أدب السيرة الذاتية مهدي نصير - مدارات البوح...

لم تكن طفولتي سعيدةً ولم تكن أيضاً شقيةً ، بل كانت مزيجاً منهما .
ولدتُ في الزرقاء عام ١٩٦٠ لأبوين فلاحين بسيطين وشبهِ أميين من قرية الحصن شمال الأردن , سمَّاني أبي " مهدي " ثانيةً بعد رحيل شقيقي الأول والأكبر مهدي الأول وهو طفل وعمره شهور قليلة ، هذا الإصرار على هذا الاسم كان تمجيداً واحتراما لأمّه " الحاجة السنوسية " كما عُرفت في شمال الأردن وهي المغتربة القادمة من بنغازي في ليبيا ليتزوجها جدِّي عقلة باشا نصير بعد استشهاد زوجها الأول نجيب السعد العلي البطاينة عام 1914 في معركة الزاوية في ليبيا في قتاله كضابطٍ في الجيش العثماني ضد الطليان ، واحتراماً وتبجيلاً أيضاً لقصص بطولة خاله الشهيد مهدي عبد القادر كويدير السنوسي الذي استشهد عام ١٩١٢ في حرب المقاومة الليبية ضدَّ المستعمرين الطليان ، في هذا المناخ المليء بالحكايات والأساطير العائلية والشِّعر الذي علمتني اياه جدَّتي السنوسية والتي كنت أسمع منها وأنا طفل إيقاعاتٍ لكلامٍ مبهمٍ حزين كنتُ أحسُّه بصوتها ولا أفهم كلماته , من هذا المناخ المُشبع بالحكايات شربتُ .
في الزرقاء نشأتُ ودرستُ وكوَّنتُ أولى صداقاتي وقرأت أول الكتب , تلك الكنوز التي سحرتني وكنت أستعيرها من مكتبةٍ صغيرةٍ في الغويرية القديمة كان يملكها رجلٌ كبيرٌ ومثقفٌ وإنسان ، كان هذا الرجل وهذه المكتبة الصغيرة نافذتي الأولى على الكتاب حيث قرأت تلك الايام قصص تغريبة بني هلال وسيف بن ذي يزن والزير سالم وغيرها الكثير ، في المدرسة الإعدادية انفتحت أمامي مكتبة مدرسة المهلب بن أبي صفرة القديمة وبدأتُ أقرأ العقاد وطه حسين والرافعي وإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وجبران واحمد شوقي ووو ، وبدأتُ أشترك في مسابقات أوائل المطالعين التي كانت تعقدها وزارة التربية والتعليم على مستوى المملكة , وتعرفت فيها على أصدقاء ما زال لهم في ذاكرتي مكانٌ عالٍ منهم : الدكتور مصطفى دعاس الذي كان شاعراً بالفطرة وقارئاً نهماً ، كذلك كان الدكتور غسان عبد الخالق والفنان التشكيلي حسين دعسة اللذين تعرفت عليهما في مكتبة بلدية الزرقاء التي أنشأنا : مصطفى دعاس وحسين دعسة وانا لجنةً ثقافية ومجلة حائط فيها والتي كان أمينها في تلك الفترة الاستاذ شمس الدين الشيشاني الذي أعطانا كل الدعم الأبوي في هذه اللجنة .
في عام 1975 اكتشفت نادي أسرة القلم الثقافي وانتميتُ له وانا في الصف الاول ثانوي اي العاشر حالياً وهناك تعرفت على أساتذةٍ كبارٍ في الشِّعر والنقد والقصة القصيرة والرواية , في هذا النادي عرفت وتتلمذت وجادلتُ سميح الشريف ومحمد القيسي وعبد الله رضوان وأمجد ناصر وعاهد شاكر يرحمهم الله , وتعرفتُ وصادقتُ يوسف ضمرة ومحمد ابراهيم لافي والراحل عدنان علي خالد ونزار حسين ومأمون الحسن , كانت هذه الأسماء نجوماً في الساحة الثقافية الأردنية تتلمذتُ على الجلوس أمامهم ومعهم والاستماع لحواراتهم وكنتُ أتجرأ أحياناً فأقرأ بعض ما أكتب من شعرٍ عموديٍّ على مسامعهم , كان للراحل عبد الله رضوان بروحه المليئة بالشِّعر والثقافة والمحبة دورٌ كبيرٌ في تجربتي الشعرية , فقد أقام لي أول أمسيةٍ شعريةٍ بنادي أسرة القلم الثقافي عام 1977 , ونشر لي أول قصيدةٍ بمجلة نادي خريجي الجامعة الأردنية التي حملت إسم " أبعاد " عام 1984 , ونشر لي أول ديوان شعرٍ " أساطير " عام 2005 عندما كان مديراً للدائرة الثقافية بأمانة عمَّان الكبرى .
في الجامعة الأردنية درستُ الهندسة المدنية وأخذتني السياسةُ والشِّعر والفلسفة في مداراتٍ شتى دفعتني لقراءة الماركسية بعمقٍ وشغفٍ وانتميت لها - وما زلتُ - فكراً يداعب احلامَ فقرنا وهزائمنا وبحثنا عن خلاصٍ يُعيد لنا الثقة بمستقبلٍ أفضل لأمتنا ولقضيتنا الكبرى " قضية فلسطين وكيف نواجه المشروع الاستيطاني الصهيوني في بلادنا " وأخذتنا في هذا الحلم الأحزاب والتنظيمات الماركسية في مساراتها الشائكة والملتبسة والوعرة .
في الجامعة الأردنية قرأتُ بنهمٍ شديدٍ الثقافة اليسارية الماركسية العالمية المُترجمة من شِعرٍ وروايةٍ وفلسفةٍ , قرأتُ بابلو نيرودا وسوناتاته وجورجي أمادو ورواياته وبرخت ومسرحياته وسارتر ووجوديته الماركسية وروزا لوكسمبورغ وأحلامها وايتماتوف وحمزاتوف وقفقاسياتهم الماركسية ووو , كان يتخلل هذه المرحلة قراءاتٌ للرواية العربية والشِّعر العربي الحديث جبرا ابراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف ويوسف القعيد وصنع الله ابراهيم وسليم بركات ومحمود درويش وأدونيس وغيرهم , أوغلتُ في هذا الإغتراب الثقافي الذي أسر وسحر جيلي من الشباب في تلك السنوات البعيدة , وفي هذه المرحلة الثرية تعرفتُ من خلال أصدقاء يساريين وماركسيين على مساهمات مهدي عامل وقراءاته العميقة للواقع العربي واللبناني وانغلاقاتهما وتعرفت إلى النزعات المادية في التاريخ الإسلامي للعلاَّمة حسين مروَّة , ثمَّ قرأتُ جلال صادق العظم وسمير أمين وقراءاتهم الماركسية العميقة , هذه القراءات فتحت أمامي مناخاً جديداً وأصيلاً وثرياً تعرفتُ به على ثقافتنا العربية وعرفتُ أن هذه الثقافة لم تكن في تاريخها بعيدةً عن البحث عن التحرر وكسر الانغلاق والتحجر الذي أصاب ثقافتنا العربية , عرفتُ وقرأتُ المعتزلة والأشاعرة والقرامطة وفلسفات الكندي والفارابي والغزالي وصولاً لإبن رشد وابن خلدون ومساهماتهم العظيمة في البحث عن أفقٍ للثقافة العربية التي كانت تفترب في نهايات القرن الحادي عشر من طريقٍ مغلقٍ ما زال حتى الآن مغلقاً فكرياً واجتماعياً وسياسياً وما زلنا نسأل السؤالَ ذاته الذي طرحه أجدادُنا دونَ أملٍ في كسر هذا الجمود الذي ما زال يقودنا نحو الهاوية .
وفاة والدي يرحمه الله عام 1984 وقبل شهور قليلة من تخرجي مهندساً مدنياً والالتزامات التي فرضها عليَّ هذا الرحيل المبكر غيَّر كثيراً من اتجاه حركتي واهتماماتي واتجهتُ للعمل الهندسي الذي أخذني لفترةٍ طويلةٍ إلى مساراته فعملتُ مهندساً منفذاً ومصمماً في الأردن والخليج العربي لسنواتٍ طويلةٍ , في هذه الانحناءة الإجبارية كانت الغربة الهندسية في الخليج العربي فرصةً كبيرةً لي لاستعادة اهتماماتي فقرأتُ بشغفٍ وعمقٍ كثيراً من كتب التراث التأسيسية وكتبتُ عن كثيرٍ من هذه القرءات في النافذة التي أتاحها لي الشاعر الراحل أمجد ناصر في صحيفة القدس العربي حتى خروجه منها نهايات عام 2013 وأتاحتها لي الصحف والمجلات الثقافية الأردنية والعربية .
في رحلتي هذه أصدرتُ سبعَ مجموعاتٍ شِعريةٍ وكتاباً نقدياً واحداً ونشرتُ مئات المقالات النقدية والثقافية في الصحف والمجلات الثقافية الأردنية والعربية .
شغفي العميق كان وما زال هو القراءة وخصوصاً القراءة المتعلقة بتراثنا الثقافي الفكري والفلسفي والفقهي والسياسي الذي منحني يقيناً جدلياً وليس يقيناً عقائدياً ساكناً بأنَّ جذورَنا الثقافية هي جذورٌ عميقةٌ وقادرةٌ على مقاومة هذه الهجمة الإمبريالية الغربية على مجتمعاتنا العربية وقادرةٌ على دحر رأس حربتها هذا الكيان المسخ التوراتي الصهيوني الخارج من أساطيرَ دمويةٍ راكمتها هذه السردية المتوحشة وعزَّزتها ووظفتها مراكز البحث الإستشراقية والتوراتية في مشروع الغرب العرقي الدموي للسيطرة على العالم كلِّه واستعباده .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى