الرواية الجديدة التي لا تحمل الإجابة عما يقلق القارئ بل تدعوه إلى مساءلة الذات والآخر، وإدانة المسكوت عنه، وكشف زيف الواقع ومحاكمته، وإعادة تشكيل مفرداته، واستُخدمت فيها الأساليب المختلفة التي فيها يتمازج الخيالي والواقعي والتاريخي، وتتجاور المفاهيم التقليدية حول الرواية، المتمثلة في الكلاسيكية والرومانسية والواقعية الجديدة، مما جعلها، في تعقيدها وتركيبها، تصل إلى فضاء النص المفتوح، الذي يفسح المجال إلى قراءات متعددة في محاولة المقاربة والتفسير.

ولاحظ محمد برادة أن الرواية العربية في هذه المرحلة خاضت مغامرة التجريب، أو الانقياد لتأثيرات شكلانية وطلائعية عرفتها تجارب روائية، ولا مست الحدود القصوى للشكل والمضمون، وتجلى في روايات هذه المرحلة " تجديد الواقعية وتطعيمها بعناصر مستمدة من أشكال ووسائل تعبيرية أخرى.. والمزاوجة بين الفانطاستيك والأسطورة والمحكيات الموروثة وكذلك اللجوء إلى استعارة سردية كتب التاريخ والقصص الشعبية وتقنيات الصحافة والسينما والوثائق إلى جانب شكل الرواية داخل الرواية واستيحاء الرواية النسبية للورانس داريل، ومزج اللغة المتداولة بالخطاب الصوفي وهذيان الشعر"(23) وظهرت أسماء روائية كثيرة، مثل: تيسير سبول، وغالب هلسا، وصنع الله إبراهيم، وحنا مينا، وجمال الغيطاني، وإدوار الخراط، والطيب صالح، وبهاء طاهر، وإميل حبيبي، والطاهر وطار، وعبدالرحمن منيف وغيرهم.

المرحلة الرابعة وهي مرحلة الفوران، وتمتد من ثمانينيات القرن الماضي حتى نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة. وفي هذه المرحلة توالت على العالم العربي الأزمات الاقتصادية والسياسية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في أمريكا، وسقوط أفغانستان، وسقوط بغداد، والأزمة الاقتصادية العالمية، وأحداث الربيع العربي، وبروز الإرهاب، وظهور «داعش. في هذه الأجواء زاد الإنتاج الروائي العربي، الذي ساهمت فيه كل الأقطار العربية، حتى تلك التي كانت مساهمتها فيه إلى عهد قريب قليلة، وساعدت الجوائز على هذه الزيادة، فبرزت أسماء جديدة تمكنت من تطوير فن الرواية شكلًا ومضمونًا، واتجهت الرواية اتجاهات شتى، حيث تلاشت الفواصل بين جنس الرواية والأجناس الأدبية الأخرى سواء أكانت قريبة منها كالشعر والقصة والسيرة، أم بعيدة عنها مثل التقارير الإخبارية، والتحقيقات الجنائية، والوثائق والسينما والسيناريو والرسم، والتصوير الفوتوغرافي كما استفادت الرواية من الأشكال التراثية خاصة أدب الرحلة، كما في رواية "النبطي" ليوسف زيدان، ولجأت إلى العجائبية مثل "فرانكشتاين في بغداد لأحمد سعداوي، وتصوير عوالم الرعب والفساد والشر(الديستوبيا) مثل رواية "الجليل والصعلوك" لمحمد سالم، ورواية "عطارد" لمحمد ربيع، كما لاحظنا غوص بعض الروائيين في التاريخ القديم والوسيط، مثلما فعل يوسف زيدان في روايتيه:"عزازيل" و"النبطي"، وواسيني الأعرج الذي نهل من التاريخ والتراث في رواياته: "رمل الماية فاجعة الليلة السابعة بعد الألف"، و"كتاب الأمير مسالك أبواب الحديد"، و"البيت الأندلسي". كما تعرضت روايات كثيرة إلى موضوع الشذوذ والإباحة الجنسية، مثل رواية "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني من مصر. وظهرت روايات نسائية في هذا الموضوع، مثل: "طريق الغرام" لربيعة ريحان من المغرب، و"اكتشاف الشهوة" لفضيلة الفاروق من الجزائر، و"زوج حذاء لعائشة" لنبيلة الزبير من اليمن. كما تناولت الرواية موضوع الإرهاب وأحداث الربيع العربي، مثل روايات: "سوق الإرهاب" و"المحاصر"، و"وداعًا ساحة النخيل".

وفي هذه المرحلة اهتمت الرواية العربية بالتكنولوجيا الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي، إذ استفادت من عوالمها المفترضة في موضوعها وتقنيتها، كما في أعمال محمد سناجلة. وتراجع حضور الرواية السياسية والقومية، ورواية القضايا الوطنية، مثل قضية فلسطين، وجرب بعض الروائيين الهروب بعوالمهم الروائية إلى خارج الحدود العربية، مثل: علي المقري، وفضيلة فاروق، وبثينة العيسى، وسعد السعنوسي وغيرهم. واهتمت بعض الروايات بالخصوصية الثقافية القطرية، مثل رواية "سيدات القمر" لجوخة الحارثي التي فازت بجائزة مان بوكر الدولية عام 2019م، وبقراءتها نتعرف سلطنة عمان، موروثها الشعبي، ومنظومة قيمها وعاداتها وتقاليدها، والعلاقات الاجتماعية فيها، وبخاصة علاقة المرأة بالرجل، ودورهما في المجتمع.

الدراسات النقدية

من الواضح أن الدراسات النقدية التي تناولت الرواية العربية سارت في اتجاهين: الاتجاه الأول يتضمن الدراسات التي وردت في كتب حملت قيمة معرفية بالمنهج والمصطلحات، مثل كتب حميد لحمداني التي تناول فيها النقد الروائي البنيوي، وهي: "بنية النص السردي"، و"الرواية والأيديولوجيا"، و"النقد النفسي المعاصر"؛ إذ تحدث في بعض فصولها عن مجموعة من الكتب النقدية التي طبقت المناهج النقدية المعاصرة على النصوص الروائية. وقريب من هذه الكتب كتاب عبد الرحيم الكردي " السرد في الرواية المعاصرة، الرجل الذي فقد ظله نموذجًا" إذ عرض فيه الكردي كتبًا نقدية، مثل كتاب سيزا قاسم "بناء الرواية" ، وكتاب وليد نجار الذي درس فيه بنية الخطاب الروائي عند نجيب محفوظ.

والاتجاه الثاني تجلى في تخصيص كتب لدراسة الآثار النقدية التي تناولت نصوصًا روائية. في هذا الاتجاه كانت دراسة محمد سويرتي، التي انتقى فيها مجموعة من الدراسات في نقد الرواية، التي ألفت في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ، وسعى فيها إلى مقاربة رؤيتها النقدية من خلال مكونات الخطاب النقدي، مثل الزمان، المكان، الرؤية، الصيغة.. وجاءت الدراسة في جزأين تحت عنوان "النقد البنيوي والنص الروائي" 1991 وهو كما يتضح من عنوانه يقتصر على جانب واحد من جوانب النقد الجديد، وهو النقد البنيوي، وتختلف استنتاجات الباحث دقة وعمقًا من دراسة إلى أخرى . ومن الكتب التي تناولها: "ملامح في الرواية السورية" 1979م لسمر روحي الفيصل، و"حركة الإبداع" لخالدة سعيد 1979م، و"الألسنية والنقد الأدبي" لموريس أبو ناضر 1979م، وكتاب نبيلة إبراهيم "نقد الرواية من وجهة نظر الدراسات اللغوية الحديثة" 1980م.

ثم جاء في هذا الاتجاه كتاب عبد الله أبو هيف "النقد الأدبي العربي الجديد في القصة والرواية والسرد" 2000 م، وهو كتاب موسوعي ببليوغرافي من حيث عدد الكتب والدراسات والنقاد الذين تناولهم الباحث، وأشار إلى أعمالهم، وقدم لها عرضًا أو قراءة مجملة، كما تعرض للقضايا الأساسية لموضوعة الحداثة وتطبيقاتها البنيوية والنفسية والاجتماعية والسيميائية، وتناول القضايا النظرية والمؤلفات التي تعرضت للنقد الجديد في النقد السردي العربي. والكتاب، مع أهميته الببليوغرافية، مثل كتاب السويرتي السابق، تتفاوت فيه طبيعة المقاربة من مبحث إلى آخر .

إن أبرز المناهج النقدية التي راجت في نقد الرواية العربية من مناهج الحداثة هي البنيوية، والبنيوية التكوينية والسيميوطيقية. استورد النقاد العرب هذه المناهج من النقد الفرنسي في بداية سبعينيات القرن الماضي، وكان الاهتمام بالمنهج البنيوي قد بدأ من الناقد التونسي حسين الواد في كتابه "البنيوية القصصية في رسالة الغفران". كما كان للبنيوية التكوينية اهتمام لدى النقاد العرب، وطبق عدد كبير منهم هذا المنهج في أعمالهم، من بينهم سعيد علوش في كتابه "الروية والأيديولوجية في المغرب العربي" 1981م، ثم يمنى "العيد في كتابها "في معرفة النص - دراسات في النقد الأدبي" 1983م، ثم حميد الحمداني في كتابه " الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي - دراسة بنيوية تكوينية" 1984م. ومع هذا الاهتمام النقدي بالمنهج البنيوي فإن النقاد لم يفهموه بسبب ترجمته غير الواضحة والمعقدة في اللغة العربية بخلاف الأصل، كما أنه، مثل غيره من المناهج الغربية، لا يتلاءم مع النص العربي لأنه يستند إلى فلسفات غريبة عن الواقع العربي. فكما قال المسدي فإن " البنيوية ستظل الضيف الغريب، مرة ينسجم ومرة يبدي النشاز" (24)

ومن المناهج الأخرى جاء المنهج السيميوطيقي الذي استقبله النقاد العرب في الثمانينات من القرن العشرين مع عجزهم في الفهم والتطبيق، من هؤلاء: محمد مفتاح، وعبد اللطيف كليطو، وعبد الله الغذامي، وعبد الملك مرتاض، وقاسم حداد، ورشيد بن مالك، وصلاح فضل وغيرهم. ويدلل الباحث يوسف وغليسي على عجز النقاد عن فهم المنهج الغربي بما ورد من اختلاف بين النقاد في ترجمة المصطلحات النقدية؛ ففي ترجمة مصطلح semiology ــ على سيل المثال ــ أحصى وغليسي ترجمات مختلفة له؛ فعند الغذامي وعند صلاح فضل وآخرون سييميولوجيا أو سيميولوجية، وسيمياء عند أنطون أبي زيد وآخرون، والسيميائية عند خلدون الشمعة، وعلم الرموز عند علي القاسمي وآخرون، والسيميائيات عند مبارك حنون، وعلم العلاقات عند محمود السعران ... الخ وهذا الاختلاف كما يرى وغليسي " يتجاوز الحدود الاصطلاحية لينعكس على المفاهيم بالسلب" (25)

ما يهمنا هنا أن نؤكد أن هذه المناهج الغربية وبخاصة البنيوية أدت دورها في النقد الروائي العربي في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، مثلما أدت المناهج الأخرى: الكلاسيكية، والإيديولجية، والتاريخية والانطباعية دورها في المراحل الأولى لظهور الرواية. وفتحت الدراسات النقدية ضمن هذه المناهج المعاصرة الباب إلى نقد جديد حمل عنوان النقد الروائي ما بعد البنيوية، الذي يلتقي مع النقد الغربي وبخاصة في اتجاهاته السيميوطيقية، كما ظهر في المنجزات النقدية لنقاد من المغرب العربي، من بينهم: أحمد البيوري في كتابه "دينامية النص الروائي" 1993م، وسعيد يقطين، في كتابيه:" تحليل الخطاب الروائي"، و"انفتاح النص الروائي" 1989م، وبشير قمري، في كتابه" شعرية النص الروائي1991م، وسعيد بنكراد في كتابه" شخصيات النص السردي: البناء الثقافي" 1995م.

ويقوم هذا النقد كما جاء في كتاب البيوري " دينامية النص" على مفهومي الدينامية في بعديها التطوري التاريخي، والتبنين النصي، ومفهوم التكاملية. والبعد التطوري الدينامي استمده الباحث من نظرية فرديناند برونتيير، التي تقوم على أن المتغيرات في أي جنس أدبي تحدث بالتطور الداخلي، وتحولاته مرتبطة بعلاقة الأجناس فيما بينها وبعلاقتها بالسياق التاريخي الاجتماعي.(26) وفي تبنين النص يعتمد اليبوري على السميوطيقا، حيث يتناول الناقد نظرية النص ليركب تصورًا يتأسس من خلالها، ويسمح بتحليل النصوص الروائية بوصفها نصوصًا مفتوحة على نصوص أخرى، وعلى دلالات شتى، وعلى السياق المجتمعي، فيوسع من مفهوم النص في بنيته وتناصه وتفاعله وتعالقه.

أما مفهوم تكاملية النقد الروائي ما بعد البنيوي فيبرز من خلال التركيب المنهجي الذي يتوزع مناهجيًا ومفهوميًا، نظريا وإجرايا إلى النقد البنيوي التكويني والنفسي والباختيني الذي يظهر في دراسات الكتاب كلها في تعدد الأصوات السردية والإيديولوجية، والنقد البنيوي اللسني حيث الوقوف عند تشظي النص الروائي إلى محكيات فرعية أو حين دراسة شكل الجملة في الرواية. (27)

تركيب

رأينا في الفقرات السابقة أن النقاد العرب نظروا إلى الرواية منذ نهايات القرن التاسع عشر ضمن مفهوم سلفي قيّم الرواية تقويمًا تربويًا بلاغيًا لتجسيد القيم العليا، كما يرى محمد برادة(28)، وظل النقد حتى خمسينيات القرن العشرين إسقاطًا إيديولوجيًا لا ينتبه إلى خصوصية الرواية وخطابها إلى المجتمع؛ واتجه بفعل المثاقفة والصراع الاجتماعي نحو التمذهب والدعوة إلى رواية وجودية أو واقعية اشتراكية. ولم يدرك النقد في حدود الستينيات ـــ كما قلنا ــ التحول في الرواية خاصة ولم يخرج من أسر الأيديولوجيا، وبدأ في السبعينيات تطبيق المناهج النقدية الحديثة: البنيوية، وسوسولوجيا الأدب، والتحليل النفسي، والسيميائية لإضفاء العلمية على النقد الذي غدا كأنه مختبر لتشريح النص الروائي. وشهدت نهاية الثمانينيات وحتى الآن تزاحم التيارات النقدية، وظهر تيار ما بعد البنيوية بتأثير النقد الفرنسي، وبخاصة في المغرب العربي.

استنادا إلى ما سلف نستطيع القول إن العلاقة بين النقد والرواية، أو علاقة التابع بالمتبوع لم تكن علاقة قوية في مسيرتهما؛ فلم يكن هذا التابع في معظم المراحل قادرًا على مواكبة متبوعه في مراحل ارتقائه كلها.

محاولة تقويم

خطا النقد الروائي المعاصر خطوة نوعية مهمة في تعامله مع النص الروائي، فقد تجنب التفكير التقليدي الذي طغى على الدراسات النقدية السابقة، التي كانت تبتعد عن جوهر النص للبحث عن علاقاته التاريخية والاجتماعية والاقتصادية لإنتاج تخطيطات ونصوصًا موازية للنص الأول. اتجه النقد إلى النص لينظر فيه نظرة موضوعية من الجوانب التي أهملتها المناهج التقليدية السياقية؛ فالنص هو الوحيد الذي ينبغي التركيز عليه، وكل ما يدور حوله من حياة منتجه، وثقافة العصر، وحركة المجتمع في خدمته. واستقى النقد آلياته من محاضرات العالم فارديناند دي سوسير التي وردت في كتابه "محاضرات في الألسنية العامة"، فتقاطع مع النقد السياقي في تركيزه على اللغة فلا وجود لنص خارج اللغة. وساهمت المدرسة الشكلانية الروسية في تأسيس هذا التوجه الجديد في النقد أي النقد النسقي. فموضوع "الألسنية الحقيقي والوحيد" دراسة اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها" (29)

لا شك أن الدراسات النقدية بمختلف اتجاهاتها ومذاهبها أفادت الرواية العربية إفادة كبيرة بما حققته من تعميق معرفتنا بفن الرواية، وتنبيهنا إلى جوانب مهمة من قوانين الرواية وعناصرها، وإلى ضرورة فن الرواية في حياتنا، وعملت على ترسيخ الفن الروائي في الحياة العربية، كما دفعت الروائيين إلى القلق على إبداعهم، ووجهت كثيرين منهم إلى موضوعات وأساليب وطرائق من فن الرواية لم يكن يعرفونها من قبل.

لكن مع هذا الدور الذي نهضت به الدراسات النقدية للرواية العربية في خدمة الرواية؛ فقد لاحظنا اتكاءها على المناهج الغربية ضمن المثاقفة في إطار الهيمنة الغربية التي نتجت عن التقدم العلمي عند الغرب؛ التي دفعت الفكر العربي والنقد الروائي إلى أن يختار بين طريقين يبدوان كأنهما متناقضان، وهما مقاومة الهيمنة من ناحية، ومحاولة الاستفادة من هذه الدراسات لتطوير الذات من ناحية أخرى.

والانتقاد الذي يوجه إلى هذه الدراسات، وبخاصة في الدراسات الحديثة تلك المغالاة الكبيرة في تبني المذاهب النقدية الغربية، وسوء تطبيقها على النص الروائي العربي، واضطراب مفاهيمها لتعدد مصطلحاتها وتزاحمها في لغتنا العربية. مما جعلها مقتصرة على النخبة مرهقة لذهن القارئ العادي بالمصطلحات الغامضة والمفاهيم الصعبة، مما يتطلب منه أن يكون ملمًا ببعض منجزات العلوم اللسانية. إنها لم تستطع أن تنجح نجاحًا كبيرًا في التعامل النقدي مع الرواية؛ فقد طبق كثيرون من النقاد والباحثين العرب المنهج الغربي تطبيقًا آليًا مما سلب النص حياته، وأفقده غناه. وهذا النوع من التطبيق يضر بالرواية حتى وإن طبق على الرواية الغربية ذاتها. نذكر هنا الناقد الفرنسي غريماس عندما أتيح له أن يكون عضوًا من أعضاء مناقشة أحد طلبة الدكتوراه العرب المغرمين بالحداثة ممن طبقوا منهجه النقدي السيميوطيقي على عدة قصائد قصيرة. قال للطالب:" هذه القصائد تبدو كالزهور الجميلة تحتاج إلى سلاح صغير رقيق لتنقية الأرض من الحشائش حولها، لا إلى دبابة أكلت الزهور والحشائش والأرض جميعًا" لقد احتج غريماس على الطالب، ووصف منهجه بالدبابة لقسوة تطبيقه في نقد النص الشعري، كما يفعل بعض نقادنا.(30 )

ربما الطريق الأفضل في التعامل مع المناهج النقدية الغربية بأن يطعم المنهج النقدي الغربي بأطروحات فكرية ذاتية، أو بأفكار نقدية من التراث العربي، ليظل الناقد محافظًا على هويته وخصوصيته. لا ضير من الإفادة من تراث الآخرين بل إن هذا ما يحدث عادة أن تنتقل الأفكار من فضاء لغوي ثقافي إلى فضاء لغوي ثقافي آخر، وهي ظاهرة إيجابية حسب قول إدوارد سعيد عن انتقال النظريات" إذ عادة ما تتغذى الحياة الثقافية والفكرية على دورة الأفكار هذه، وتستمد منها أسباب الحياة والبقاء"(31)

هذا ما نلاحظه في أعمال النقاد الذين اهتموا بسوسيولوجيا الرواية العربية، مثل ىسعيد علوش، وسعيد يقطين، ويمنى العيد، وسيزا قاسم، ونبيلة إبراهيم بخلاف ما ساد عند أصحاب النقد الإيديولوجي، مثل محمود أمين العالم، وغالي شكري، وفيصل دراج، وعبد الرحمن ياغي وغيرهم.

وجدنا الناقد سعيد يقطين يلح على ضرورة أن يظل الكاتب ضمن الفضاء اللغوي العربي، وأن يلجأ إلى التراث العربي، ليستفيد منه في النقد والإبداع، دون أن يهمل الإفادة من التراث الغربي: "إن الكاتب العربي ينتج نصوصه ضمن بنية نصية ولغوية واحدة وهي البنية النصية اللغوية العربية، وهذه البنية ليست بنية نصية ولغوية فرعية داخلية (داخل المجتمع العربي) وبنيات نصية أخرى (أجنبية) وداخل هذه البنية النصية الكبرى يمكننا تأطير النص العربي المكتوب الروائي في حالتنا"(32) على ضوء هذا الفهم درس في كتابه "انفتاح النص الروائي" الروايات التي استفادت من التراث العربي، مثل: "الزيني بركات" لجمال الغيطاني، و"عودة الطائر إلى البحر" لحليم بركت، و"أنت منذ اليوم" لتيسير سبول، و"الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" لإيميل حبيبي.

ومثلما صنيع سعيد يقطين جاء الناقد سعيد علوش في كتابه "الرواية والأيديولوجية في المغرب العربي" فهو لم يأخذ بما جاءت به المناهج الغربية دون أن يخضعها لأفكاره ومرجعياته الفكرية والفلسفية، فإن كان كتابه يستند إلى البنيوية التكوينية في النقد فإنه لم يتعامل مع هذه النظرية بأنها نظرية مكتملة، بل بأنها نظرية قابلة للتمحيص والتعديل والمراجعة؛ لأنه استخدمها في خطاب ثقافي عربي له خصوصياته.(33)

استنادًا إلى ما سبق نقول إن الدراسات النقدية في الرواية العربية لم تكن قادرة على مواكبة الرواية التي تتكاثر باستمرار، ووقفت عاجزة عن طرح رؤى جديدة لتطوير الفن الروائي، وهذا يثير التساؤل عن مستقبل الرواية في ظل ضلال تابعها، النقد.

مستقبل الرواية وتطويرها

يواجهنا في الحديث عن مستقبل الرواية وتطويرها مجموعة من الرؤى النقدية لنقاد وباحثين وروائيين عرب، في خضم نقاشهم حول واقع الرواية العربية. يحسن أن نعرض لبعض هؤلاء حتى يكتمل المشهد النقدي للرواية العربية، كما هو على أرض الواقع، ولنرى الآفاق المستقبلية التي يمكن أن تخوضها الرواية العربية.

يرى الناقد سعيد يقطين أن الرواية العربية حققت تطورها على مستوى التقنيات، وتمثيل التصورات، وفرضت نفسها نوعًا سرديًا يحظى بقيمة لدى المجتمع، وبرز اهتمام الناشرين بها، وتخصيص الجوائز لها على المستوى الوطني والقومي. وبين أن تطور الرواية دون قراءتها الواعية، ونقدها الموضوعي يظل ناقصًا، ومستقبلها غامضًا حتى لو خصصت لها الجوائز، وجرى اكتشاف المواهب، أو تشجيع الروائيين، وحتى لو اهتُّم بطباعتها وترجمتها أو تحويلها إلى عمل درامي. " فالإبداع الروائي لا يتطور بدون نقد روائي، والعكس صحيح.
إن التحليل الذي يمكنه أن يسهم في ذلك يتصل اتصالًا وثيقًا بالبحث العلمي في الرواية، وليس مرتبطًا بالنقد الصحافي أو القراءات القائمة على التأويل، أو المبنية على الانطباع، أو تلك التي تسمى بـ"القراءة العاشقة"(34)

أما الناقد السوري نضال الصالح فأوضح بإن الرواية العربية تُنجز مستقبلها من خلال وعي الروائيين بالمناهج والنظريات النقدية الحديثة، واطلاعهم على منجزات الرواية العالمية، ورأى أن ازدهار الرواية يقترن باقتحام المناطق المحظورة، والتجريب على مستوى التخييل والتشكيل باستخدام مصادر التراث السردي العربي، وابتكار الحكي الذي أنقذ شهرزاد من الموت. كما تُنجز الرواية العربية مستقبلها أيضًا بمساءلتها الواقع، ومساءلة أدواتها وتقنياتها "ليس من أجل تأصيلها لكتابة تشير إلى نفسها ولا تشير إلى سواها فحسب، بل أيضًا من أجل تثبيتها في الوعي الجمعي العربي، بوصفها جزءًا من الهوية الثقافية العربية وليست صدى لإنجازات الآخر أو تابعة لـه"(35).

ويرى الصالح أن مستقبل الرواية مرهون بنقدها؛ فالنقد والإبداع فعاليتان متكاملتان، ونهوض النقد يتأتى بإعادة النظر بالدراسات العليا، وتحديد هوامش النشر في الدوريات الثقافية العربية، وتحرير النقد من التمجيد للأصوات الإبداعية، وتثبيت قيم في المشهد النقدي، وتأصيل النقد، واستثمار وسائل الاتصال الحديثة، وتفعيل الأنشطة المعنية بالإبداع الروائي. ثم على الروائي استخدام التقنيات الروائية في إحداث تحولات فنية وجمالية، لتأصيل كتابة روائية لها هويتها الخاصة. كما على الروائي تثمين الوعي، والإعلاء من شأن الحقيقة والإرادة؛ فالروائي ليس محركًا للفعل فحسب بل للحلم أيضًا.(36)

أما الناقد محمد برادة فيتحدث عن التجديد في الأعمال الأدبية ومن ضمنها التجديد الروائي ، ويرى أن ذلك لا يحتاج إلى قطيعة مع النصوص الأخرى بل يحتاج إلى تبادل التأثير وردود الفعل، ويشير إلى أن تجديد الرواية أو تجددها ينطلق من تلمس استراتيجية في الكتابة، تُظهر الروائي واعيًا بما يجري في المجتمع، وبمنجزات الرواية العالمية، في طموح إلى التحرر من الإرغامات، أما القطيعة الكاشفة لهذا التجدد فتظهر بشكل أساسي في اللغة، والشكل، ونوعية التخييل، وبقية مكونات النص التي يعتمدها الروائي؛ ليبتعد عن الأشكال السائدة "من أجل إيجاد عناصر أقدر على تمثيل صيرورة العلائق ومستجدات الحياة"(37)

وإذا كانت آراء النقاد الثلاثة: سعيد يقطين، ونضال الصالح ، ومحمد برادة انصبت على مناقشة واقع الرواية العربية، ولامست بعض الوسائل لتطويرها فإن مجموعة أخرى من النقاد والروائيين نظروا إلى مستقبل الرواية العربية بعد أن شخصوا واقعها، من هؤلاء: جمال الغيطاني، ونجاة علي، وأحمد عبداللطيف، وحسين عبد العظيم، ووجدي الكومي. فيرى جمال الغيطاني أن زمن التكنولوجيا الذي أزال الرقابة عن الأديب جعل الحراك الأدبي يقترب إلى الانفلات الروائي، وأن الرواية وإن كانت لم تقدم ثورات الربيع العربي الأخيرة بكامل ملامحها وتفاصيلها فإنها ستنهض بدور مهم في فضح التعسف القصري للأنظمة المخلة بقوانين الحق في التعبير وتقرير المصير. (38) ومثل هذا الرأي نجده عند الأديبة والناقدة المصرية نجاة علي؛ إذ رأت أن الحديث عن مستقبل الرواية العربية وخاصة مع عدم استقرار الواقع العربي صعب، ، وأن ما يحدث ينذر بوقوع ثورة كبرى ستكون أقرب إلى الفوضى، لكن مع ذلك فإن الرواية سوف تصمد وتقاوم وترصد الوقائع والأحداث مهما سقطت الدول وتفتتت الأوطان.(39)

أما الروائي والباحث المصري أحمد عبد اللطيف فيدافع عن الرواية العربية، ويتفاءل بمستقبلها، فهو ينتقد الذين يهاجمونها بأنها فن غربي، وأنها أقل جودة من الرواية الغربية، ويرى بأن الرواية العربية قطعت شوطًا كبيرًا فيما يزيد عن مئة عام في طور التطور والنضج، وأضافت إلى فن الرواية الغربية كثيرًا من العوالم الشرقية والثقافة العربية. كما أفادتها بفن السرد العربي ، المتمثل بالمقامة والحكايات. ويرى أن لدى العرب القدرة على صنع رواية تتفوق على الغرب، وأن مستقبل الرواية في العالم سيكون في العالم العربي، وأن الرواية العربية ستتبوأ مكانة رواية أميركا اللاتينية التي تبوأتها منذ النصف الثاني من القرن الماضي "تكون جزءًا من سردية عربية كبيرة، قادرة على السخرية والتجسيد، وقادرة على الفانتازيا والإلهام. لن تكون مبالغة، الرواية العربية، بحمولاتها الثقافية، بتطلعاتها، بتعبيرها عن واقعها المأساوي، ستكون رواية القرن الجديد"(40).

ومثل هذا الرأي بل وأبعد منه نجده عند الأديب حسين عبد العظيم بأن مستقبل الرواية أكثر وضوحًا من الشعر والمسرح وفنون الأدب الأخرى، فقد ظهرت أجيال من الروائيين بعد نجيب محفوظ مطلعة على الآداب الأجنبية، ويضعون أعينهم على "نوبل عربية" جديدة، وبخاصة بعد المشاركة في البوكر العربية والاستفادة من التقنيات الحديثة المستخدمة في الغرب(41).

أما الرأي المتشائم بمستقبل الرواية العربية فيتجلى في رأي الروائي وجدي الكومي من مصر، الذي طرحه في مؤتمر الرواية العربية 2018م(42)، فهو يرى أن الرواية العربية تذهب في مستقبل مظلم من ضعف التعليم، وإقبال المراهقين، الذين سيكونون كتاب المستقبل، على قراءة الروايات السهلة. ورأى أن الموت سيلحق الرواية العربية بعد بضعة عقود؛ لتراجع الرواية الواقعية بسبب عدم جرأة الروائيين، وذهابهم إلى المنطقة الآمنة التي تكتب وفق شروط المجتمع ورغباته، وسيطرة الناشرين على ما ينشر، ورفضهم الأعمال التي تمس المجتمع، أو السلطة، أو رجال الدين؛ لهذا صارت الرواية الفانتازية التي تختلق الزمان والمكان الرواية الأمثل، ومثلها الروايات التي تعود إلى الزمن مثل رواية "موت صغير" لمحمد حسن علوان، التي نالت جائزة البوكر العربية عن موضوعها في الإسلام الصوفي، والحب الإلهي، وقصص العشق، وكانت نموذجًا اقتدت به مجموعة أخرى من الروايات.

كانت هذه آراء مجموعة من النقاد والروائيين العرب في مستقبل الرواية في ظلال النقد ومجريات الواقع، وظهر بعضهم حذرًا وبعضهم متفائلًا وآخرون متشائمين. إن جملة هذه الآراء تتيح لنا رؤية أخرى ربما مغايرة أو قريبة في معاينة هذه القضية.

لا شك في أن مستقبل الرواية وتطويرها يعتمد على عدة عوامل بعضها يتصل بالروائي نفسه، وبعضها بالناقد، وبعضها بالوسط الثقافي والسياسي والاجتماعي والثقافي الذي يحيط بالروائي، وبالمنجزات في الأجناس الأدبية كلها سواء على المستوى العربي أم العالمي. فالروائي عليه أن يطلع على منجزات النقد الروائي خاصة ومنجزات النقد عامة، وأن يتزود بمعارف كثيرة، وعليه أن يلم بعلم النفس والاقتصاد والاجتماع والسياسة وغيرها. وعلى الناقد أن يحرص على علاقة متميزة بينه وبين القراء وليس بين النقاد فقط، وألا يقتصر على تشريح الأعمال الروائية بل عليه أن يجترح الأساليب والأنواع الجديدة التي يمكن أن يتحول إليها الروائيون، ثم عليه أن يتعامل مع الرواية بإصدار القيمة عليها من خلال تحليلها تحليلًا يدركه القارئ وليس الناقد المتخصص فقط، وعلى المؤسسات الثقافية أن تترك الحرية للناقد في تقييم الأعمال الروائية، دون أن تتحكم في موقفه النقدي.

لعل النظر في هذه العوامل التي تحيط بالرواية يجعلنا نرى أن تقدم الرواية العربية مرهون بزيادة الثقافة والوعي، وانتشار التعليم في المجتمعات العربية، وتعزيز قيم الحرية والديمقراطية في حياتنا، والاعتراف بأهمية النقد في تطوير الرواية وغيرها من الأجناس الإبداعية. وتحت تأثير الدراسات النقدية التي لا تغادر التأثر بالمناهج الغربية، وتحت تأثير المتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم العربي والعالم كله، وبخاصة تلك المتصلة بالتكنولوجيا الرقمية التي ألقت بثقلها على كل جوانب حياتنا وعلى الرواية خاصة، لأنها الفن الحساس بما في المجتمع من تناقضات وصراعات ـــ نرى أن الرواية سوف تستجيب لهذا الواقع السريع التغير، لتعبر في المستقبل عما فيه من مصائب وكوارث، وتزيد من وعي الناس بمشاكلهم وحياتهم، وسوف تمضي دون اهتمام كبير بتابعها النقد في تنويع عالمها، وتطوير أشكالها، وسوف يتقلص حجمها لتغدو الرواية القصيرة سيدة الجنس الروائي، ثم من المتوقع أن تتأثر كثيرًا في أساليبها لتقترب من الشعر، تعويضًا عما أحدثه ضعف حضوره في الساحة الأدبية، ومن المتوقع أن يكثر في الرواية الجديدة الحوار بدلًا من الوصف والسرد؛ لأنه العنصر المتلائم مع حياة الناس في عصر العولمة، وستزداد إفادة الرواية من التكنولوجيا من ناحية الموضوع والشكل والتقنيات.

على سبيل الخاتمة

تبين لنا من دراسة النشوء والارتقاء للرواية العربية والنقد الروائي، أن الرواية أسرع تقدمًا من النقد، وأكثر جرأة في مواجهة الواقع، وأقدر على التخلص من تأثيرات الرواية الغربية والدراسات النقدية التي رافقتها. أما النقد الروائي فبدا في حالة من القصور الذاتي، ومع أن جانبًا من هذه الحالة يتعلق بالظروف الموضوعية للبيئة العربية إلا أن بمقدور الناقد أن يقلل على الأقل من هذا القصور من خلال التخلص من التأثر الشديد بالنقد الغربي، بأن يأخذ من هذا النقد ما يساعده على فهم الرواية وتطويرها، ولا يطمس تراثه أو يلغي هويته، وأن يواجه الرواية بقراءة موضوعية دون تأثير لأي عنصر خارجي سواء بما يتصل بالنص، أو صاحبه أو بما يتصل بالمجتمع أو السلطة.

إلى أن يصل النقد إلى هذه الحالة من الاستقلالية، وعمق الممارسة النقدية وديمقراطيتها فإن المستقبل هو للرواية وتطورها، ستتغير أشكالها لتتلاءم مع مستجدات العصر، وتتعمق جذورها في المجتمع، وتنجح في التعبير عن آلام الناس وأحلامهم، وطموحاتهم. وفي كل الأحوال ستظل الرواية تحتاج إلى النقد كي يوصلها إلى القارئ، ويعمق من رؤيتها إلى الحياة، وسيظل النقد ملتصقًا بالرواية لأنها مسوغ وجوده، ومانحته الحياة.

لقد أدركت مؤسسة كتارا الدور المهم الذي يقوم به النقد في تطوير الرواية؛ فخصصت جائزة للنقد الروائي إلى جانب جائزة الرواية. وهذه خطوة مهمة من الخطوات التي يحسن أن تقوم بمثلها مؤسساتنا الثقافية الرسمية والخاصة. ويظل الأمل معقودًا على تطور الرواية والنقد معًا في المستقبل.


الإحالات

  • محمود تيمور، نشوء القصة وتطورها، القاهرة: المطبعة السلفية، د. ت، ص18.
  • جورجي زيدان، تاريخ آداب اللغة العربية، ج2، القاهرة: دار الهلال، د. ت، ص337.
  • فاروق خورشيد، في الرواية العربية: عصر التجميع ط2، القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، 2002 ، ص9.
  • نفسه، ص11 – 34.
  • علي شلش، نشأة النقد الروائي في الأدب العربي، القاهرة: مكتبة غريب،1992، ص36
  • معجب بن سعيد الزهراني،آثار نظرية الرواية الغربية في النقد الروائي العربي، مجلة جامعة الملك سعود، م9، الآداب (1) (1997)، ص72.
  • نفسه، ص40.
  • نفسه، ص35.
  • نفسه، ص38.
  • نفسه، ص73.
  • انظر: عبد الرحمن ياغي، الجهود الروائية من سليم البستاني إلى نجيب محفوظ، بيروت: دار الفارابي،1999، ص55-59.
  • بطرس حلاق، نشأة الرواية بين النقد والإيديولوجيا، مجلة الآداب،(بيروت) 244-2 (1980)ص8-14.
  • محمد بكري، البواكير الأولى للرواية العربية لبنانية لا مصرية، مجلة الرياض الالكترونية، 25 اكتوبر 2012 ع16194.
  • يمنى العيد، المتخيل وبنيته الفنية، بيروت: دار الفارابي 2011، ص142 .
  • الرواية العربية أقدم مما كنا نتصور، موقع العرب، السبت 11\2\2017.
  • رولان بارت، النقد والحقيقة، ترجمة إبراهيم الخطيب، الرباط: الشركة العربية للناشرين المتحدين، 1985، ص69.
  • معجب بن سعيد الزهراني، مرجع سابق، ص68-69.
  • محمد برادة، أسئلة الرواية أسئلة النقد، الدار البيضاء، شركة الرابطة،1996، ص19.
  • انظر: محمد جاسم الموسوي، الرواية العربية: النشأة والتحول، بغداد:1986،ص51.
  • Allen, Roger,( 1998) The Arabic literary Heritage, Cambridge University press p.404,
  • المرجع نفسه، 403.
  • غالي شكري، الرواية العربية في رحلة العذاب، القاهرة: عالم الكتب،1971، ص13-17.
  • مجموعة من الكتاب،الإبداع الروائي اليوم، باريس: معهد العالم العربي، 1994، ص234.
  • عبد السلام المسدي، قضية البنيوية: دراسة ونماذجج، تونس: دار الجنوب العربية،1995، ص30.
  • يوسف وغليسي، مناهج النقد الأدبي، ط2، الجزائر: جسور للنشر والتوزيع ، 2009م، ص101 – 107.
  • أحمد البيوري، دينامية النص الروائي، الرباط: اتحاد كتاب المغرب، 1993، ص13.
  • نفسه، ص13.
  • مجموعة من الكتاب، مرجع سابق، ص236
  • محمود السعران، علم اللغة مقدمة للقارئ العربي، بيروت: دار النهضة العربية، ص49
  • غالي شكري، برج بابل النقد والحداثة الشريدة، ط2، لندن: دار الريس، 1994، ص127
  • ادوارد سعيد، انتقال النظريات، ترجمة أسعد رزق، مجلة الكرمل(نيقوسيا) مؤسسة بيسان، ع9 (1983)، ص12.
  • سعيد يقطين، انفتاح النص الروائي، الرباط: المركز الثقافي العربي، 1993، ص134.
  • سعيد علوش، الرواية والأيديولوجية في المغرب العربي، بيروت: دار الكلمة، 1981، ص15.
  • سعيد يقطين، مستقبل الرواية، القدس العربي 12 مايو 2015.
  • نضال الصالح، مستقبل الرواية، موقع دنيا الوطن 9\10\2010.
  • نفسه.
  • محمد برادة، الرواية العربية ورهان التجديد، دبي: مجلة دبي الثقافية، اصدار49، 2011، ص79
  • نوف الموسى، جمال الغيطاني، ناقش انفلات السرد في ظل طفرة التكنولوجيا والفكر المتشدد، موقع البيان، التاريخ 4 نوفمبر 2012.
  • أدباء ونقاد يستشرفون بالقاهرة مستقبل الرواية العربية، الجزيرة، 19\3\2015
  • ليندا نصار، روائيون ونقاد عرب: الرواية بين إشكالية التجريب ومغامراته(2) ، 2019 ،ضفة ثالثة منبر ثقافي عربي، 9 نوفمبر2019.
  • أدباء ونقاد يستشرفون..، مرجع سابق.
  • وجدي الكومي، مستقبل متخيل للرواية.. الكتابة الآمنة تنتصر، موقع المدن 30\12\2018 .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى