على كرسيه، يجلس ساعات و عيناه شاخصتان في لوحة معلقة على المرسم أمامه. المكان يعمه الفوضى، صحون مترعة بأعقاب السجائر ، فناجين قهوة مترامية هنا و هناك؛ حتى أريكته التي كان يستلقي عليها أحياناً عندما يبلغ به التعب ذروته قد ترامت عليها ملابسه . المنزل غارق في الظلام إلا من مصباح صغير مسلط على مكان جلوسه. حتى في النهار يبقى البيت هكذا فهو قلما يزيح الستائر أو يفتح النوافذ .
سمع صوتها تعاتبه على كم الفوضى المحيطة به، ضحك كعادته لأنه يعرف ما سيلي ذلك من حديث؛
-تعرفين أنني عشوائي و لا أملك حس الترتيب الذي تملكين، ثم أن مجرد غيابك عني يجعلني أغرق بفوضى قلبي فما بالك بما حولي.
أخذت تلملم قطع الثياب من على الأريكة و عيناها تطالع صحون السجائر و فناجين القهوة.
-دائماً تعرف كيف تخرج منتصراً، هل شربت كل هذه السجائر ؟ ما كل هذه الفناجين ؟ لم لا تتبع تعليمات الطبيب، ستميتني عليك قهراً .
-تأخرت كثيراً ؟ هل كان عليك أن تغادري؟ تعرفين أن كل ركن هنا فيه ريحك؛ كل زاوية تحمل لمساتك. حتى المرايا، ما زال وجهك فيها .
-لكنني وعدتك أن أعود
-كان غيابك كغمامة غطت سماء حياتي، لا تفعليها ثانية.
تتحرك رانيا بين الصالة و المطبخ و هي تلملم شعثه المتناثر هنا و هناك .
-ما بك ؟ كم بقي لك من الوقت مستيقظاً ؟ تبدو مرهقاً . عهدي بك تصل الليل بالنهار عندما يكون هناك ما يؤرقك . أهي لوحة جديدة؟
ضحك ضحكة مشوبة بحزن دفين و بدأت عيناه توحيان بمطر وشيك.
ما زالت عيناه تتأرجحان وفقاً لخط سيرها المعتاد ما بين الصالة و المطبخ؛ و كأنهما يلتقطان صوراً تذكارية ستبقى محفورة في عقله، هناك حيث لا يمكن أن تضيع أو تبهت ملامحها.
-ألم يحن موعد حضور الأولاد ؟.
نظرت إليه فتلقت عيناه رسائل غامضة، أو ربما ليست كذلك و لكنه لا يريد تفسيرها. تبعها إلى المطبخ و عيناه تحملان شوقاً كأنهما جمرات عشق لم تنطفئ جذوتها كل تلك السنين . أحاط خصرها بذراعيه و شدها إليه بقوة جعلت منهما جسداً واحداً أفرغ من دنان اشتياقه المعتقة في فراغ أيامه العجاف.
-لا تفعلي ذلك ثانية. لن احتمل غيابك مرة أخرى .
رحى الأيام قد طحنت فتات الحياة التي كان يتمسك بها لتمضي به إلى رحلته الأخيرة .أمسكها بكل رغبة تشتعل في جنباته حد التوسل لبارق ابتسامة منها أو تسولٍ لعناق يعيد له اتزان روحه التي ضاقت بما رحب به المكان وتاقت إلى مستتب يودي إلى إحدى النهايات.
حاولت التفلت منه و نجحت في ذلك بصعوبة .
لبست حذائها بسرعة و هي تلومه كيف أنساها موعد احضار الأولاد من المدرسة، فقد أخبرتهم إدارة المدرسة على ضرورة مرافقة أبنائهم بأنفسهم فالطرق لم تعد آمنة و القذائف لم تتوقف منذ يومين .
-لم ننته بعد ، سنتابع ما بدأناه ليلاً ، لن يفيدك هذا التهرب .
قالها و ضحك ثم اتجه إلى مرسمه . شحبت ابتسامته و لما لبثت أن اختفت. عادت عيناه تشخصان في تلك اللوحة المعلقة أمامه, تمتم بمرارة:
-لقد انتهت آخر خطوط اللوحة و لكن خيوط العودة وهنت ثم تقطعت.
عبرات ملأت وجهه، امتدت يداه باتجاهها.
دوى صوت قوّض أركان البيت .. هناك في ركنه المعتاد وجدته فرق الإنقاذ بين ركام البيت و قد احتضن بين ذراعيه لوحة لسيدة و طفلين.
سمية الإسماعيل/سورية
سمع صوتها تعاتبه على كم الفوضى المحيطة به، ضحك كعادته لأنه يعرف ما سيلي ذلك من حديث؛
-تعرفين أنني عشوائي و لا أملك حس الترتيب الذي تملكين، ثم أن مجرد غيابك عني يجعلني أغرق بفوضى قلبي فما بالك بما حولي.
أخذت تلملم قطع الثياب من على الأريكة و عيناها تطالع صحون السجائر و فناجين القهوة.
-دائماً تعرف كيف تخرج منتصراً، هل شربت كل هذه السجائر ؟ ما كل هذه الفناجين ؟ لم لا تتبع تعليمات الطبيب، ستميتني عليك قهراً .
-تأخرت كثيراً ؟ هل كان عليك أن تغادري؟ تعرفين أن كل ركن هنا فيه ريحك؛ كل زاوية تحمل لمساتك. حتى المرايا، ما زال وجهك فيها .
-لكنني وعدتك أن أعود
-كان غيابك كغمامة غطت سماء حياتي، لا تفعليها ثانية.
تتحرك رانيا بين الصالة و المطبخ و هي تلملم شعثه المتناثر هنا و هناك .
-ما بك ؟ كم بقي لك من الوقت مستيقظاً ؟ تبدو مرهقاً . عهدي بك تصل الليل بالنهار عندما يكون هناك ما يؤرقك . أهي لوحة جديدة؟
ضحك ضحكة مشوبة بحزن دفين و بدأت عيناه توحيان بمطر وشيك.
ما زالت عيناه تتأرجحان وفقاً لخط سيرها المعتاد ما بين الصالة و المطبخ؛ و كأنهما يلتقطان صوراً تذكارية ستبقى محفورة في عقله، هناك حيث لا يمكن أن تضيع أو تبهت ملامحها.
-ألم يحن موعد حضور الأولاد ؟.
نظرت إليه فتلقت عيناه رسائل غامضة، أو ربما ليست كذلك و لكنه لا يريد تفسيرها. تبعها إلى المطبخ و عيناه تحملان شوقاً كأنهما جمرات عشق لم تنطفئ جذوتها كل تلك السنين . أحاط خصرها بذراعيه و شدها إليه بقوة جعلت منهما جسداً واحداً أفرغ من دنان اشتياقه المعتقة في فراغ أيامه العجاف.
-لا تفعلي ذلك ثانية. لن احتمل غيابك مرة أخرى .
رحى الأيام قد طحنت فتات الحياة التي كان يتمسك بها لتمضي به إلى رحلته الأخيرة .أمسكها بكل رغبة تشتعل في جنباته حد التوسل لبارق ابتسامة منها أو تسولٍ لعناق يعيد له اتزان روحه التي ضاقت بما رحب به المكان وتاقت إلى مستتب يودي إلى إحدى النهايات.
حاولت التفلت منه و نجحت في ذلك بصعوبة .
لبست حذائها بسرعة و هي تلومه كيف أنساها موعد احضار الأولاد من المدرسة، فقد أخبرتهم إدارة المدرسة على ضرورة مرافقة أبنائهم بأنفسهم فالطرق لم تعد آمنة و القذائف لم تتوقف منذ يومين .
-لم ننته بعد ، سنتابع ما بدأناه ليلاً ، لن يفيدك هذا التهرب .
قالها و ضحك ثم اتجه إلى مرسمه . شحبت ابتسامته و لما لبثت أن اختفت. عادت عيناه تشخصان في تلك اللوحة المعلقة أمامه, تمتم بمرارة:
-لقد انتهت آخر خطوط اللوحة و لكن خيوط العودة وهنت ثم تقطعت.
عبرات ملأت وجهه، امتدت يداه باتجاهها.
دوى صوت قوّض أركان البيت .. هناك في ركنه المعتاد وجدته فرق الإنقاذ بين ركام البيت و قد احتضن بين ذراعيه لوحة لسيدة و طفلين.
سمية الإسماعيل/سورية