مقتطف د. محمد عبدالفتاح عمار - سفر : " لقاء الأرواح " من رواية اسفار الوطن والجراح

سفر: لقاء الأرواح​

لا سبيل إلى مقام سيدي الترابي بعد ان تمر بحارة الخوخة إلا أن تصعد بقدمك إلى أعلى الجبل، البعض يقول سيدي محمد الترابي والبعض يقول علي الترابي، لا يهم الاسم، لا يهم الرسم، الترابي كنية لحقت به من اعتزال الناس والتصاقه بتراب الأرض، «تراب الأرض أحسن من تبر الملوك»، حقيقة تدركها حين تنظر من أعلى ترى عشرات الأجيال يرقدون في مقابر وأضرحة لها قباب وبعضها لها مآذن، هل كان يفرح المصريون دون خلق الله بالموت فيبنون مقابر جميلة لها قباب عالية للقيا الموت، لماذا لم يخبرنا أحد منذ الفراعنة لِمَ يزين المصريين مقابرهم.. هل لأن الحياة فيها أفضل مما يعانون في الحياة اليومية؟ هل كل العصور التي مضت بهم سواء.. هل الوطن جراحه دائمة؟

أبهاء تنافس القصور الملكية، لِمَ لا؟ تعرف السبب الرهبة تتملكك أكثر من رهبة لقاء أعظم السلاطين أنت في طريق للقاء تحت عنوان ورد على لسان الرسول في القرآن الكريم «قل لا أسألكم عليه من أجر إلا المودة في القربى».

الضريح غير مزخرف، في غاية البساطة، تعريشة من الخشب يكسوها نبات شبيه بالصبار لم أرَه من قبل.. زير للماء.. البلاط المخلوع مركب بغير يد ماهرة.. تصطدم بحوافّه يحدث رجة في الجسد.. يوقظ غفلتك.. أنت داخل على واحد من أبناء النبي لا تنسَ، تبدو السماء بنجومها الزاهرة كحبات اللؤلؤ تزين ثوبًا أسود ترتديه فاتنة في احتفال مهيب ، لا يحجبها السقف من عروق وألواح الخشب، الحوائط مدهونة بالجير البلاستيك الأخضر، الأرض مفروشة بالحصير، حين تدخل المبنى المتهالك تشعر أنه أمتن من القلعة والبروج المشيدة على أسوارها، أشعر وبيقين وقر في قلبي وعقلي أن القلعة تحتمي به، حوائط المكان لا تزيد على أربعة أمتار في كل جانب، أما حيزه فأنا على يقين أنه يبدأ من عند البحر الأحمر هناك حيث «وادي حميثرة» جنوب البحر الأحمر، سيدي حسن الشاذلي يرقد في الجبل أو ربما أبعد من هذا المكان كما أنّه يمتد من الشمال هناك حيث المرسي أبوالعباس وتابعه سيدي ياقوت العرش، كان يتأخر في الأذان أو يتقدم فتعجب الناس منه، لاموه، أحضره الوالي فقال بوضوح وحسم لا ولن أؤذن حسب مواقيتكم أنا أسمع الأذان من العرش، أما حده القبلي فربما يصل إلى أبعد من الأقصر حيث أبي الحجاج الأقصري أما الغربي هناك حيث سيدي العوامي الذي وُجد عائمًا على الماء بمرسى مطروح ولم يتغير جسده ولم تأكله أسماك البحر ولا أحد يعرف من أين هو ومَن هو وظل كما هو تفوح منه رائحة المسك نفحة علوية رسالة إلى أهل الأرض أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

المكان يتسع شيئًا فشيئًا يصبح أوسع من ذلك حيز المكان يتسع بقدر قلبك ويضيق أيضًا بقدره، اجعل قلبك للناس جميعًا لا تجعله ضيقًا مقصورًا على نفسك، اخلع ذاتك من ذاتك، تجرد من صفاتك وتذكر أنك وُلدت عاريًا وستُدفن مستورًا في لفائف سيأكلها دود العفن.. أمي كانت تقول «الكفن ليس له جيوب».

من بعيد يبدو الشيخ رافع، مجذوب السيدة زينب، يقولون إن جده الأكبر رفاعة رافع الطهطاوي وخالته كاتبة مشهورة ترك الحياة مثل جدي شيبة الحمد زايد خال أبي كان مجذوبًا مثله، هام في الأسواق تاركًا ثروة طائلة، له مقام في بلده اليهودية بحيرة غيّروها ببركته لتصبح الوفائية لكن ألسنة العامة تلهج دائمًا بما جبلت عليه مجذوب السيدة يرتدي ثيابًا خضراء وعمامة خضراء وحذاء أخضر ويعلق عشرات المسابح الخضراء وكارنيه من البلاستيك المغلف تباهى به أمامي لم تكن حروفه واضحة طمسها الزمن قال قارئ لها أنا من محاسيب السيدة رئيسة الديوان، طلب كف يدي نظر فيه رأى أشياء لم أرَها، ضغط بشدة ووقع بإصبعه بشدة وقال لي «أنا مستنيك من بدري.. ادخل»، منحني شرف الولوج في المكان، أُقسم أني ربما رأيته قبل ذلك في مسجد سيدي الأحمد البدوي يستمع معنا لقرآن الجمعة من الشيخ حصان، الشيخ حصان أيضًا كان يوقع بالقرآن في قلوبنا كان كفيف البصر لكن توقيعه كان منضبطاً على السطر وأدق من كتابة مدرس الفصل والمصحح لكراسة إجابتي في مادة الشريعة في كلية الحقوق، كلمات الدرويش غير واضحة أحرفها متآكلة يهتف في الشيخ فتحي ليستعد للقراءة «يلا يا شيخ فتحي يا أبوثلاث نجوم خضرة»، الوشاح الذي أرتديه في المحكمة عليه خمس نجوم نحاسية زاهية ينتصب لها الحرس ويقف المُدَّعُون احترامًا وإجلالاً حينما يهتف حاجب الجلسة: (محكمة)، إذن، لماذا تتملكني رهبة ممزوجة بغِيرة مكتومة من أصحاب النجوم الخضراء، ربما لأن النجوم النحاسية للأسف جافة أو لأنها عرضة للصدأ، النجوم الخضراء لا تصدأ يانعة كشجرة النبق التي ترتبط بالمقابر والأضرحة أو كجريد النخل يخفف من عذاب القبر كما رُوي عن سيد المرسلين.

هناك الجميع، الشيخ فتحي القارئ الشهير، عمي محمد الفنان المبدع نجم الموسيقى، أحمد أبوالليل قابع خلف الليل الذي أسر عينيه يرى بنور القرآن، حينما استوقفه رجال الشرطة ذات مساء قال لهم أنه سائقي الخاص تركوه يمضي ضاحكين لم يصدقوا لكنها كانت الحقيقة أحمد قادنا إلى هذا المكان.. المجذوب يقول أرسلتني السيدة زينب.. عرفان خادم الضريح يرحب بك بابتسامة تشع معها شمس الأولياء.. أوجه لم تلتقِ أبدًا قبل ذلك بينهم رباط عروة وثقى لا انفصال لها، قل القرآن، قل حب آل البيت، سيدي الترابي واحد منهم.

أنوار القاهرة تبدو من بعيد.. الروح تسمو بقدر ارتفاع المكان، نحن تقريبًا أعلى من برج القاهرة.. صخب المدينة يختفي رُوَيْدًا رُوَيْدًا بعد أن دنس الوجود المادي أسفل المكان، إنه ينكسر كزجاج السيارة التي اشتطت في طريق لم تعرف نهايته أصابها سرطان الزجاج تحول إلى قطع صغيرة كحصى الرمل الناعم.. أحس أني فراشة كسيرة الأجنحة تدور حول نور مشكاة فيها مصباح، نور المصباح كان أقوى من كل ضوء.. نور وشمس وقمر.. يتفتت الوجود، منه تلين حجارة المكان، تنسلخ الروح من الجسد إلى أين.

نسيم يحف الأنفس.. قشعريرة في الجسد.. برودة المكان تلطفها حرارة الاحتفال.. روح الأولياء التي تحف المكان.. من بعيد تبدو القلعة رمز الخلود والعظمة وربما الظلم والجبروت.. أسمع صوت صلاح الدين من بعيد يجهز الجيش لمعركة حطين، منذ أيام نَعت أحدهم صلاح الدين في التلفاز بـ«الملعون»، قال «قضى على آل البيت، حارب دولة الفاطميين، أعلن المذهب الشافعي».. الشافعي إمام كبير كتابه «الأم» اشتريته من مكتبة الأسرة التي أشرفت عليها سوزان مبارك لم يتجاوز ثمن الجزء جنيهين في خمسة أجزاء يساوي عشرة جنيهات، فقه أهل الأرض بعشرة جنيهات.. كيلو اللحم هذا الأسبوع اشتريته بمائة وخمسين جنيهًا.

تحس هنا بمحمد علي يستعد لنحر المماليك، التاريخ يندثر.. بقعة ضيقة يخرج منها النور.. أسفل منك الموتى الساكنون مقابرهم تأكيدًا على أنك هنا أعلى من الفناء الجسدي.. لم يسألونك عن الروح، إن سألوك قل (الروح من أمر ربي).

هنا أيضًا خلفنا نهاية سور مجرى العيون ينتهي إلى خزان المياه الذي كانت تشرب منه قاهرة المعز، كلما أحدق الليل زاد البهاء، لم أكن أدرك أن النور يولد مع الظلام، تتمنى ألّا يأتي نور الصباح، ربما حتى تظل القاهرة مستترة والروح العارية سعيدة من انفلاتها من قيد الجسد.

المنشد دكتور صيدلي عشق أهل البيت، سلك طريقهم، ألقى خطبة عن الصفاء والكرامة التي حبَاها الله للأولياء قال إن سيدي الإمام الشعراني مر بسيدي علي الخواص، الشعراني كان عالمًا في الأزهر.. الخواص يصنع الحبال وغلقان الخوص والمشنات.. الشعراني يعايره كل يوم بجهله، يشكك فى أن يكون الولي لا يقرأ ولا يكتب، لا بد أن يكون عالمًا بمتون الكتب الصحاح.. ينظر له قائلاً ما اتخذ الله من ولي جاهل.. ذات مرة فاض بالشعراني الوجد والعشق الدنيوي، خلع ثيابه، راح في مرح مع زوجته، الباب مغلق لا يراهما إلا الله، اعتلته زوجته كما يعتلي الفارس جواده والفلاح حماره، طرحها على الأرض تعالت الضحكات.. كان ما كان.. في اليوم التالي مر الشعراني بالخواص، قال للخواص كعادته «ما اتخذ الله من ولي جاهل».. فاض الكيل بالخواص فَرَدّ في أدب وابتسامة صافية لقلب نقي لم يغضب، قال «اتخذني وفضلني وعلمني يا حمار زينب».. ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة.. راح المنشد يردد:

مدد يا آل البيت.. لاموني وقالوا إنك للحب مُدَّعٍ عندي شهود عندي أنا.. أنا عندي عندي شهود أربع يشهدونني.. غرامي ووجدي وفرط عشقي ومدائحي».

ابن الفارض يقترب من المكان، روح ابن عربي تسيطر، يتلاشى الخوف، نقترب من حافة الروح الذائبة في بقعة الخلود ونفس وما سواها، الإشارات الإلهية لابن حيان التوحيدي حاضرة بقوة تسحق صوت أغاني التوكتوك الذي وقف بي عند باب الوزير بعدها بعشرة أمتار، حارة الخوخة، هنا الحِكَم العطائية لابن عطاء السكندري تلمع في أفق مضيء، الجميع هنا، هنا لقاء الروح لا البدن، حيث التناهي الذي أبحث عنه.

العشق منتهى الوجود، غاية البدن ليرتاح.. وسادة أهل البيت أنقى من كل وسادة، محبة الرسول أجمل من حضن جميلة الجميلات.. حاشا لله أن تقارن لحظة فانية بنور أبدي أزلي، جمال قيل إن جمال يوسف ذرة من جماله.. قبل الخليقة اسمه صلى الله عليه وسلم مكتوب على العرش.. بعد فناء الخليقة سينهض للشفاعة للفقراء الطيبين والمحبين رغم أقوال المعتزلة لا شفاعة، مجادلات واصل ابن عطاء أتباعه في كل زمن حتى الدكتور مصطفى محمود هل جن الرجل (رحمة الله عليه).. اللهم شفع فيهم نبيك ليردوا حوضك ويعلموا إنّما غنموا من شفاعته ونالوا من محبتك له ليعلموا أن كلامهم زبد هباء. هنا يقين أن الشفاعة قادمة، أخلص في العمل، جد في الطاعة، لا تتعمد المعصية، دع نفسك اللوامة تجادلك صباحًا ومساءً.. تجلدك بسياط الندم... مفغرة الباري وسعت كل شيء.. تشفع يا رسول الله فينا فممن ترجى الشفاعة من غير نبينا.

درويش يلبس ثيابه على أحدث موضة قميص من القطن الخالص ربما يكون مستوردًا لم تعد مصر تزرع القطن طويل التيلة للأسف ولا القصير لم تعد هناك مصانع للنسيج أغلقت أقيمت بدلاً منها عمارات شاهقة يرتدي بنطلون جينز صيني لكنه من النوع الغالي يقولون إن الصين الآن سرقت من مصر لقبها، الصين أم الدنيا أما مصر فتبكي على الدنيا، تقضي وقتها في البكاء على اللبن المسكوب، مجادلات في التلفاز ونوم عميق وكسل متناهٍ.

أحضر الدرويش أرزًا باللبن، الجميع يأكل في نهم، كسرت الريجيم، آخر يوزع حلوى، قبلهم كانت أرغفة العيش الأسمر بها حبات من الفول النابت وطعمية من صناعة الشيخ نافع، خادم الضريح، وزوجته المخلصة، كيف تحملا العيش في هذا المكان، أدمنا حب الأولياء، السكون مؤنس وصخب القاهرة موحش، تبدلت العبارات عفوًا تبدلت الحقائق مخالفة النموس ببركة الأولياء أولاد النبي، آل بيته.

شخص في أبهى ثيابه يبدو كأنه ضابط شرطة يعرف واجبه، ينحني: «تشرب شاي، قهوة، زنجبيل؟»، سألت الشيخ القارئ في دهشة لا يمكن أن يكون صبي قهوة أو حتى صاحب قهوة إنه أبهى من كثير، يبدو مثقفًا قرأ كتب العقاد، روايات نجيب محفوظ شخوصها من هنا، من الحطابة وباب الوزير والقلعة والسيدة عائشة، لو علم بعضهم ربما حضر والبركة فمن حضر، أجابني الشيخ القارئ بدهشة تضاءلت أمامها دهشتي، أشعرني أنني سببت الرجل شاتمته، ربما يخشى عليّ أن يكون الرسول غاضبًا مني يوم القيامة، رد بحزم وثقة وعينه النقية كانت جامدة: «لا، إنه محب للرسول ولخدمة أهل البيت، إنه صاحب أكبر معرض سيارات بحي السيدة، أبوه لديه دار ضيافة في الحسين وأخرى في السيدة تفتحان أبوابهما للفقراء والأغنياء لكل المحبين في المولد، إخوته البنات يشرفن على الطعام المقدم للفقراء، إحداهما طبيبة والأخرى مأمورة ضرائب، لا يكتفون بالطباخ ولا القهوجي يشاركونهم العمل في حب أهل البيت»، ردد الشيخ فتحي: «مدد مدد إنه مريد لطاعة الله وحب النبي»، أدركت بالفعل صدقه، شكله كأنه مدير عام أو يبدو كضابط شرطة أو جيش كما شعرت لأول وهلة ولكنه في جيش سيدنا الحسين لا يحمل على كتفه أيّ نجوم ربما نجومه خضراء في القلب ليست نحاسية، تملكتني الرهبة والغيرة أيضًا من جديد.

أرى من بعيد الحسين يقترب من الكوفة، الفرزدق يقول له «ارجع يا حسين.. قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية»، الحسين يمضي منفذًا إرادة الله، يمشي باختياره إلى حيث الشهادة ربما يعلم ذلك من أحاديث الرسول.. الحسين يدرك أن الله خالق الفعل.. لكنه ذاهب باختياره إلى حيث ينفصل الجسد عن الرأس.. كل تاريخ المسلمين، إنجازاتهم، فتوحاتهم السابقة واللاحقة، يكاد يصبح تاريخًا من سراب.. أكذوبة مسطرة بأكاذيب الشعر العربي، باب الفخر فيه أكبر من كل باب.. يتساقط كل ذلك أمام قطرة من دماء الحسين.. دمعة من عين رئيسة الديوان السيدة زينب.. علي زين العابدين يحبو في حجرها إنه ثمرة قلوب أهل البيت.. الحمد لله إنهم هنا في مصر لا يبعدون عنا كثيرًا.. ربما كانوا حاضرين معنا لمَ لا، إنه لقاء الروح، قطرة من دمك يا حسين دمعة من عينك يا زينب يا أولاد رسول الله يا أطهر نسل من نسل أطهر من المسك، أهم من الدنيا، أهم من كل الفتوحات.. آه يا حسين آه يا حسين.. ألف ألف آه كل طعنة في جسدك تشق صدري حتى هذه اللحظة ليتني كنت معك ليتني مت دونك حرمني الزمان من ذلك جئت في زمن الدولار.. زمن الخيانة مكتوب على كل زمان مرسوم على كل مكان، الأذن لا تسمع.. صهيل خيول بني أمية أصبح في زمن الخيانة أعلى من صوت الرسول صلى الله عليه وسلم.. أُذن الخلق عليها وقر وصدأ لن تسمع قول جدك افضل الخلق كلهما عليه الصلاة والسلام لأمك «الحسن والحسين ولداي».. عيونهما لم تشاهد إطالته عليه الصلاة وأزكى السلام في السجود وهما يحتضنان ظهره يلعبان معه لا يريد أن ينزلا من على جسده الشريف الطاهر.. نطمع نحن في أن نقبل التراب الذي مشى عليه.. وهو ينحني ليلعب معكما.. صوتك سيدي يا رسول الله أسمعه هنا، حيث مرقد سيدي علي الترابي، «حسين مني وأنا من حسين»..

آه يا دماء الحسين لا تزالين على ثياب الأمة، أكيد عَمّ عرفان خادم الضريح المخلص لآل بيت النبي كان يتمنى أن يموت بدلاً منك يا سيد الشهداء.. أنا أيضًا.. رافع درويش السيدة زينب.. أجزم أن معظم الحاضرين مستعدون لفعل الشيء نفسه.. يذودون عنك بكل ما يملكون ولو كان ما يملكون كل الدنيا وذهب الأرض وكنوزها.. لكنهم للأسف بعضهم لا يملك إلا الحب.

لا أحد من بني أمية كان موجودًا معنا، بني أمية موجودون في كل عصر، أيضًا يسكنون القلعة، يجمعون المكوس ويفرضون الجزية، يفتشون حتى هذه اللحظة عن ضمائر الناس ويشقون القلوب ليتأكدوا هل تحب الحسين.. لِمَ لا.. الحسين رمز الحقيقة في كل زمان في كل مكان.. هل يكون ذلك الذي يتتبعي من بني أمية يعلم حبي لآل البيت يترقبني لحظة بلحظة؟ أكثر شيء أسعدني أنني لم أرَه، كنت أحس به في الباص وحين حطت أقدامي بساحة الترابي الخالية من البشر ومن قبلها مسجد السيدة عائشة لم أجده، كان كسراب انتفض من غفوته، هنا الحقيقة فقط تتجسد لا مكان إلا للحب الإلهي والصفاء النفسي والروح، الحمد لله غير موجود، نبوءة الشيخ فتحي تتحقق، لن تراه بعد أن تجلس في حضرة الترابي نشرب من كأسه المترعة حتى الثمالة، خمر أهل الجنة لا تسكر، لا تذهب العقل، فقط تحوله إلى مشاعر تطير بها كأجنحة الملائكة في رحاب ملكوت الخالق ومعجزاته.. حب النبي سيتجسد تمامًا في جسدك المنهك فتصبح في عافية.. عافية النفس تخلق عافية البدن والعكس صحيح.. أشد من مرض الجسوم حشاشة نبتت على أعتابها الحسرات.. ستخلع كل منكر ارتكبته.. كل معصية أتيتها سهوًا أو عمدًا.. سطرتها أفعالك.. ستصبح مولودًا من جديد.. ستكسوك البراءة.. لن يكون هناك أبدًا من يتعقبك.

عمي نافع أحضر صينية كبيرة مرة أخرى تأكيدًا لكرمه، عليها أرغفة من العيش الأسمر دس فيها حفنة من الفول النابت والطعمية التي أعدتها زوجته، لم تتأفف نفسي ولا أحد من الحاضرين، مددت يدي وشرعت في تناول نصف الرغيف، كان ألذ طعمًا من لحم الضاني وعشاء المطاعم ذات الخمس نجوم في الحفلات الرسمية حيث تشبع البطون على نفقة الدولة ومن ميزانية الفقراء. لكن بقي سؤال حيرني: لِمَ الفول النابت القاسم الأعظم في موالد الأولياء وجلسات الصوفية الأتقياء؟

ربما يكون الفول النابت هو الطعام الرسمي في لقاء الأرواح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى