أ. د. عادل الأسطة - هواجس من وحي ما جرى... تداعيات الحرب في غزة ٢٠٢٣ ملف -ج6- (85--91)

85- هوامش من وحي ما يجري في غزة: (فرانز كافكا) والحرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين

في الأسبوعين الأخيرين قرأ المتابعون لما يجري في غزة أخبار القتل الجماعي الذي لا يدخل رأس عاقل، وبلغ الأمر أن تظاهر في تل أبيب، مساء الأحد ٢٥/ ٥/ ٢٠٢٥، بضعة آلاف من الإسرائيليين، ضد الحرب وضد الإبادة الجماعية في غزة، وأغلقوا مفرق عزرئيلي رافعين شعارات «الحرية لغزة» و»أطفال غزة يستحقون الحياة».
في ٢٢ أدرج ناشط غزاوي، في صفحته، مناشدة وصلته لإنقاذ أطفال محاصرين في منطقة الأوروبي هذا نصها:
«أفاد اليوم نازحون تمكنوا من الخروج من منطقة الأوروبي بأن رامي أبو لبدة وزوجته دنيا أبو لبدة شوهدا مقتولين على باب منزلهما (يعتقد من الكوادر كابتر) والزوجان لديهما ثلاثة أبناء أطفال أكبرهم ٤ سنوات وأصغرهم سنة ونصف ما زالوا داخل المنزل بدون أي شخص بالغ لرعايتهم. نناشد كل من لديه القدرة (الصليب الأحمر، الأوتشا، منظمة الصحة العالمية، أو أي جهة أخرى) للمساعدة في إنقاذ هؤلاء الأطفال وإخراجهم من المنطقة».
الخبر الصاعق الذي هز الجميع هو ما ألم بالدكتورة آلاء النجار أخصائية الأطفال في مستشفى التحرير بمجمع ناصر الطبي التي لديها عشرة أبناء أكبرهم لم يتجاوز 12 عاماً.
خرجت الدكتورة آلاء مع زوجها الدكتور حمدي النجار ليوصلها إلى عملها، وبعد عودته إلى بيته بدقائق سقط صاروخ على منزله، فاستشهد تسعة من أطفاله وأصيب هو وطفله آدم، الطفل الوحيد المتبقي، ويرقد حمدي في العناية المركزة.
لقد ارتقى كل من يحيى وركان ورسلان وجبران وإيف وريفان وسيدين ولقمان وسيدار.
عندما قرأت الخبر الأخير عقبت «ما يجري في غزة يفوق قدرة عقولنا على التصور وقدرتنا على الاحتمال أيضاً».
الذهول مما يجري ذكرني بقصة الكاتب اليهودي التشيكي (فرانز كافكا ١٨٨٣ - ١٩٢٤) «بنات آوى وعرب» التي أثير، في العالم العربي، حولها وحول كاتبها، ضجة كبيرة سببها الاشتباه بمؤلفها إن كان صهيونياً ينتقص من العرب، لا يهودياً وحسب.
لقد وصف ابن آوى الكبير، للرجل القادم من الشمال، العرب، بأنهم، خلافاً لأهل الشمال، ينقصهم الفهم، فلا تحس لديهم ذرة عقل «إنهم يقتلون الحيوانات ليفترسوها، ويسيئون استخدام الجيف».
بنات آوى لا تخاف العرب، ومن سوء حظها أنها مطرودة من شعب كهذا. ومع أن الرجل القادم من الشمال لا يدعي رأياً في الأشياء التي تقع بعيدة عنه، إلا أن ما يبدو له هو «أن ثمة خصومة قديمة جداً تقع في الدم، وربما ستنتهي كذلك بالدم».
قرأ القصة قراء عرب عديدون قراءات مختلفة واختلفوا في تأويلها وتحديد مدلولاتها.
هل دال «بنات آوى» رمزي أم لا؟ ثم ما الذي جعل كافكا يختار العرب، دون غيرهم من الأمم والشعوب، ليكتب عنهم، هو الذي لم يزر فلسطين كما قيل ؟ وهل كان يؤمن بنظرية الدم هو الذي شنع في الكتابة عن والده، حين كتب رسالة إليه «رسالة إلى والدي» - علينا هنا أن نميز بين مؤلف القصة وراويها القادم من الشمال -، فكافكا اختار العزلة والوحدة، ولم يشارك في نشاط عام للحركة الصهيونية - علما أنه شهد بزوغ الحركة الصهيونية - بل وهو الذي كتب باللغة الألمانية، لا باللغة التشيكية، مع أنه من سكان براغ، أو اللغة العبرية، مع أنه ولد لعائلة يهودية في مرحلة بدء بعث اللغة العبرية؟
في العالم العربي كتب في موضوع كافكا، فيما يخص الجانب المشار إليه، الكثير، ولا يخفى على القراء كتاب بديعة أمين الدارسة العراقية «هل ينبغي إحراق كافكا؟» ولا يخفى على العرب الملمين بالألمانية ما كتبه الدارس السوري عبده عبود، في كتابه «تلقي الرواية الألمانية باللغة العربية»، عن الجدل في العالم العربي حول كافكا، بل ولا يخفى على قراء الرواية الألمانية المترجمة إلى العربية جهود مترجمين كثر لرواياته وقصصه وإعجابهم بها، وبلغ الأمر أن ترجمت رواية «التحول / المسخ» تسع ترجمات عن لغات مختلفة؛ الإنجليزية والفرنسية والألمانية والتشيكية.
فيما يلاحظه متابع المشهد السياسي في الدولة الإسرائيلية يلحظ المرء انعطافاً نحو اليمين المتطرف الذي يكره العرب ويدعو إلى طردهم من البلاد، ليس طرد أهل قطاع غزة وحسب، بل وطرد أهل الضفة الغربية وأكثر: طرد فلسطينيي المناطق المحتلة في العام ١٩٤٨، وآخر استطلاع أجرته إحدى الصحف العبرية ذهب إلى أن ٨٢ بالمائة من المصوتين يؤيدون طرد سكان قطاع غزة وأن ٥٦ بالمائة يوافقون على طرد فلسطينيي ١٩٤٨.
لماذا ذهب راوي قصة كافكا إلى أن العداوة في الدم؟
لا أظن أن العداء والكراهية، في أثناء كتابة كافكا قصته، كانت كما هي اليوم. اليوم على الرغم من كل ما جرى، منذ ١٩٤٨ حتى الآن، هناك ١٨بالمائة في المجتمع الإسرائيلي يصوتون ضد تهجير سكان غزة و٤٤ بالمائة ضد طرد فلسطينيي ١٩٤٨، ولو كانت العداوة بالدم - إذا ذهبنا إلى أن دال «بنات آوى» دال رمزي يرمز لليهود - لكانت النسبة ١٠٠ بالمائة.
ترى هل كان كافكا يتنبأ حين ورد في قصته، على لسان ابن آوى الكبير، الآتي:
«- أنت ذكي جداً، وهذا الذي تقوله يلائم تعاليمنا التاريخية! يعني نسحب منهم دمهم وتكون الخصومة قد انتهت»
قلت متوحشاً، كما أردت:
سوف يقاومون! وسوف ينقضون ببنادقهم عليكم ويرمونكم أسراباً بالرصاص»؟.
الحكاية طويلة.

***

86- روح المؤلف ونصه: "كوانتوم" لأحمد أبو سليم

«كوانتوم» 2018 هي الرواية الثالثة للكاتب الفلسطيني المقيم في الأردن أحمد أبو سليم، وهو شاعر وروائي نشط درس الفيزياء في الاتحاد السوفياتي سابقاً، والتحق بالمقاومة الفلسطينية وبعد خروجها من بيروت عاش في المنافي إلى أن استقر في الأردن في 1992.
تجري أحداث «كوانتوم» في القدس إثر نكبة العام 1948 ويتواصل زمنها الروائي إلى ما بعد اتفاقات «أوسلو»، والرواية يسردها غير سارد بأكثر من ضمير، وكما تتعدد الشخصيات تتعدد ضمائر السرد وتراوح بدرجة كبيرة بين الضميرين؛ الأول- أي الأنا، والثاني- أي الأنا / أنت، ولكن روح المؤلف أبداً حاضرة في الرواية كلها.
وتحضر فيها، كما في القدس، شخصيات عربية ويهودية، وتصلح نموذجا لدراسة مرايا الذات والآخر وفق منهج المرايا المتعاكسة.
يقدم الفلسطيني تصوره لنفسه ويقدم تصوره لليهودي، كما يقدم تصور اليهودي لذاته وتصوره للعربي، وغالباً ما يقرأ المرء، في الرواية، التصورات المعروفة لليهودي، ولكن من منظور قومي. إن بعض الشخصيات تعتنق الفكر القومي وتنتمي إلى حركة القوميين العرب، وعموما يقرأ المرء كلمة يهودي لا كلمة صهيوني. وهنا قد يعترض معترض ويقول إن القوميين العرب ميزوا في خطابهم بين اليهود العرب واليهود الغربيين، وهذا ما لا يبدو في الرواية، فعلى أي أساس ذهبت أنا إلى ما ذهبت إليه. إن هذا الجانب ربما يحتاج إلى وقفة طويلة في مكان آخر، فالرواية لا تخلو من موقف من يهودي شرير (جدعون) يدعو بعض اليهود الفلسطينيين إلى الوقوف في وجهه معا.
الأهم ربما من الكتابة عن مرايا الذات والآخر في الرواية هو كتابة أستاذ فيزياء فن الرواية، وكتابة رواية عن مكان صلة الكاتب به قائمة، ولكنها عابرة، فقد زار أبو سليم القدس زيارة قصيرة وكتب روايته عنها، وحين يقارن المرء ما كتبه عن القدس بما كتبه أبناء المدينة المقيمون عن مدينتهم، مثل عارف الحسيني وعزام توفيق أبو السعود، يلحظ الاختلاف واضحاً.
على أن الأهم مما سبق هو النقطة الأسبق، وهي كتابة أستاذ فيزياء الرواية.
هناك من المناهج النقدية منهج يؤمن بوحدة النص وكاتبه، ويرى أن النص يعبر عن روح كاتبه، وهذا المنهج هو المنهج الوضعي ومن أعلامه (سانت بيف) و(هيوبوليت تين) اللذان لا يفصلان بين الكاتب ونصه، ويريان أنه كما تكون الشجرة يكون ثمرها، فشجرة الإجاص، كما كتب إميل حبيبي، لا تثمر الباذنجان. وهكذا فإن روح أستاذ الفيزياء تحضر في نصه على الرغم من أنه هو شخصياً غير حاضر في روايته. إن شخوصه درسوا الفيزياء وكان لموضوع دراستهم حضور كبير شغل أذهانهم وشغل ذهني قارئاً معهم، بحيث صرت مثلهم مهووساً بعنوان الرواية «كوانتوم» وأخذت أتابع قراءة الرواية لأعرف مدلول العنوان، وهو لا يتضح تماماً إلا مع قراءة الأسطر الأخيرة. حقاً إنه كلما واصلت قراءة الرواية أخذ المعنى يتضح رويداً رويداً، إلا أنك ستظل تجد تأويلات له حتى في الصفحات الأخيرة. وربما بدا العنوان غير لافت غامضاً لا يشجع على القراءة ومنفراً أيضاً وذا مدلول علمي لا صلة له بعالم الأدب، ولولا أن الناشر كتب في أعلى لوحة الغلاف كلمة «رواية» لظننت أن الكتاب ليس رواية وليس عملاً أدبياً، فإن كنت متخصصاً بالفيزياء ظننت أنه كتاب فيزياء ليس إلا.
ولسوف تحضر كلمة كوانتوم في الرواية في مواطن كثيرة، ويعزز هذا الحضور المقولة النقدية التي ترى أن العلاقة بين العنوان والنص علاقة مستمرة ومتواصلة ولا تنتهي إلا مع انتهاء قراءة النص. إن آخر صفحة ورد فيها دال العنوان كانت صفحة 385، والرواية تقع في 388 صفحة. والقارئ وهو يقرأ هذا الدال وتعريفه يعود إلى لوحة الغلاف التي صممها الفنان العراقي عدي حاتم، وكما أخبرني أحمد فإنه أرسل المخطوط إلى الفنان فقرأه بدوره وصمم لوحة الغلاف بناء على ما فهمه «مطر شتوي أسود» وهذا المطر الشتوي الأسود هو ما يفكر فيه العلماء الإسرائيليون في المبنى «M» في الجامعة العبرية للتخلص من خصومهم.
كانت هند التي تحركها قوة خفية، بعد العام 1948، تقود المقاومين عبر الأنفاق في القدس، للتسلل لمقاومة العدو، ثم يلقى القبض عليهم فيقتلون وتخضع هند لتجارب تؤدي إلى عطب في شخصيتها، وينشغل أهلها بمعرفة ما جرى لها، وما جرى لها ليس بعيداً عن المبنى «M» وما يجري فيه.
هل في هذا الكون عوالم أخرى تشبه عالمنا؟
وهل في العوالم الأخرى نظائر لنا تكملنا وتشبهنا وتوحي لنا بما علينا أن نفعله ونسلكه؟ هل هي صورتنا؟ هل هي الأصل ونحن الصورة أم العكس؟
ومع أن تتبّع مدلول العنوان في الرواية يحتاج إلى كتابة خاصة، ومع أنه يربك القارئ لتعدده، ويجعله- أي القارئ- مثل أبطال الرواية مهووسا بالكوانتوم وهلوساته، إلا أن الرواية تبدو رواية مختلفة.
والحقيقة أن ما شدني شخصيا في الرواية هو أسئلتها وأسلوبها وقوة عبارتها. وأنا أقرؤها استحضرت لغة غسان كنفاني وأسئلته وقوة عبارته في «ما تبقى لكم». كما لو أنك وأنت تقرأ «كوانتوم» تواصل قراءة كنفاني حقاً، وفي الصفحات الأخيرة تستحضر الأنا/أنت في أشعار محمود درويش:
«أأنت يا ضيفي أنا» و»من أنا بعد ليل الغريبة» و»أنا أنت .. في كل أنا أنت».
يصدّر أحمد روايته بالعبارة الآتية لـ (ماكس بلانك):
«لا بد من تقديم تفسير نظري مهما بلغت التكلفة وبأي ثمن» ويحضر (ماكس بلانك) وعبارته في الرواية على لسان الشخصيات، وهي كما ذكرت، تختلف عن الكاتب، في الصفحات 233/289/330، وإن عنى هذا شيئاً فإنما يعني ما ذهبت إليه في عنوان المقال ومقدمته، وهو وحدة النص وكاتبه، فمن يستطيع أن يقرأ هذي الرواية بمعزل عن قراءة كاتبها؟ ومن يستطيع أن يكتب هذي الرواية سوى متخصص بالعلوم والفيزياء؟
في مقال لفيصل دراج عن الرواية الفلسطينية المعاصرة ذكر ثلاثة أسماء روائية هي عاطف أبو سيف وأكرم مسلم ووليد الشرفا، ولا أعرف إن كان دراج قرأ أبو سليم، وأعتقد أنه صوت روائي يستحق أن يشار إليه؛ لأسلوبه وقوة عبارته وغزارة أسئلته وعمقها، وإن ظل سؤال الكتابة عن مكان لم يتشربه الكاتب ولم يلم بدقائق تفاصيله يراودني شخصياً.

***

87- هوامش من وحي ما يجري في غزة: حزيران وحزيران، وأكتوبر وأكتوبر.

أرادت غزة أن تحذو بطوفان الأقصى حذو مصر وسورية في أكتوبر١٩٧٣، فبدأت هجومها في ٧ أكتوبر كأنه استمرار لـ ٦ أكتوبر ١٩٧٣ أو كأنه الفصل الثاني من فصول الحرب واليوم التالي له، وأرادت إسرائيل أن تنسى أكتوبر سيئ الذكر لها فاحتلت نابلس المحتلة منذ التاسع من حزيران ١٩٦٧ واختارت ١٠ حزيران ٢٠٢٥ ليكون اليوم التالي لحربها الأولى. كأنها ترد «حزيران ٢٠٢٥ عن حزيران ١٩٦٧ ما بفرق».
هكذا رفعت القوات الإسرائيلية التي اقتحمت المدينة، واستباحت بلدتها القديمة، علمها، وأحلته، هذه المرة، محل العلم الفلسطيني، خلافا للمرة الأولى حيث أحلته محل العلم الأردني.
أرادت إسرائيل المتورطة في رمال غزة، حيث فقدت في الأيام الأخيرة عددا من الجنود، أرادت انتصارا سهلا ينسيها حربها منذ ٦١٣ يوما.
هكذا رأى محللون فلسطينيون خطوة إسرائيل.
منذ أيام، أخذنا نتندر، حاسدين أنفسنا على الهدوء الذي نعيشه، رغم حصار المدينة وإغلاق بواباتها، ذاهبين إلى أننا في نابلس مسالمون، ذلك أن أصول بعض عائلات المدينة أصول يهودية. ولا أعرف إن كان الأدب العبري التفت إلى هذا، التفاته إلى البدو الفلسطينيين الذين رأى فيهم صورة للعبرانيين الأوائل الذين أسلموا.
هل ستلجأ إسرائيل إلى إجراء فحص DNA لسكان نابلس كلهم لتتأكد من أصولهم؟
فقدت المدينة اثنين من أبنائها، وأصيب أكثر من عشرين مواطنا.
وفقدت غزة ما يقارب المائة من أبنائها بحثوا عن أكياس الطحين، فاختلط طحينهم بدمهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
حصل الرجل على كيس طحين، فأصابته رصاصة لم تحل بينه وبين تمسكه بكيس طحينه حتى لو مات. صار الطحين، في غزة، إكسير الحياة، وكانت الطفلة الغزاوية ابنة الثانية تبكي تريد خبزا، وذهب الأب ليحضر، من بيته في الشجاعية، الطحين، ليطعم أبناءه وبناته السبعة وأمهم فارتقى وظل أبناؤه ينتظرونه. والصور القادمة من غزة لا تدخل إلى القلب إلا الوجع والألم والحسرة. «لم تكن غزة في يوم من الأيام كما هي الآن» كتب أستاذ جامعي، معلقا على مشهد أبناء قطاع غزة أمام مركز توزيع المساعدات.
الكتابة لا تغني عن أشرطة الفيديو التي تقول لنا أكثر وعليها اتكأت.
غزة حزينة ونابلس حزينة والطرقات في الضفة حزينة ونفسياتنا حزينة. صارت أحزاننا صحراوية مثل أحزان الكاتب الأردني المنتحر - بسبب هزيمة حزيران ١٩٦٧ - تيسير سبول وأكثر بآلاف المرات.
كما لو أننا في السادس من حزيران ١٩٦٧!
هل صارت غزة نسياً منسياً؟
وسائل التواصل الاجتماعي كلها، منذ فجر يوم الجمعة، منشغل نشطاؤها بالهجوم الإسرائيلي - الأميركي على إيران، وقلما ورد ذكر لما يجري في غزة، علما بأن موقع رام الله الإخباري نشر، قبل قليل، أن هناك غارات عنيفة على شمال القطاع، بخاصة جباليا.
الذهول والذهول فقط هو ما أصابني شخصيا، علما بأنني أتابع، بملل وضجر عجيبين، المنشورات، بحثا عن خبر معاكس. كأن ما ألم بـ»حزب الله» وبالدولة السورية تكرر اليوم في إيران، وكأننا نعيش أجواء حرب الأيام الستة - حزيران ١٩٦٧. لقد تحطمت الطائرات عند الفجر وحسمت المعركة في ست ساعات لتنتهي المعارك البرية في ستة أيام وتعرف تلك الحرب بحرب الأيام الستة.
في العام ٢٠١٦ كتبت «حزيران الذي لا ينتهي»، وعندما اجتاحت القوات الإسرائيلية في ١١/ ٦/ ٢٠٢٥ مدينة نابلس ربطت بين حزيران وحزيران وأكتوبر وأكتوبر. هل كنت متسرعا؟ فحزيران الذي تكرر هو ما وقع في الثالث عشر منه، لا في الحادي عشر. (كم أبدو بائسا، فأنا من مواليد الثالث عشر من حزيران!).
في تموز العام ١٩٨١، قصفت الطائرات الإسرائيلية المفاعل النووي العراقي - تموز، فسخر مواطن فلسطيني: أين الدفاعات الجوية التي تحمي المفاعل؟ ومما قاله إنه يمتلك عنزتين ويحرسهما جيدا. اليوم، حفلت تعليقات الناشطين بعبارات مشابهة: أين الدفاعات الجوية الإيرانية؟
غزة تجوع ويموت سكانها من قلة الطحين، وإن سعوا لإحضاره قنصهم القناصون الإسرائيليون، وأمس، ارتقى ما يقارب المائة مواطن غزاوي.
هل سترد إيران ردا مزلزلا؟
لست أدري!
كما لو أنني أعيش اليوم السابع من حزيران ١٩٦٧، علما بأن ما تلا اليوم السادس استمر واحدا وخمسين عاما وأكثر.
«طول عمرك يا زبيبة في (..) هالعودة» يقول مثلنا الشعبي.

***

88- هوامش من وحي ما يجري في غزة : " أنظر للناس يا الله "

في ٣٠ / ٥ / ٢٠٢٥ نشر شريط فيديو يظهر نزوح الغزاويين من جباليا البلد . ثمة رجل يجر عربة فيها بعض فرشات وألحفة ، وثمة امرأة ، تحمل على رأسها فرشة ، تردد " ما يشموا ريحة الجنان اللي كانوا السبب في هذه الحرب " . وثمة نسوة وأطفالهن يحملون أغراضهم . أكياس وجالونات وطناجر . وثمة شخص يجر دراجة/ بسكليت عليها أيضا أكياس ، وأما الأجواء فيملؤها غبار المباني من التفجيرات . رعب وصياح و .. والرجل الذي يحمل الفرشات والألحفة يخاطب الله بعبارة " أنظر للناس يا الله " ويكررها .
في صباح الأحد ١ / ٦ / ٢٠٢٥ ارتقى أكثر من خمسين فلسطينيا وجرح أكثر من مائتين ، ولم يختلف الأمر في يومي الاثنين والثلاثاء ٢ و ٣ حزيران ، فقد بلغ عدد المرتقين أكثر من مائة وتضاعف عدد الجرحى ، ولم يتوقف القتل في ٤ / ٦ فقد ارتقى حتى الظهيرة ٣٢ مواطنا ، وتواصل الحال في الأيام اللاحقة . ذهب آلاف الغزاويين إلى مركز توزيع المساعدات في رفح ، لاستلام الطحين ومواد أخرى ، فأطلق الجيش الإسرائيلي النار عليهم . جاء هؤلاء من الوسط والجنوب ، ومن الشمال أيضا ، يحدوهم الأمل بالحصول على ما يطعمهم ويطعم أبناءهم ، فتم حصدهم ، تماما كما حصد في ٢٩ / ١٠ / ١٩٥٦ أبناء قرية كفر قاسم ، وهم عائدون من الحقول إلى بيوتهم ، التزاما بنظام منع التجول الذي فرضته سلطات الحكم العسكري . يومها ارتقى خمسون قرويا ، وعندما حوكم الضابط ( شدمي ) ، الذي أصدر ، لجنوده ، أمر إطلاق النار ، أفرج عنه بغرامة مقدارها قرش عرف لاحقا بقرش شدمي .
وأنا أصغي إلى خبر وقوع ٢٥٠ ما بين شهيد وجريح وجدتني أكرر عبارات شبيهة بعبارة الرجل الغزاوي " أنظر للناس يا الله ! " ، والعبارة هذه كررها الروائيون والشعراء الفلسطينيون في كتاباتهم منذ الخروج الكبير في ١٩٤٨ .
قبل العودة إلى ما كرره الروائيون والشعراء أشير إلى أن الكاتب الغزي شجاع الصفدي الذي ما زال مقيما هناك ، كتب بتاريخ ٣ / ٦ تحت عنوان " كلمتين بالعامية # " عن نقاش حول صوابية كشف المساويء وانتقادها أم تغطيتها وعدم ذكرها ، وأتى على سوء ما وصل إليه الوضع الديني والأخلاقي والمجتمعي ، ومما كتبه :
" يا أخي الناس بتتباهى بالربا عندنا ، بينادي يلا ربا اللي بده ربا !! بنص الشارع !!
سب الذات الإلهية مثل كلمة مرحبا ، الكلام البذيء أمام الفتيات والنساء دون أي رادع أخلاقي ، البلطجة لغة التعامل ، احكي مع أي شخص إنه عيب هيك بيرد عليك رد لو لاحقته حتصير مذبحة!!".
والصحيح أن الموضوع لفت انتباهي وانتباه غيري منذ فترة أبكر .
في ٣١ / ١ / ٢٠٢٤ شاهدت شريط فيديو خاطب فيه طفل غزاوي ، فقد أباه ، الله :
- ليش يا الله ؟ ليش ؟
وفي ١٢ / ٨ / ٢٠٢٤ كتبت في يومياتي " أهل غزة والإيمان والذات الإلهية " متكئا على يوميات الدكتور خضر مححز ، وكان من مبعدي حركة المقاومة الإسلامية إلى مخيم مرج الزهور في العام ١٩٩٢ ، وهو روائي وناقد وأكاديمي ارتقى له في الحروب ابنان . كتب الدكتور عن آثار الحرب على السكان وأشار إلى ظاهرة ضيق قسم منهم وتذمرهم وتبرمهم ، لا من الأوضاع والبشر وحسب ، بل من الذات الإلهية ، وتساءل :
كيف سينصر الله هؤلاء في حربهم ؟
وقد عقبت على ما كتب :
- فلماذا لا يستسيغ كثيرون بعض عبارات محمود درويش في بعض قصائده ، وبعض أسطر غسان كنفاني في بعض قصصه القصيرة ، وفي رواياته مثل " رجال في الشمس " و" أرض البرتقال الحزين " ؟ .
صراخ الطفل الغزاوي ذكرني بالفقرة الآتية من قصة غسان " أرض البرتقال الحزين " :
" بل إنني أنا أيضا ، الطفل الذي نشأ في مدرسة دينية متعصبة ، كنت ساعتذاك أشك في أن هذا الله يسمع كل شيء .. ويرى كل شيء... " . تماما كما أن عبارة الرجل " أنظر إلى الناس يا الله " ذكرتني بحالة " أبو الخيزران " سائق الخزان في " رجال في الشمس " :
" يا إلهي العزيز العلي القدير ، كيف يمكن لقمة هضبة ما أن تعني كل هذه المشاعر التي تموج في شرايينه وتصب لهبها على جلده الملوث بالوحل عرقا مالحا ؟ يا إلهي العلي الذي لم تكن معي أبدا ، الذي لم تنظر إلي أبدا ، الذي لا أومن بك أبدا . أيمكن أن تكون هنا هذه المرة ؟ هذه المرة فقط ؟".
هل غابت أسطر محمود درويش اللافتة في قصيدته " مديح الظل العالي " ( ١٩٨٢ ) عن أذهاننا ونحن نتابع أخبار طوفان الأقصى ؟
قال الشاعر :
" وبيروت اختبار الله . جربناك جربناك
من أعطاك هذا اللغز ؟ من سماك ؟
من أعلاك فوق جراحنا ليراك ؟
فاظهر مثل عنقاء الرماد من الدمار ! " .
وقال :
" والله غمس باسمك البحري اسبوع الولادة واستراح إلى الأبد
كن أنت . كن حتى تكون !
لا .. لا أحد
يا خالقي في هذه الساعات من عدم تجل !"
هل سيتجلى الله مستجيبا لدعاءات أطفال غزة ونسائها وعواجبزها وأراملها ومظلوميها ومشوهيها و ...
في الحرب والظروف القاسية يخرج المرء عن إيمانه وقد لا يستطيع ضبط أعصابه ، وقد التفت إلى هذا الصحفي الغزاوي المؤمن الذي يخاطب أهل غزة عبر أشرطة الفيديو. محمود العمودي ، إذ وجه له أكثر من مواطن سؤالا شبيها بالسؤال الآتي :
- لماذا لا ينظر إلينا الله ؟ وأين نصره الذي وعد به عباده ؟

في الحرب قد يخرج المرء عن طوره .

( تاريخ الكتابة ٢ و ٣ و ١٢ / ٦ / ٢٠٢٥ )
( مقال الأحد لجريدة الأيام الفلسطينية ١٥ / ٦ / ٢٠٢٥ )
لم ينشر لحساسية موضوعه .
عادل الاسطة .

===

88- هوامش من وحي ما يجري في غزة : روح الفكاهة

في مساء السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ سادت في تعليقات الفلسطينيين في الأرض المحتلة روح الفكاهة، بل والسخرية أيضاً، فقد فاجأهم الحدث الذي لم يتخيلوا حدوثه حتى في أحلامهم.
يومها كتبت في يومياتي عن روح السخرية وأوردت بعض تعليقاتهم، ثم سرعان ما غابت هذه الروح، لتصدر عن أفواه بعض الجنود الإسرائيليين أو في كتاباتهم.
بدت على لسان المتحدث (أفيخاي درعي) وفي خربشات كتبها الجنود الإسرائيليون على جدران بقايا البيوت أو أسوار (فيللها) المهدمة، وأذكر أنني كتبت تحت عنوان «تحشيش غزاوي أم تحشيش يهودي؟» (١٠/ ٦/ ٢٠٢٤)
غالباً ما يروي الفلسطينيون المسلمون حديثاً يعزى إلى الرسول (ص) خلاصته أنه لن تقوم الساعة حتى يقتتل المسلمون واليهود غربي النهر. يختبئ اليهودي وراء حجر فيصرخ الحجر:
- يا مسلم ورائي يهودي فاقتله.
في الحرب في غزة حرف الجنود الإسرائيليون الحديث وجعلوه:
- يا يهود! لا تقوم الساعة حتى يقاتل اليهود الغزازوة ويصيح الحجر أو الشجر: يا يهودي يا عبد الله إذا رأيت الغزازوة فاقتلهم».
عندما قرأ المواطن الغزاوي ما كتبه الجنود الإسرائيليون خاطب صاحبه قائلاً:
- شوف اليهود شو كاتبين. وأخذ يضحك ويقول: الله يلعن الشيطان.
بعض قراء المنشور من المثقفين عزوا الحديث إلى تأثير الإسرائيليات في الثقافة الإسلامية.
مرات عديدة، وأنا أكتب عن الفكاهة في أدبياتنا، كنت أتوقف أمام ظاهرة شبه نادرة، دون أن يغيب عن ذهني ظهورها في أشعار إبراهيم طوقان ومقالات غسان كنفاني، لا رواياته وقصصه ومسرحياته - فهذه تخلو من السخرية وخفة الدم - وروايات إميل حبيبي، وقصص توفيق زياد «حال الدنيا»، وبعض كتابات رشاد أبو شاور ومحمود شقير، والأخير بعد العام ٢٠٠٣. لكن قليلاً ما بدت لي في عشرات الروايات والقصص القصيرة التي قرأتها.
وغالباً ما عزوت ذلك إلى طبيعة حياتنا وقسوة واقعنا وفهم كتابنا للكتابة الملتزمة الهادفة كأنها يجب أن تخلو من الهزل والدعابة والفكاهة، ويجب أن تتسم بالجدية والصرامة، وأحياناً إلى ابتعاد كتابنا عن حياة شعبنا الذي يحفل بنماذج إنسانية تتصف بخفة الدم والدعابة، بل والميل إلى السخرية.
في صباح ١٦/ ٦/ ٢٠٢٥ صحا أهل مدينة نابلس وعثروا، في شارع حلاوة، على حطام صاروخ احتاروا في أمره: أهو صاروخ إيراني أم صاروخ إسرائيلي اعترضه؟
وأنا أقرأ التعليقات لاحظت روح الفكاهة والمرح والدعابة التي غالباً ما تخلو منها أعمالنا الأدبية، ما جعلني أتساءل إن كان أدباؤنا يحيون حقاً بين الناس ويكتبون عن نماذج بشرية حية يرصدونها ويدرسونها ويتمثلونها، ثم يظهرونها في قصصهم ورواياتهم.
في التعليقات على صورة حطام الصاروخ قرأت الآتي:
١ - يمكن صاروخ اعتراضي/ لا. مبين إيراني من حجمه/ كبير الصاروخ. معه هوية.٢ - هذا جزء من الصاروخ بنفصل عن الرأس قبل ما يسقط الرأس. ٣ - مين إللي أسقطه أستاذ؟/ جوز عمتي أبو حامد/ ما شاء الله عنه. يسعد صباحك/ صباحووو المضادات خيي تحيط بنابلس من كل جانب.
٤ - المهم طلع ٧ مييييييتر ولا أكثر؟/ هيني رايح أقيسه/ أجيب لك متر. أما أسئلة بوجهولك إياها/ شوفو إذا ٧ متر بكون عماد أما إذا أكثر بكون رشاد.٥ - المهم أخدو يبيعو المنيوم ولا لا؟٦ - بسرعة على الكازيات معناته/ والله ما ينعز. مبارح حلبوهم وسكرو. ٧ - عنجد هي الشرطة عنا/ هههه/ الحمدلله على سلامتكم/ حبيبنا أستاذ تخفش لابسين طناجر تاعت الجبنة.٨ - اعملو نصب اوعكم تاعين الحديد ياخدوو. ٩ - يله يبيعوه حديد هي أجتهم رزقه. ههههه..١٠ - المهم ما يهجمو ع الكازيات. - بجيب معكم ١٠٠٠ دولار. ١١ - يي مكبرو.١٢ - منيح ما نزل ع حدا. ١٣ - يييييي مكبرو عااااامود.
وابن البيئة النابلسية يعرف مغزى العبارات التي لا تخلو من الدعابة وروح الفكاهة لقائلها.
هل يملك الصاروخ الذي وصف بكبر حجمه هوية تدل على ذلك؟
وحين يسأل شخص عمن أسقط الصاروخ يجيب المسؤول إجابة ساخرة لافتة لا تخلو من روح الفكاهة: زوج عمتي أبو حامد.
وإذ يسأل آخر إن كان طول الصاروخ حقاً سبعة أمتار يجيب المسؤول بروح الدعابة: سأحضر متراً أقيسه، فيرد عليه آخر ببداهة: أروح أجيب لك متراً. وتبدو السخرية لافتة حين يعرض أحدهم أخذ الصاروخ لبيعه لتجار الخردة، وكم سخر سكان قطاع غزة، وهم يشاهدون الدبابات المدمرة في الحرب، من زعم الإسرائيليين بأنها محصنة تحميهم.
لقد تصوروا مع حطامها وأخذوا ينادون عليها خردة للبيع، بل إن من نساء غزة من حولتها إلى منشر تنشر عليه الملابس التي غسلتها. بل إن بعض المعلقين من أبناء نابلس يسخر من سلوك سكان مدينته في الأزمات، فما إن يحدث حدث لافت حتى يهجموا على محطات البنزين ومحال المواد الغذائية ليشتروا ما فيها، وهذا ما حدث يومها حقاً، فقد شهدت نابلس إقبال أصحاب السيارات على المحطات وأحدثوا أزمة دفعت بقسم من أهل المدينة إلى جلد الذات وشتمها.
وانظر تعقيب أحدهم وما فيه من بلاغة «امبارح حلبوهم وسكرو» إذ شبه الكازية ببقرة تحلب حتى يجف ضرعها، بل وانظر بم أجاب مواطن عقب على سقوط الصاروخ: «امنيح ما سقط على راس واحد»: حبيبنا أستاذ تخفش لابسين طناجر تاعت الجبنة.
وغالباً ما تحفل التعليقات التي تكتب على منشور يخلو من روح السخرية والدعابة والفكاهة والتهكم غالباً ما تحفل بها، وهذا ما يدفعني شخصياً إلى قراءتها ولفت النظر إليها وإثارة السؤال عن ضآلة حضورها في أدبياتنا.

***

89- السرقات.. كأننا لا رحنا ولا جينا

في ٢١/ ٦/ ٢٠٢٥ نشر موقع «صوت رام الله والبيرة» الآتي:
«متداول: حدث في إحدى مدن الضفة الغربية:
(جيش داخلين على دار خالتي حاكيلها الضابط لمي كل ذهب والمصاري وخديهم معك عشان جنود ما يوخدو. رايحة لامة، وهي طالع ماخد الكيس وحاكيلها يسلمو اديكي ورايح)».
وفي ٢٥/ ٦ كتبت أم أيمن الصوص، من غزة، عن السرقات «يا فرحة ما تمت. أخذها الحرامي وطار: سرقة ٧٥ شاحنة مساعدات عند دوار بني سهيلا كانت مخصصة للمنطقة الوسطى. إنها حرب التجويع التي رسمها الاحتلال وينفذها لصوص المساعدات. وللأسف غداً ستجدهم في الأسواق يبيعوننا التموين المخصص لنا بأسعار فلكية!
هكذا سقطنا في امتحان الأخلاق وفي أحلك حالات التجويع التي أفرزتها حرب الإبادة».
وطالبت بالحماية من قريب لا يعرف معنى الشرف.
وفي الوقت نفسه كتب محمد العطار «الحرامية والعصابات عملوا خطة رهيبة!! سمحوا بدخول ٢٥ شاحنة وخلوا كل البلد تروح تؤمنهم وتصدق حالها وبعدها سرقوا الـ ٧٥ شاحنة اللي جايين بعدها!!
تأمين إيش هذا يا حاج».
البضاعة المسروقة تباع بأسعار فلكية، وهو ما قرأته في صفحة المحافظة الوسطى:
«علبة مختوم ٣٥٠ جرام بـ ١٠٠ شيكل. وقية قهوة بن زحيمان بـ ٣٠٠ شيكل. حبة السنكرز بـ ٤٥ شيكل . حبة البونتي بـ ٤٥ شيكل. علبة بسكويت نمبر ون بـ ٢٣ شيكل. وقية المشمش المجفف بـ ١٠٠ شيكل».
ما سبق يذكرنا بقصص وروايات وأخبار عاشها الفلسطينيون في نكبة ١٩٤٨ وبعدها، وأولها قصة غسان كنفاني القصيرة «القميص المسروق» المكتوبة في الكويت في ١٩٥٨، وفيها يصور معاناة اللاجئين في مخيم فلسطيني بسبب تأخير تسليمهم الطحين، ويكون عليهم أن ينتظروا عشرة أيام ليأكلوا، والسبب هو أن الموظف الأميركي وبعض الفلسطينيين يتاجرون به ليربحوا، وتتكرر قصة السرقة في قصة سميرة عزام «لأنه يحبهم».
في روايات كتبت في فترة لاحقة يعود زمنها الروائي إلى ١٩٤٨ نقرأ عن سرقات قام بها الإسرائيليون في فوضى تهجير الفلسطينيين، وهنا أشير إلى أربع هي: «الطريق إلى بئر سبع» للكاتبة (ايثيل مانين) و «١٩٤٨» للكاتب (يورام كانيوك) و»أولاد الغيتو: إسمي آدم» لإلياس خوري و «المتشائل» لإميل حبيبي.
في الأولى التي تأتي على احتلال اللد تجرد العصابات الصهيونية سكان البيت من ساعات معاصمهم وأقلام حبرهم وخواتم الزواج، ثم تطلب مجندة من صاحب البيت مفاتيح سيارته وتنطلق مع رفيقيها بها. (ص ١٤)
ما ورد في رواية (مانين) نقرأ ما يعززه في رواية «١٩٤٨» التي كتبت، في فترة متأخرة - تقريبا ٢٠١٠ - فـ (كانيوك) الذي شارك في الحرب في حينه، وكان فتى، يصف ما جرى في حي القطمون في القدس حين استولت العصابات الصهيونية عليه في طريق عودتنا شاهدنا سكان أورشليم يتهافتون للسلب والنهب. طفقنا نسير ونغني في الشوارع، وكان السكان غير المنشغلين بالسلب والنهب يصفقون لنا» (ص ١٨٥).
في «أولاد الغيتو: اسمي آدم» نقرأ بتفصيل أكثر، بل وبإطناب، عن سرقات في اللد؛ سرقات التي قامت بها العصابات الصهيونية ولصوص فلسطينيون عملوا معها وتحت أوامرها:
«روى ما رواه له الشاب الذي نسي اسمه، عن حفلة النهب التي تمت بقرار وإشراف من الجيش الإسرائيلي.
قال الشاب الذي نسينا اسمه عن مجموعته التي تألفت من خمسة أشخاص، وكانت مهمتها تنظيف المحال التجارية من محتوياتها .... كان علينا أن نملأ شاحنات الجيش الصغيرة بالمعلبات والحبوب والطحين والسكر والبن وكل شيء.... كنا نعلم أن الشاحنات تذهب إلى تل أبيب، وكنا نعمل مكرهين، وتحت ضغط الخوف. لكن بعد يومين من العمل بدأ كل شيء يتغير. دبت فينا الحماسة وأحسسنا بنشوة اللصوص. كنا نسرق بلا خوف، فالجيش يحمينا، وشعرنا بلذة النهب وتمتعنا بالعمل.
«تفو علينا كيف صرنا» قال مراد»(ص ٣٩٩).
في رواية حبيبي قصة تشبه ما نقله موقع «صوت رام الله والبيرة» ففي «حكاية الثريا التي رجعت تسف الثرى» نقرأ عن اللاجئة اللداوية التي زارت، بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧، بيتها لتبحث عن ذهبها الذي خبأته في الجدار، ولما كان لا بد من حضور الشرطة الإسرائيلية، فقد عثرت عليه بحضورها، ولما مدت يدها لتطول مصوغات عرسها «ناولها رجل القيم على «أراضي إسرائيل» شهادة بالذهب، وأخذ الذهب وذهب، وأما الثريا فأخذت «شهادة الذهب» وذهبت، عبر الجسور المفتوحة، راجعة لتسف الثرى في مخيم الوحدات...» (ص ١٣٩، ط ٧ حيفا ١٩٨٥).
هل اختلف الوضع، في غزة والضفة الغربية، بعد ٧ أكتوبر ٢٠٢٣؟
وهل كان المجتمع الإسرائيلي نفسه، في أثناء قصف مدينة تل أبيب، خالياً من ظاهرة السلب؟
لقد قرأنا عن مهاجمة قوات إسرائيلية محال صرافة ومجوهرات في حلحول ونابلس، وعن لصوص في تل أبيب نفسها. وأما أطرف ما تنوقل فهو أن بعض اليهود في تل أبيب يذهبون إلى المطاعم ليأكلوا، حتى إذا ما سمعوا صافرات الإنذار غادروا دون أن يحاسبوا على ثمن الطعام.

***

90- هواجس من وحي ما يجري في غزة:
لقد تعقدت الأمور كثيراً يا غسان كنفاني

لقد مرّ على استشهادك يا غسان ثلاثة وخمسون عاماً، خيضت خلالها حروب عديدة لم تسو الأمور. ألم يقل «سعيد. س» شخصية روايتك «عائد إلى حيفا» (1969) مخاطباً ابنه خلدون: تستطيعان البقاء مؤقتاً في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب؟!
لقد جرت مياه كثيرة في النهر، ولا أظن أن ما نشاهده يجري في غزة كان يخطر ببالك في أسوأ كوابيس حياتك، أنت الذي شهد النكبة الأولى واستلهمها في قصصه القصيرة ورواياته ودرسها في كتبه، بل وغاص في أدبيات الطرف الآخر، أعني الصهيوني.
نعم لقد جرت مياه كثيرة وتعقدت الأمور، وإن كنت قاربت قسماً منها.
نعم لقد كتبت عن الفقد وكتبت عن الدفن في المقابر. كتبت عن الفقد في روايتك المذكورة، حيث فقد الوالدان «سعيد. س» وزوجته صفية ابنهما خلدون، وصار، بعد أن ربته عائلة يهودية، «دوف»، ليقاتل في قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي، وكتبت عن الدفن في المقابر من خلال كذبة طفلك الصغير في قصة «كعك على الرصيف»، حيث أخبرك أنه عانى لدفن أمه. ألم يخاطبك حين قلت له: «أيها الكذاب.. أنت تعيش مع أمك.. أليس كذلك أيها الكذاب؟».
ألم يخاطبك قائلاً: «كلا يا أستاذ.. كلا.. إن أمي ميتة ولكنني لا أستطيع أن أقول... فحينما ماتت أمي طلب والدي منّا أن لا نقول شيئاً عن موتها.. أن نصمت».
- لماذا؟
- «لم يكن يملك أجرة الدفن.. وكان خائفاً من الحكومة» (ا.ك صفحة 96).
هل كنت تتخيل يا غسان، في أسوأ كوابيسك، أن تقرأ، عن الفقدان وعن الدفن، الآتي: عائلات بأكملها تباد، منها عائلة الشاعر ابن يافا سليم النفار.. عائلات لم ينجُ منها إلا فرد أو فردان، ومنها عائلة الدكتورة آلاء النجار التي فقدت زوجها وثمانية من أبنائها، ولم ينجُ إلا هي وابنها آدم.. عائلات فقدت أبناءها الأربعة دفعة واحدة ولم تستخرج جثثها إلا بعد ثلاثة أشهر، وهنا أخص الشاعرة د. آلاء القطراوي.
أصغ إليّ إن كنت تستطيع، أو اقرأ ما سأكتبه نقلاً عما ورد في صفحات أبناء قطاع غزة في هذه الأيام.
في الثلاثين من حزيران قصفت القوات الإسرائيلية مقهى الباقة على شاطئ البحر، فارتقى ثلاثون فرداً وأكثر.
لقد قتلوا، كما كتب ناهض زقوت، دون ذنب ودون هدف، لكي يصبحوا في محرقة غزة أرقاماً ضمن تعداد وزارة الصحة، ولكي تصبح المشكلة، الآن، كيف يمكن أن توجد لكل هؤلاء قبور لدفنهم في أزمة عدم وجود قبور؛ قبور ارتفع ثمن الواحد منها من 700 إلى 1200 شيكل، أي من 200 دولار إلى 360 دولاراً.
وفي اليوم نفسه قرأت في صفحة الناشطة الفيسبوكية ميسون كحيل الآتي: تمّ التعرف على رفات جثة متحللة للشاب حسام البردويل، حيث فقدت آثاره منذ عام ونصف، وعثر عليه مواطن داخل أرضه في منطقة البيدر غرب نيتساريم وسط غزة.. تعرّفت عليه والدته من ملابسه التي كان يرتديها في آخر مرة خرج فيها من منزله».
ميسون نفسها كانت نشرت تطلب المساعدة في العثور على أخيها ماهر، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة. لقد فقد في 15 أيار 2024، بعد خروجه من منطقة قيزان النجار في خان يونس، ولم يتم العثور عليه، فأعادت نشر الإعلان عن الفقد في الثاني من تموز 2025.
ولم يختلف حال الدكتورة حكمت عليان المصري التي أدرجت في صفحتها خبر اختفاء أختها أم محمد، وعدتها في عداد المفقودين.
وفي اليوم المشار إليه الذي ارتقى فيه الثلاثون، في مقهى الباقة على الشاطئ، شاهدت شريط فيديو أدرجته مريم أبو دقة يتحدث فيه رجل عن أزمة المقابر في غزة في هذه الحرب. لا حجارة ولا بلاط ولا قبور، والجثث تعاد إلى ثلاجات المشافي لعدم وجود القبور.
ماذا أكتب لك يا غسان عن الذين دفنت، وهم على قيد الحياة، بعض أعضائهم، فصاروا بلا أيد أو بلا أرجل، وربما بلا أيد ولا أرجل.
ثمة ما لا يقال عن 160 ألف جريح في هذه الحرب، لا جريح واحد كما في قصتك «ورقة من غزة»، فعن أي من هؤلاء كنت ستكتب لو امتد بك العمر، وعشت تجربة الحرب هذه؟!
بعد صدور روايتك المذكورة التي قال فيها «سعيد. س» عبارته الواردة في بداية هذه الكتابة، حدثت حروب وحروب، وما زالوا في بيوتنا في حيفا ويافا، وفي الحرب هذه قاتل أكثر من «دوف» في جيش الاحتلال وماتوا هناك في غزة، وفي الحرب هذه أقام أمثال «دوف» في صحراء النقب استراحات لجنود جيش الاحتلال الإسرائيلي يستريحون فيها حين يعودون من خوض المعارك في قطاع غزة.
وليس هذا يا غسان بجديد، فهو يتردد منذ بدأت الحرب في 7 أكتوبر 2023.
لقد تعقدت الأمور كثيراً، وأكثر مما كان يخطر على بال أحد.

***

91- هواجس من وحي ما يجري في غزة.. تــلامــيــذ غــزة وأطــفــالــهــا

في انتفاضة ١٩٨٧ كتب نزار قباني قصيدته «يا تلاميذ غزة» وطلب منهم فيها أن يعلموا العرب بعض ما عندهم من رجولة، فالرجال في العالم العربي صاروا عجينا، وأن يعلموهم كيف الحجارة تغدو، بين أيديهم، ماسا ثمينا وأن يعلموهم:
«كيف تغدو دراجة الطفل لغما وشريط الحرير كمينا، وكيف تحولت مصاصة الحليب سكينا.
وألا يبالوا بإذاعات العرب وألا يسمعوها.
وبإيجاز، مدح الشاعر تلاميذ غزة ووسمهم بالبطولة وواصل جلد الذات القومية، فالعرب يتسمون بالحساب والجمع والطرح. إنهم الهاربون من خدمة الجيش، لهذا يستحقون الشنق. إنهم موتى لا يملكون ضريحا، ويتامى لا يملكون عيونا، لزموا جحورهم وطلبوا من تلاميذ غزة أن يقاتلوا التنينا. لقد صغروا أمام تلاميذ غزة ألف قرن:
«لا تعودوا إلى كتاباتنا ولا تقرأونا/ نحن آباؤكم فلا تشبهونا/ نحن أصنامكم فلا تعبدونا/ نتعاطى القات السياسي والقمع/ ونبني مقابرا أو سجونا/ حررونا من عقدة الخوف فينا/ واطردوا من رؤوسنا الأفيونا».. الخ.
نقرأ نثرا قريبا في نغمته من شعر نزار في كتابة الأردني عبد الهادي راجي المجالي، فقد خاطب في غير مقال غزة وسكانها ومقاتليها، وآخر مقال له عنوانه «المذهب التفجيري»، وفيه يطلب من الشاب المقاتل الغزي الذي فجر دبابة أن يعلمه مذهبه الذي سماه المذهب التفجيري «أنا على مذهبك يا شيخي.. فاعقد درسك من اليوم على بقايا دباباتهم وعلمنا أن نكتب تعاليمك على عبوات (ال شو اظ) ووصاياك يا إمامي وشيخي سندونها (بال ي ا سين 105) ..».
ثمة صورة أسطورية تبرزها القصيدة والمقالة، وهي صورة ليست بعيدة عن المخيلة الشعبية الفلسطينية والعربية؛ صورة يسمعها المرء حين يكون في حافلة عامة.
قبل شهرين، صعدت حافلة عمومية أقلت معلمة حكومية اشترت سجادة، وتمكنت من ذلك لاستلامها جزءا من راتبها. كانت الموظفة تتجاذب والسائق أطراف الحديث، وقد أتت على مهنتها معلمة للغة الإنجليزية وما تفعله مع تلاميذ غزة. ثمنت قدرتهم على الاستيعاب عاليا وقللت من قدرة تلاميذ مدرستها. قالت، إنها تعلم ألفي تلميذ غزاوي تعليما إلكترونيا وكلهم يتفاعلون معها. لقد أبرزت لهم صورة أسطورية يحذرنا منها بعض كتاب غزة، بل إننا حين نشاهد بعض أشرطة الفيديو التي يظهر فيها الأطفال جائعين منهكين باكين آباءهم أو أمهاتهم الذين قتلهم جيش الاحتلال الإسرائيلي نعرف أن أطفال غزة أطفال عاديون يفرحون ويحزنون ويتأثرون بالظروف التي يمرون بها؛ سلبا أو إيجابا. إن جاعوا صرخوا يريدون الرغيف وإن عطشوا بكوا يسألون عن الماء، وإن فقدوا آباءهم أو أمهاتهم جلسوا قرب الجسد المسجى يذرفون الدموع ويناشدون الأب أو الأم بأن يعودوا لهم، فهم لا يقوون على مواجهة الحياة بلا والدين. حقا، إن الطفل فيصل الخالدي الذي قتل الجنود أمه الحامل وأباه، داخل بيتهم أمام عينه، بدا طفلا أسطورة، فتكلم عما شاهد برباطة جأش، فأذهل كل من شاهده وأصغى إليه، لكنه لم يكن صورة لأطفال غزة كلهم، فهناك العشرات غيره لم يظهروا، حين فقدوا أحد والديهم، متماسكين مثله. لقد بكوا، بل وأجهشوا بالبكاء، وحين جاعوا صرخوا: «بدي خبز. بدي آكل»، ولم تفلح أمهاتهم بالضحك عليهم تصبرهم وهي تطبخ لهم اللاشيء كتمثيلية عساهم ينامون.
من أبرز الصور صورة طفلة برجل واحدة تقف وبيدها عكاز على شاطئ البحر. هذه الطفلة سألت الطبيب ببراءة:
- دكتور متى ستنبت لي قدمي؟
وكما أن الأطفال ليسوا أسطوريين فإن آباءهم وأمهاتهم لم يكونوا أيضا كذلك. لقد بكوا أبناءهم وبناتهم وعبروا عن حسرتهم جراء الفقد. هل ننسى صرخة والدة الطفل يوسف أبو شعر كيرلي؟ هل ننسى عبارة والد حسن الذي غنى «اشهد يا عالم علينا وهدموا بيوت»:
- كسرت ظهري يا حسن.
حقا، إن الذاكرة تحفل بقصص مشابهة، مثل قصة الطفلة هدى أبو غالية، التي فقدت أسرتها على شط البحر بالكامل، وفيها كتب محمود درويش «الفتاة/ الصرخة»، وفي الحرب هذه سنقرأ عن الطفلة هلا أبو دهليز (١٢ عاما) التي كانت تتأرجح قرب خيمة نزوحها، حين باغتتها غارة إسرائيلية دمرت ما تبقى من طفولتها. سقطت الأرجوحة فوقها، فمزقت فروة رأسها بالكامل، واقتلعت شعرها من الجذور تاركة جراحا لا تشفى في الجسد وفي الروح. في إحدى الصور، تمسك بخصلة شعرها، كأنها تتمسك بما تبقى من ماضيها، وفي أخرى تنظر بحزن إلى صورتها قبل الإصابة، وثمة صورة لها بعد الإصابة، ولا تزال رهينة الحصار، عاجزة عن مغادرة غزة لتلقي العلاج (عن صفحة أحمد نصر).
وفي صفحة سماح نصار، تدرج صورة أحمد الحناوي مع طفلتيه وتكتب «عائلة شهيدة. شاب في بداية الثلاثينيات من عمره وطفلتان بملابس أنيقة والصحة بادية عليهما... جمال لافت».
في صفحة أحمد نصر شريط فيديو لغزاوي ارتقى وهو يبحث عن طحين. حول جثته طفله ابن السابعة يبكيه: بابا بابا.. يا عمي وين بابا.. أمانة.. .
وماذا عن تلاميذ غزة، الآن؟
إنهم منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ بلا مدارس يهيمون في الشوارع أو يقتلون وهم في الخيام.
حالة تعبانة.

***



===============
85- هوامش من وحي ما يجري في غزة: (فرانز كافكا) والحرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى