ذات صباح قائظ في القرن الماضي كنت اخلد للنوم تحت اشجار النيم حين ايقظني شخص ما، نظرت فوجدت رجلا نحيلا يشبه منظره فزّاعة الطيور، انتبهت الي انه كان جارنا عبد الواحد رغم انه بدا لي لحظة خروجي من الحلم مثل قادم من العالم الاخر بهيكله العظمي النافر وسمات الحزن في نظراته.
اصدر لي امرا: (امشي جيب لي شريط نسمعو.) !
انتبهت الي استخدامه للفظة الجمع وعرفت لاحقا انه كان يخجل من ان يقول انه يريد الاستماع للغناء هو وعروسه فلم تكن قد مضت سوي بضع أيام علي زواجه.!
أحضرت له شريطا للمطرب مجذوب اونسة، بدا لي اختيارا مناسبا لشخص يريد ان يفرح للمرة الاولي في حياته..
حين سلمته الشريط، نظر اليه بتشكك وقال : فيه شنو دة.
اوضحت له ان بالشريط اغنيات للمطرب مجذوب اونسة.
فاستفسر قائلا: وبغني بقول شنو؟؟
احترت في سؤاله وقلت مستعيرا عبارة سمعتها من شخص ما وهو يتحدث عن فتاة كانت تبحث عن زوج يريحها من عناء رعي البهائم بطريقة مبتكرة انذاك، كانت ترسل رسائل عشق الي عدد من الشباب مستخدمة نفس العبارات ونفس الاشواق حتي انها لم تكن تغير سوي الاسم في البداية، ويبدو انها كانت تنسخ الرسائل من كتاب للرسائل، كان ذلك الشخص قد رد علي سؤال حول فحوي ما يدور في رسائل تلك الفتاة بقوله : والله عن الحب وكدة . وبمناسبة الرسائل التي تنسخ للعشاق بالجملة من نفس الكتاب تذكرت قصة امام جامع في احدي القري القريبة من دنقلا كان ينسخ خطب الجمعة من كتاب مصري للخطب تساءل في خطبته قائلا : ما هذا الفساد الذي يحدث في شارع عماد الدين؟
قلت له والله بيتكلم عن الحب وكدة وحين وجدت انه وقف مترددا دون ان يبدو عليه انه فهم ما قلته شرحت له بأنه يقول في اغنياته مخاطبا حبيبا غائب : ويقول له انا احبك ويطلب منه العودة..
بدا عليه الضيق وقال: لسة في ناس شغالين بالحجج الميتة دي، القي بالشريط ارضا وقال: ما عندك طنبور..
حاولت ان اشرح له ان كل كلمات الاغاني: موسيقي ، دلوكة، طنبور، جن احمر، تدور كلها حول نفس المعني، بل ان بعض اغنيات الطنبور بها بكاء دون حبيب، مجرد ان فارق احدهم دياره الي بلد اخر يبعد بضعة كيلومترات تصبح مناسبة للبكاء ثم موضوعا لاغنية لاحقا..
فكر قليلا وقال : ما في غناء بتاع رجال؟؟ والحقيقة انني لم افهم ما يعنيه تماما بغناء بتاع رجال تذكرت قصة صديقنا المزارع الذي كان يمارس هواية غريبة : يشكو طليقاته في المحكمة الشرعية لمجرد التسلية او كما كان يقول : انا عارف نفسي بخسر القضية لكن داير اتلتلهم في المحاكم! وكان هناك قاض شرعي شهير يحكم عليه كل مرة بخسارة الدعوي ويلزمه بالمصروفات وذات مرة جاء غاضبا بعد ان خسر احدي قضاياه واعلن لي:
شيخ النهار دة – اسم القاضي- ما يشوف ليه محكمة بتاعة رجال، ايه اللي طلق دة وعرّس دة!
فكّرت وانا اتجه الي البيت : ما دامت هناك محاكم بتاعة رجال لابد انه يوجد ايضا غناء بتاع رجال!.
احضرت له شريطا اخر به اغنيات للفنان محمد الامين، اخذه ومضي..
في الطريق الي الجامع لاداء صلاة الجمعة وجدت الزين الكذّاب عائدا من الصلاة سألته عن موضوع الخطبة فقال : والله كانت عن الدين وكدة!
لدي عودتي عاد عبد الواحد مرة اخري فهمت منه ان العروس لم تفهم اغنيات محمد الامين ، وانهما لبثا زمنا طويلا في انتظار ان تنتهي اغنية زاد الشجون التي بدت لهما مثل قدر وطني مشئوم دون نهاية..
انتهي الي القول: النضم سمح بلحيل علّي ما فهمناه، دايرين لينا حاجة خفيفة تخلص بسرعة وواحد قبّل واحد بحّر!
كان الزمان موسم الدميرة وحين يرتفع مستوي الماء، يرتفع الجنون عند الناس كما يقول كبار السن، ويتوافق ذلك مع ظهور عبد الرحيم ود السكة الذي لم يكن هناك من يعرف له اصلا وكان يختفي في الشتاء بمجرد انحسار الدميرة وانحسار موسم جنونه كما يقول اهل القرية ليظهر مرة اخري مع اواخر الصيف، حتي ان شيخ النور كان يصيح باولاده : عبد الرحيم ظهر اجروا زبلوا السقوف، فيسارع الاولاد لتجهيز زبل البهائم لوضعه علي السقوف تحسبا لاحتمال سقوط المطر لدي حلول الدميرة...
ود السكة كان يرتدي بمجرد انتهاء بياته الشتوي وعودة اخر طائر مهاجر الي الشمال، كان يرتدي بذلة يبدو داخلها مثل رجل أمن، ذات مرة قرر قضاء الليل معنا، تناولنا العشاء من كسرة القمح الرهيفة المعروفة بالسناسن باللبن وشربنا دورا من الشاي ثم اشرت له علي العنقريب الذي سيقضي فيه الليل.. وذهبت لاخلد للنوم في فناء اخر لعلمي بأنه يستيقظ كثيرا اثناء الليل.
كان عبد الواحد لا زال يمد يده يطلب حسنة موسيقية، لفت نظري قوله انه يريد حاجة تخلص بسرعة، فتذكرت مقولة احد المطربين ان حمد الريح يسك الاغنية كأنه شخص يطارد فرخة لذبحها ، احضرت له شريطا لحمد الريح وشرحت له ان اغنيات الشريط ربما توافقه.
كنت مشغولا باحصاء النجوم في لوحة السماء، التي بدت مشبعة بغبار كوني ابيض، حين استغرقت في النوم كانت اللوحة لا تزال معلقة في ذاكرتي ثم انتبهت بعد قليل ان بعض النجوم كانت تتحرك في الذاكرة، قبل ان اعرف انني كنت مستيقظا، وجدت شخصا ضخما يسد منافذ النجوم واقفا فوقي، كان ود السكة، قلت له : مالك الجن قام عليك؟
نفي ذلك وقال انه يشعر بآلام في بطنه ويريد ان يشرب نعناعا دافئا.
عرفت انه كان جائعا ومددت له بقرص مسكن للالم وطلبت منه ان يعود لفراشه. لكنني سمعته يطنطن غاضبا وهو يرتدي ملابسه ويخرج. كان الوقت لا يزال في اواخر الليل، وعرفت انه سيذهب لايقاظ شخص ما لكنني استغرقت في النوم..
عاد عبد الواحد بعد قليل والقي بالشريط ارضا قائلا:
انعل ابو الحب بالحالة دي؟
سألته عن المشكلة فقال: زولك دة قوّم نفسنا. شوف لي حاجة تانية..
قلت له : انت لي متين حتقعد تغير في الشرايط، الدميرة جات..
فقال لي : انا تاني ما راجع للزراعة..
قال : ح أمشي العمرة في الشتاء..
في هذه المرة لم ارهق نفسي بالبحث عن شئ مناسب احضرت له شريطا اخر دون ان انظر الي محتواه..
قال جارنا ود النور: زولك امبارج صحاني نص الليل وقال لي صحي الجماعة يعملوا لي دواء اشربه ووديني للبصير يكوي لي بطني .. وكان هناك في القرية رجل مسن اسمه البصير اشتهر باستخدام الكي لعلاج بعض الامراض مثل امراض المصران العصبي. قال لي ايقظت النسوان فصنعوا له نعناعا وعرديبا كما طلب حلبة باللبن وحين تبقي جزء قليل في كوب الحلبة باللبن طلب قطعة خبز : لنحسن به الحلبة كما قال. ولبثت مستيقظا معه طوال الليل يحكي قصصه ويظهر انه كان يريد شيئا يأكله وشخصا يستمع له.، كان يحكي قصصا طويلة وحين استغرق في النوم كان يوقظني ويعيد حكاية ما فاتني في قصته.
في النهاية اشرقت الشمس فقلت له هيا بنا للبصير لكي يكوي بطنك. فقال لي لا لا الحمدلله انا بقيت كويس!
قلت لعبد الواحد : انت شكلك كدة يا زول ماك مسافر عمرة ولا غير عمرة.!
كانت الدميرة قد انصرمت وحل الشتاء واختفي ود السكة في بياته الشتوي ووصلت اسراب الطيور المهاجرة من الشمال، ولازال عبد الواحد مستمرا في شهر عسله الابدي ، يغير في الاشواق دون ان يعثر علي الفنّان المناسب..
الزول دة لو شفتو كلمو قول ليه يشوف ليه شغلة غير الغنا دة!
في الشتاء جاء والده وتشاجر معه: قوم يا ولد حصّل الموسم، اصلك ما نافع في الزراعة وكمان داير تبدأ الموسم علي كيفك؟؟
يا ابوي انا ماشي العمرة!
عمرة تمشيها بسجمك، القريشات الساعدوك بيها اهلك المغتربين للعرس اشتريت بيها كلها حجارة بطارية وقعدت. اتحرك يا ولد قوم معاي هسع انا ماشي الحواشة..
يا ابوي خلاص بجي بكرة.
مافي بكرة الليلة.
يا ابوي خلاص انت روّح انا بحصلك!
رجلي فوق رجلك!
ممكن امشي الجنينة دقائق اغير الشريط.
يا ولد امرق ما تضيق اخلاقي..
وخرج عبد الواحد من البيت، في قلبه غصة كلما رأي في الطريق امرأة كان الحزن يجتاح قلبه.. سيمضي في الطريق الي الحواشات مثل هيكل عظمي.
ذات مرة كنا نسمر في المسيد بعد انتهاء اجراءات صلاة العشاء التي يتم تاخيرها قليلا في العادة لحين انتهاء نشرة موتي الساعة الثامنة مساء والتي كان شيخ النور يعلق عليها قائلا:
الحي الما سمع اسمو الساعة تمانية!
وحين لا يرد اسم شخص يعرفونه للاحتفال بموته ببرنامج يقضي علي رتابة الحياة في الصيف، يصيح شيخ الطيب بعد نهاية النشرة بغضب : يا ولد اقفل الرادي دة ما فيهو حاجة! ومع اسم اخر ميت من الغرباء تقام الصلاة علي عجل ويتبعها بسرعة طعام العشاء ، خبز السناسن باللبن والطبق السرمدي : القراصة بالويكة.
ثم يخلد كبار السن الي النوم في بيوتهم ويبقي بعض الشباب وبعض العجائز المتصابين الذين يبقون علي أمل ظهور أحد أكياس القمشة التي تدفن نهارا في التراب وتعود اليها الحياة ليلا.
قال أحد الصبية انه شاهد عبد الواحد قبل ايام وهو يشارك في حصاد محصول القمح وهو جالس أرضا، ضحك عصام وهو يبصق السعوط من فمه في شريط طويل مصحوب بخط موسيقي وقال : عبد الواحد فضل ليه سنة.
ضحك شيخ النور وقال له : انت بقيت زي منوفل داير تقول لكل زول متين بيموت؟
ستمضي حياته علي نفس الوتيرة أحلام بالسفر تبدأ مع هبوب أنسام الصيف وتنتهي مع هبوب اول انسام ريح الشمال، يبصق السعوط ويغير الشرايط ويعلن : انعل ابوها دي بلد! يحلم برحلة سيعود منها غانما وكان يأسف أحيانا علي تأخرها ، يقول :
(لو سافرت الوكت داك هسع كان يكون عندي كم لوري في الخط!)
يصر علي الزوغان احيانا من الحواشة ليغير الشرائط ويغير اشواقه.. حين تنبأ عصام بموته كان ذلك اواخر الثمانينات من القرن الماضي.. كان عليه ان يكافح عشرة سنوات اخري ليمضي بعدها في الرحلة الاخيرة.. الرحلة التي ستفضي به الي نشرة الساعة الثامنة مساء.
اصدر لي امرا: (امشي جيب لي شريط نسمعو.) !
انتبهت الي استخدامه للفظة الجمع وعرفت لاحقا انه كان يخجل من ان يقول انه يريد الاستماع للغناء هو وعروسه فلم تكن قد مضت سوي بضع أيام علي زواجه.!
أحضرت له شريطا للمطرب مجذوب اونسة، بدا لي اختيارا مناسبا لشخص يريد ان يفرح للمرة الاولي في حياته..
حين سلمته الشريط، نظر اليه بتشكك وقال : فيه شنو دة.
اوضحت له ان بالشريط اغنيات للمطرب مجذوب اونسة.
فاستفسر قائلا: وبغني بقول شنو؟؟
احترت في سؤاله وقلت مستعيرا عبارة سمعتها من شخص ما وهو يتحدث عن فتاة كانت تبحث عن زوج يريحها من عناء رعي البهائم بطريقة مبتكرة انذاك، كانت ترسل رسائل عشق الي عدد من الشباب مستخدمة نفس العبارات ونفس الاشواق حتي انها لم تكن تغير سوي الاسم في البداية، ويبدو انها كانت تنسخ الرسائل من كتاب للرسائل، كان ذلك الشخص قد رد علي سؤال حول فحوي ما يدور في رسائل تلك الفتاة بقوله : والله عن الحب وكدة . وبمناسبة الرسائل التي تنسخ للعشاق بالجملة من نفس الكتاب تذكرت قصة امام جامع في احدي القري القريبة من دنقلا كان ينسخ خطب الجمعة من كتاب مصري للخطب تساءل في خطبته قائلا : ما هذا الفساد الذي يحدث في شارع عماد الدين؟
قلت له والله بيتكلم عن الحب وكدة وحين وجدت انه وقف مترددا دون ان يبدو عليه انه فهم ما قلته شرحت له بأنه يقول في اغنياته مخاطبا حبيبا غائب : ويقول له انا احبك ويطلب منه العودة..
بدا عليه الضيق وقال: لسة في ناس شغالين بالحجج الميتة دي، القي بالشريط ارضا وقال: ما عندك طنبور..
حاولت ان اشرح له ان كل كلمات الاغاني: موسيقي ، دلوكة، طنبور، جن احمر، تدور كلها حول نفس المعني، بل ان بعض اغنيات الطنبور بها بكاء دون حبيب، مجرد ان فارق احدهم دياره الي بلد اخر يبعد بضعة كيلومترات تصبح مناسبة للبكاء ثم موضوعا لاغنية لاحقا..
فكر قليلا وقال : ما في غناء بتاع رجال؟؟ والحقيقة انني لم افهم ما يعنيه تماما بغناء بتاع رجال تذكرت قصة صديقنا المزارع الذي كان يمارس هواية غريبة : يشكو طليقاته في المحكمة الشرعية لمجرد التسلية او كما كان يقول : انا عارف نفسي بخسر القضية لكن داير اتلتلهم في المحاكم! وكان هناك قاض شرعي شهير يحكم عليه كل مرة بخسارة الدعوي ويلزمه بالمصروفات وذات مرة جاء غاضبا بعد ان خسر احدي قضاياه واعلن لي:
شيخ النهار دة – اسم القاضي- ما يشوف ليه محكمة بتاعة رجال، ايه اللي طلق دة وعرّس دة!
فكّرت وانا اتجه الي البيت : ما دامت هناك محاكم بتاعة رجال لابد انه يوجد ايضا غناء بتاع رجال!.
احضرت له شريطا اخر به اغنيات للفنان محمد الامين، اخذه ومضي..
في الطريق الي الجامع لاداء صلاة الجمعة وجدت الزين الكذّاب عائدا من الصلاة سألته عن موضوع الخطبة فقال : والله كانت عن الدين وكدة!
لدي عودتي عاد عبد الواحد مرة اخري فهمت منه ان العروس لم تفهم اغنيات محمد الامين ، وانهما لبثا زمنا طويلا في انتظار ان تنتهي اغنية زاد الشجون التي بدت لهما مثل قدر وطني مشئوم دون نهاية..
انتهي الي القول: النضم سمح بلحيل علّي ما فهمناه، دايرين لينا حاجة خفيفة تخلص بسرعة وواحد قبّل واحد بحّر!
كان الزمان موسم الدميرة وحين يرتفع مستوي الماء، يرتفع الجنون عند الناس كما يقول كبار السن، ويتوافق ذلك مع ظهور عبد الرحيم ود السكة الذي لم يكن هناك من يعرف له اصلا وكان يختفي في الشتاء بمجرد انحسار الدميرة وانحسار موسم جنونه كما يقول اهل القرية ليظهر مرة اخري مع اواخر الصيف، حتي ان شيخ النور كان يصيح باولاده : عبد الرحيم ظهر اجروا زبلوا السقوف، فيسارع الاولاد لتجهيز زبل البهائم لوضعه علي السقوف تحسبا لاحتمال سقوط المطر لدي حلول الدميرة...
ود السكة كان يرتدي بمجرد انتهاء بياته الشتوي وعودة اخر طائر مهاجر الي الشمال، كان يرتدي بذلة يبدو داخلها مثل رجل أمن، ذات مرة قرر قضاء الليل معنا، تناولنا العشاء من كسرة القمح الرهيفة المعروفة بالسناسن باللبن وشربنا دورا من الشاي ثم اشرت له علي العنقريب الذي سيقضي فيه الليل.. وذهبت لاخلد للنوم في فناء اخر لعلمي بأنه يستيقظ كثيرا اثناء الليل.
كان عبد الواحد لا زال يمد يده يطلب حسنة موسيقية، لفت نظري قوله انه يريد حاجة تخلص بسرعة، فتذكرت مقولة احد المطربين ان حمد الريح يسك الاغنية كأنه شخص يطارد فرخة لذبحها ، احضرت له شريطا لحمد الريح وشرحت له ان اغنيات الشريط ربما توافقه.
كنت مشغولا باحصاء النجوم في لوحة السماء، التي بدت مشبعة بغبار كوني ابيض، حين استغرقت في النوم كانت اللوحة لا تزال معلقة في ذاكرتي ثم انتبهت بعد قليل ان بعض النجوم كانت تتحرك في الذاكرة، قبل ان اعرف انني كنت مستيقظا، وجدت شخصا ضخما يسد منافذ النجوم واقفا فوقي، كان ود السكة، قلت له : مالك الجن قام عليك؟
نفي ذلك وقال انه يشعر بآلام في بطنه ويريد ان يشرب نعناعا دافئا.
عرفت انه كان جائعا ومددت له بقرص مسكن للالم وطلبت منه ان يعود لفراشه. لكنني سمعته يطنطن غاضبا وهو يرتدي ملابسه ويخرج. كان الوقت لا يزال في اواخر الليل، وعرفت انه سيذهب لايقاظ شخص ما لكنني استغرقت في النوم..
عاد عبد الواحد بعد قليل والقي بالشريط ارضا قائلا:
انعل ابو الحب بالحالة دي؟
سألته عن المشكلة فقال: زولك دة قوّم نفسنا. شوف لي حاجة تانية..
قلت له : انت لي متين حتقعد تغير في الشرايط، الدميرة جات..
فقال لي : انا تاني ما راجع للزراعة..
قال : ح أمشي العمرة في الشتاء..
في هذه المرة لم ارهق نفسي بالبحث عن شئ مناسب احضرت له شريطا اخر دون ان انظر الي محتواه..
قال جارنا ود النور: زولك امبارج صحاني نص الليل وقال لي صحي الجماعة يعملوا لي دواء اشربه ووديني للبصير يكوي لي بطني .. وكان هناك في القرية رجل مسن اسمه البصير اشتهر باستخدام الكي لعلاج بعض الامراض مثل امراض المصران العصبي. قال لي ايقظت النسوان فصنعوا له نعناعا وعرديبا كما طلب حلبة باللبن وحين تبقي جزء قليل في كوب الحلبة باللبن طلب قطعة خبز : لنحسن به الحلبة كما قال. ولبثت مستيقظا معه طوال الليل يحكي قصصه ويظهر انه كان يريد شيئا يأكله وشخصا يستمع له.، كان يحكي قصصا طويلة وحين استغرق في النوم كان يوقظني ويعيد حكاية ما فاتني في قصته.
في النهاية اشرقت الشمس فقلت له هيا بنا للبصير لكي يكوي بطنك. فقال لي لا لا الحمدلله انا بقيت كويس!
قلت لعبد الواحد : انت شكلك كدة يا زول ماك مسافر عمرة ولا غير عمرة.!
كانت الدميرة قد انصرمت وحل الشتاء واختفي ود السكة في بياته الشتوي ووصلت اسراب الطيور المهاجرة من الشمال، ولازال عبد الواحد مستمرا في شهر عسله الابدي ، يغير في الاشواق دون ان يعثر علي الفنّان المناسب..
الزول دة لو شفتو كلمو قول ليه يشوف ليه شغلة غير الغنا دة!
في الشتاء جاء والده وتشاجر معه: قوم يا ولد حصّل الموسم، اصلك ما نافع في الزراعة وكمان داير تبدأ الموسم علي كيفك؟؟
يا ابوي انا ماشي العمرة!
عمرة تمشيها بسجمك، القريشات الساعدوك بيها اهلك المغتربين للعرس اشتريت بيها كلها حجارة بطارية وقعدت. اتحرك يا ولد قوم معاي هسع انا ماشي الحواشة..
يا ابوي خلاص بجي بكرة.
مافي بكرة الليلة.
يا ابوي خلاص انت روّح انا بحصلك!
رجلي فوق رجلك!
ممكن امشي الجنينة دقائق اغير الشريط.
يا ولد امرق ما تضيق اخلاقي..
وخرج عبد الواحد من البيت، في قلبه غصة كلما رأي في الطريق امرأة كان الحزن يجتاح قلبه.. سيمضي في الطريق الي الحواشات مثل هيكل عظمي.
ذات مرة كنا نسمر في المسيد بعد انتهاء اجراءات صلاة العشاء التي يتم تاخيرها قليلا في العادة لحين انتهاء نشرة موتي الساعة الثامنة مساء والتي كان شيخ النور يعلق عليها قائلا:
الحي الما سمع اسمو الساعة تمانية!
وحين لا يرد اسم شخص يعرفونه للاحتفال بموته ببرنامج يقضي علي رتابة الحياة في الصيف، يصيح شيخ الطيب بعد نهاية النشرة بغضب : يا ولد اقفل الرادي دة ما فيهو حاجة! ومع اسم اخر ميت من الغرباء تقام الصلاة علي عجل ويتبعها بسرعة طعام العشاء ، خبز السناسن باللبن والطبق السرمدي : القراصة بالويكة.
ثم يخلد كبار السن الي النوم في بيوتهم ويبقي بعض الشباب وبعض العجائز المتصابين الذين يبقون علي أمل ظهور أحد أكياس القمشة التي تدفن نهارا في التراب وتعود اليها الحياة ليلا.
قال أحد الصبية انه شاهد عبد الواحد قبل ايام وهو يشارك في حصاد محصول القمح وهو جالس أرضا، ضحك عصام وهو يبصق السعوط من فمه في شريط طويل مصحوب بخط موسيقي وقال : عبد الواحد فضل ليه سنة.
ضحك شيخ النور وقال له : انت بقيت زي منوفل داير تقول لكل زول متين بيموت؟
ستمضي حياته علي نفس الوتيرة أحلام بالسفر تبدأ مع هبوب أنسام الصيف وتنتهي مع هبوب اول انسام ريح الشمال، يبصق السعوط ويغير الشرايط ويعلن : انعل ابوها دي بلد! يحلم برحلة سيعود منها غانما وكان يأسف أحيانا علي تأخرها ، يقول :
(لو سافرت الوكت داك هسع كان يكون عندي كم لوري في الخط!)
يصر علي الزوغان احيانا من الحواشة ليغير الشرائط ويغير اشواقه.. حين تنبأ عصام بموته كان ذلك اواخر الثمانينات من القرن الماضي.. كان عليه ان يكافح عشرة سنوات اخري ليمضي بعدها في الرحلة الاخيرة.. الرحلة التي ستفضي به الي نشرة الساعة الثامنة مساء.