أحمد رجب شلتوت - "ذاكرة الوصال".. سيرة أنثوية في الحياة والفن

الكتابة من نافذة السيرة أمر بالغ الأهمية لما يخلقه من نصوص تتمازج فيها الذات مع الآخر والأزمنة والأمكنة والمشاعر والأفكار والواقع والخيال وغيرها، ويمنح ذلك مساحة أدبية فريدة من نوعها، تقدم العوالم بصدق وتمنح لكل كلمة مشاعر متحركة، ولكل فكرة قوة ولكل ذكرى حميمية. وهكذا كان كتاب "ذاكرة الوصال: سيرة متأملة في الحياة والفن".
تقدم الدكتورة لنا عبدالرحمن في كتابها الأحدث “ذاكرة الوصال: سيرة متأملة في الحياة والفن” (دار العين بالقاهرة، 2024) عملا سرديا متشظٍيا ومتماسكا في ذات الوقت. يتكوّن الكتاب من مجموعة من الفصول القصيرة، التي قد تبدو غير مترابطة، لكنها تشكل لوحات فسيفسائية تتراكب لتقدم بورتريها نفسيا وفنيا لكاتبة تعيش في عالم الأشياء الصغيرة التي تصنع المغزى الكبير، حيث تمسك الكاتبة بخيط رائحة، أو بنسمة موسيقية، أو بصورة عابرة في فيلم، لتدخل من خلالها إلى حقل أوسع من التداعي والكتابة.
والكتاب يقع عند تخوم الأنواع الأدبية، بحيث يمكن تسميته بـ”السيرة المتخيّلة” إذ يحفر في تفاصيل الحياة الخاصة ليربطها بجماليات الحياة العامة. والكتاب -كما تقول المقدمة- هو محاولة للوصل، ليس فقط مع الماضي، بل مع الذات، مع الأماكن، مع الروائح، مع العاشقين والكتب والموسيقى والغرف والرسائل التي لم تصل. سيرة متأملة في الحياة والفن، كما يرد في العنوان الفرعي، لكن التأمل هنا لا يأتي من برج عاجي، بل ينبعث من شرفة مطبخ، أو وردة، أو كوب شاي في يد أم.
الجسد وحواسه
لا تسرد عبدالرحمن حياتها بترتيب زمني، ولا تستند إلى منطق السيرة الخطّي المتعارف عليه. بل تعمد إلى تفكيك الحدود بين الزمان والمكان، وبين الخاص والعام، وبين المتخيل والواقعي. لذا تقول الكاتبة “الكتابة وحدها، الخيالات جزء من الحقيقة، والحقيقة ليست إلّا خيالات، لذا أستمرّ في الكتابة.” هذا التكسير المتعمد للبنية التقليدية للسيرة يعبّر عن رؤية كاتبة تنظر إلى الزمن باعتباره مادة للتأمل لا للتوثيق، وإلى الحياة بوصفها تجربة حسية أكثر من كونها أحداثا متتالية.
“ذاكرة الوصال” عنوان مزدوج الإيحاءات، إذ يحيل إلى صلة داخلية (بين الذات وأزمنتها المختلفة) وأخرى خارجية (بين الذات والعالم/ الآخر/ الفن). الذاكرة هنا ليست مجرد خزان للصور، بل أداة تواصل: وصال مع الذات القديمة، ومع الآخرين الذين عبروا الحياة، ومع الموسيقى، والرائحة، والمكان، والكتابة نفسها. وتظهر الكاتبة قدرة لافتة على تحويل التفاصيل الحياتية البسيطة إلى تأملات شعرية وفلسفية. فتكتب عن الغاردينيا ورسائل البريد ورائحة القهوة والمشي والطعام والأغاني والكتب والأفلام كأنها تكتب عن جوهر الحياة. في كل مرة تعيد الكاتبة صياغة الذكرى ليس بوصفها وثيقة زمنية، بل بوصفها فعل خلق أدبي وجمالي.
يحضر الجسد كمرآة للذاكرة، لا باعتباره مركزا للهوية النسوية فقط، بل كوسيط تعبيري للحضور في العالم. فالعين تسمع، والأذن تعشق، والرائحة توقظ مدنا نائمة في الذاكرة. حين تتأمل المؤلفة تأثير الرسائل الورقية مثلا، فهي لا تكتفي بالحنين إلى زمن مضى، بل تكشف كيف أن الرسائل كانت تنطوي على طيف واسع من الحضور الجسدي والوجداني: لمسة الورق، رائحة الحبر، رجفة الانتظار، دمعة تتساقط على سطر أخير.
والذاكرة هنا حسية، تتجلى من خلال الغاردينيا، والصنوبر، ورائحة الطعام، تكتب الكاتبة سيرة عطرية للزمن. تتلمس الذكرى بالرائحة، وتحلل المكان بجماليات الشم، ولا تظهر الذاكرة كحنين فقط، بل كوسيلة لإعادة بناء الذات من خلال الكتابة. والكثير من المشاهد تبدأ من لحظة استعادة، وتتحول إلى لحظة خلق. ويبرز الحس الأنثوي الرهيف، ليس بوصفه موقفا بيولوجيا، بل كمنظور إنساني- جمالي يرى في كل شيء إمكانية للفقد والتأمل والاستعادة.
أما اللغة فحميمة، شاعرية، لكنها أيضا دقيقة ومشحونة بتجارب ثقافية وفنية، تتراوح بين الدفء العاطفي والنضج الفكري، وفي الكثير من الأحيان تتشظى الجملة فتبدو كأنها تهمس، أو تحلم. ما يجعل القارئ أقرب إلى أن يشعر بالنص أكثر من أن “يقرأه” بالمعنى التقليدي. وهنا نشير إلى قول الكاتبة عن لغة الحواس “إنها اللغة التي تمكّن الإنسان من الاستمتاع بكمية قليلة من الطعام، لأنها تنبهه إلى يقظة حواس روحه مع كل لقمة ومع كل رشفة قهوة.”
[HEADING=2]ضد النسيان والهشاشة[/HEADING]
في كل مرة تعيد الكاتبة في سيرتها صياغة الذكرى ليس بوصفها وثيقة زمنية، بل بوصفها فعل خلق أدبي وجمالي
لا تقارب الكاتبة فعل الكتابة بوصفه مهنة أو ممارسة عقلية فحسب، بل كطقس داخلي، شبيه بالطهي كما تقول، يحتاج إلى خيال وتوق للتجريب. تكتب عن الكاتبات اللواتي أثرن في تجربتها، من إيزابيل الليندي إلى مارغريت دوراس، كما تستدعي تجارب نسوية في السيرة، سواء أكانت مباشرة كما في نوال السعداوي ورضوى عاشور، أو متوارية كما في ميرال الطحاوي، لتقول إن السيرة يمكن أن تُكتب أيضا من بين السطور، وفي المقابل لا تنشغل بالاعترافات بل تفضّل الإيماء والتلميح. فمثلا حين تتحدث عن تهجيرها في طفولتها إبان العدوان على لبنان، فإنها لا تستفيض في الألم، بل تمرّ به عبر حساسية الطفلة التي لم تفهم منطق الحرب ولكنها أدركت فجأة معنى الفقد.
وهناك فصول كاملة تكتب فيها عن العلاقة بين الأمومة والمطبخ، كما في نصوصها عن الهيل، والشاي، والمشروبات، والغذاء كرمز للحب والغياب، كذلك تفرد فصولا للحديث عن رسائل الحب في الأدب والحياة، وتستعيد سيرة الرسائل الغرامية في “الحب في زمن الكوليرا”، و”بريد الليل”، ورسائل جبران ومي زيادة، وغسان كنفاني وغادة السمان، لتعيدنا إلى زمن المشاعر الورقية في مقابل زمن “الإيموجي” الذي اغتال حرارة الكتابة، وكيف تحوّل العشق إلى محادثات مبتسرة عبر الهاتف. وهنا تبرز نزعة ثقافية ناقدة تنبّهنا إلى تآكل الحميمية في زمن المراسلات السريعة.
والكتاب لا يقدم خطابا نسويا مباشرا، لكنه يرسم مسارا أنثويا للكتابة، من الأمومة إلى الرغبة، من المطبخ إلى الحديقة، من الرسالة إلى السرير، من الحب إلى الندم. فتتجلى بالكتابة أنوثة ناعمة تتسلل بذكاء وهدوء إلى قلب القارئ لتطرح أسئلتها الإنسانية: ما الحب؟ ما البيت؟ ما الذاكرة؟ ما الحواس؟
فمن شرفة شارع الهرم إلى “حي الأشجار” في أكتوبر، تبني الكاتبة بيوتا من الورق، وتسكن الكتابة بيتا رمزيا، تسميه الكاتبة أحيانا بـ”البيت العربي”، أو “بيت الحكايات”، أو “بيت النباتات”، وأحيانا بـ”ممر الحقائب الضالة”. وهو ليس فقط مكانا للسكن، بل وعاء رمزي للانتماء والأنوثة والطفولة والشتات.
يتحول المطبخ -مثلا- إلى معمل سردي تُطبخ فيه اللغة كما تُطهى الأطباق. ويغدو المشي في الحي فعل مقاومة للعزلة، ويصبح الغياب مادة خام للكتابة. تتجلى هنا الكتابة النسوية كفعل يومي، منزلي، حميم، لكنه أيضا ثقافي، نقدي، واعٍ بتفاصيل الوجود.
وختاما فإن “ذاكرة الوصال” لا يستدعي الحنين من باب النوستالجيا فقط، بل يحوّله إلى مشروع مقاومة ناعمة ضد النسيان، وضد هشاشة الوجود في عالم استهلاكي سائل.
ولعل رهان الكاتبة الأساسي ليس على استعادة الماضي، بل على إعادة كتابته بنبرة تأملية وعاطفية، كأنها تقول: لكي نحيا حاضرا متوازنا علينا أن نستعيد أنفسنا من خلال ما مضى، ولأن الكتابة هنا ليست فعل توثيق بل فعل خلاص، فإن كل نص في الكتاب هو محاولة شفاء ذاتي عبر اللغة. تكتب الكاتبة كي تتلمس ذاتها، وتستعيد دفء العلاقات، وتفكك ألغاز الأمومة والحب والانتماء، وتحاول أن تفهم كيف تتحول الحياة إلى قصة، والقصة إلى بيت، والبيت إلى ذاكرة، والذاكرة إلى عزاء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى