رسول عدنان - من البنيويّة الى التفكيك

تعتبر البنيوية من أهم النظريات النقدية التي ظهرت في فترة الحداثة، و تعود أهميتها الى أنها أنصرفت الى دراسة النصوص عن طريق الأجزاء والمفردات التي تشكل اساس العمل الأدبي وتُحلل العلاقة فيما بينها، بعيدًا عن أية تأثيرات خارجية، سواءا فيما يتعلق بالقارئ او بالمؤلف نفسه، أذ تقوم البنيوية على تحليل نسيج النص او بُناهُ الداخليّة المكونة له، ثم تعمد الى تشريح كل بنية من هذه البنى المكوّن للنص لغرض أعادة تركيبها وفق رؤى و تصورات الناقد اي وفق مفهوم الناقد لحيثيات النص و تصوراته و زاوية النظر الى أجزائه، حيث يكون الناقد هو الحكم و قوله الفصل، غير معني بقصدية المؤلف، فقد يؤول النص تأويلا مختلفا عن قصدية صاحبه، في هذه النظرية يتحول النص من نص المؤلف الى نص الناقد،
حيث سعى البنيويون الى وضع النصوص شعرا و نثرا في خدمة النقد و هذا يقود الى ألغاء النص الأصلي و أحلال نصّ آخر بدلا عنه قد يكون نصّا مركبا او نصا مبتكرا يتخذ من النسخة الأصلية للنص منطلقا او محفزا، لكن هذا سيقودنا الى أتهام النقد بالقتل او بالسرقة او سرقة النص او قتله لصالح نص يقوم البنيويون بتركيبه من خلال تحليلاتهم و تشريحهم للنص الذي كان أصلياً لكنه تحوّل الى نص آخر تماما جيّره الناقد البنيوي بأسمهِ بعد أن أقصى المؤلف و مثّل بنصّه، و هكذا تحوّل الناقد الى عبء على القارئ و تحوّل النقد الى عبء على النص، حيث تقترب البنيوية كثيرا من الموضوعية من حيث تقييم النص الأدبي على أساس شكله ومضمونه، دون النظر الى نوايا المؤلف او تجاربه الشخصية او حتى قصديته، و يعمدون الى تحليل النص ككيان منفصل بعيدا عن اية عوامل خارجية أخرى، و تقييمه بعيدا عن مزاياه و معاييره الخاصة، حيث يكون النص كيانا مغلقا حصرا على الناقد،
في البنيوية لن يكون هنالك أي دور للقارئ، و لا يوجد تأويل آخر للنص غير تأويل الناقد البنيوي، يعتبر عالم اللسانيات السويسري سوسير عرّاب البنيوية و هو صاحب الرأي الذي يعتقد ان جمالية النصوص تكمن في هيأتها و شكلها، و لا يجب أعطاء المؤلف اي دور في هذا الآمر، و تبعه في هذا جماعة براغ و حلقة موسكو او ما يسمون بالشكلانيين الروس، و اخيرا تبنت جماعة تل كل هذه النظرية و التي أصبحت جزء من وجود هذه الجماعة و هوية مائزة لهم، و نظرا لأعتمادها على اللسانيات تم نعتها بالثورة المنهجية فما هي الآ واحدة من المناهج التي تتخذ من اللغة و التحليل الموضوعي قاعدة لها، للتحول الى منتج للمفاهيم التي تبنى على أساسها الأفكار، و بالتالي كان تركيزها على أدبية الأدب بعيدا عن معناه او وظيفته بالأضافة الى التركيز على خصائص الأدب، و من أهم وظائف الناقد البنيوي دراسة علاقات الوحدات و البنى الصغيرة بعضها ببعض داخل النصوص حتى يتسنى له تحديد النظام أو البناء الكلي الذي يجعل النصوص أدبا، فحسب هذه النظرية هنالك نظامان يعملان بشكل متماسك مترابط و هما نظام جزئي يقوم على دراسة علاقات البنى الصغيرة ببعضها، و نظام آخر كلي يقوم بربط هذه البنى بالنظام الكلي العام للنص من خلال وحداته، و حسب تعريف لالاند" هي الكل المكون من ظواهر متماسكة يتوقف كل منها على ما عداه و لا يمكن ان يكون ما هو الا بعلاقته بما عداه" و هذا يقود الى حقيقة مفادها أنّه لا يمكن ان تعمل هذه الوحدات او البنى منفردة بل يكون عملها متماسكا مكملا لبعضه، و لن تكون هنالك اية قيمة لهذه البنى او الوحدات منفصلة، و أخيرا تعمل البنيوية بثلاث خصائص، أولاً الكلية او العلاقات و الأحالات بين العناصر الداخلية، ثانياً التحولات او حركات البنى المستمرة و التي تتحول الى تراكيب، ثالثاً التحكم الذاتي اي قدرة هذه البنى على العمل سوية و ان يكون هذا العمل متماسكا،
التفكيك
يعتبر أكثر أستراتجية نقدية في عصر ما بعد الحداثة، بما أحدثته من نقلة كبيرة في طريقة تحليل النصوص، و جاءت كردة فعل عنيفة على ما أحدثته البنيوية من أغلاق النص على الخارج و حصره بيد الناقد فقط و الأقصاء التام للمؤلف و القارئ معا، لذلك جاءت التفكيكية لتفتح النص على رؤى مختلفة و تترك النص يتجدد في كل قراءة، و أعطت سلطة مطلقة للقارئ، يتعامل التفكيك على فرضية ان النصوص لها ثغرات و حتى يتم عمل التفكيك عملا مائزا دقيقا فيجب الدخول الى هذه النصوص عبر هذه الثغرات، و هذه الثغرات هي ليست عيوبا في النص، بل وسيلة للدخول الى عوالمه، و لعل أجرأ ما يقوم به التفكيك هو الدعوة الى هدم البناء القديم و أقامة بناء جديد على أنقاضه بأستخدام ذات الألفاظ و الفكرة، أنّه أشبه بمن يقوم بهدم بيت قديم و يستخدم ذات المواد لأنشاء و بناء بيت جديد بدلا عنه على ذات المساحة من الأرض، و في هذا يقول جاك دريدا و هو رائد التفكيك و أول من أسسس هذه المدرسة بعد ان كان هايدجر أول من أستخدم مصطلح التفكيك و خاصة في الفلسفة، إذا كان التفكيك مدمرا حقّا، فليدمر ما شاء من الأبنية القديمة المشوهة، من أجلِ ان نعيدَ البناء من جديد، لكنّ دريدا أعطى لهذا المصطلح آفاقا أوسع و نقله الى مفهوم نظري تطبيقي ثم تركه مفتوحا مشرعَ الأبواب حتى يبقى متجددا عبر مفهوم الستراتيجية، التفكيك الذي سلّم به دريدا يعني فكّ الارتباط بين لغوية المفردات وكل ما يؤّولُ خارجَها، فالملاحظ على دريدا أنّه كلمّا توصل الى معنى يسارع الى نقضه و لا يثبت على معنى بعينه، ولا يقف او يصل الى مركز او مسار إلا ليبعده عن مكانه وينأى بعيدا به عن خطه و يحوّله من دائرة الى أخرى، و كأنّه في أنهماك دائم عن النأي عن معنى ما ، وترك الأشياء بعيدة عن ذواتها متشظية بلا هوية حتى تتحوّل تدريجيا الى تراكمات من التحولات و لا حدود نهائية، و كأنّه قد ترجم عمليا مفهومه للتفكيك بهدم الأبنية القديمة و أقامة أبنية جديدة فوقها عبر مفهومه المثير للجدل و الغموض ب منهجية «قوة تخريبية» و الذي يعمل على نسف البناء القديم و أنشاء بناء جديد باستخدام ذات المواد القديمة للوصول الى معاني جديدة تتوالد غير قابلة للتوقف عند معنى بعينه؛ و هذا تماما ما قصده عندما سلّم برأيه المعروف، لا يوجد تفكيك نهائياً، لأنّها ببساطة أستراتيجية تتوالد و تتجدد غير محددة الأفق، لكل قراءة قراءاتٌ حتى تضمن أستمراريتها، وكأنها تستمد طاقتها و تجددها من توالي القراءات و تعددها للنص، بعد وفاة جاك دريدا واصل مجموعة من النقاد رسالته في التفكيك و خاصة في النقد الأدبي و منهم ج.هيليس ميلر وبول دي مان وجيفري هارتمن وهارولد بلوم، هؤلاء يعتبرون بحقّ رواد التفكيك على الصعيدين النظري والتطبيقي؛
الفرق بين البنيوية و التفكيك
بما ان التفكيك هو نقيض البنيوية، فلا بد ان يكون هناك أختلاف في الرؤى و التطبيق و النتائج، في البنيوية تكون فكرة النص التي جاء بها المؤلف هي الأصل و لايجوز تجاوزها، علما أن غالبية البنيوين في الحقيقة قد قاموا بتجاوزها، بل خلقوا نصا داخل نص، نص المؤلف و نص الناقد و لا سيما في الشعر، أمّا في التفكيك فيكون المؤلف خارج النص و ليس له اي دور، فهو قد أنجز النص و أنتهى عمله، فحسب رؤيا التفكيك سوف يكون القارئ من يكوّن مفهومه الخاص للنص، حيث تتحول المعرفة الى أحساس معنوي يدركُه و يحدده القارئ، حيث تكون ثقافته و ذوقه و تجربته هي الوسيلة في التحليل و النظر الى النص، لكن الأمر مختلفا تماما بالنسبة للبنيوين الذين يرون انّ المفهومَ المعرفي أمرٌ مادي يمكن تحليله وضبطه بقواعد يستطيع العقل تفسيرها و تنظيمها فضلا عن تقبلها و العمل على كشف حقائقها دون تدخل طرف آخر مثل القارئ او حتى المؤلف؛

*رسول عدنان
ناقد و شاعر عراقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى