عبد الفتاح كيليطو : الشّاب والمرأة.. ترجمة: إسماعيل أزيات

دخل الشاب متجرا كبيرا وطفق يتجوّل فيه من دون غاية محدّدة. قادته قدماه إلى الطابق المخصّص للنّساء، فضاع في متاهة الألبسة الأنثوية. شعر في النّهاية بالدّوار وبحث، بصورة ماسّة، عن باب الخروج حينما، بغتة، وعلى بعد خطوات قليلة منه، رمق امرأة شابّة تبتسمُ له. كانت ذات جمال لا يُضاهى، أبدا لم ير روعة مثيلة. كانت تبتسم له بصورة ملفتة للإنتباه، مع شيء من الحياء، كما لو أنّها لا تجرؤ على الدنوّ منه، أو كأنّها تتساءل إذا ما كان هو بالفعل من ينبغي عليها أن تتكلّم معه.
شابّنا الذي لم ير هذه المرأة من قبل أبدا، قال في نفسه إنّ الابتسامة لم تكن تخصّه، وإنّ الإشارة التي تقوم بها بيدها ، بخجل، لم تكن تستهدفه. التفت : لم يكن هناك من أحد في هذه الزّاوية من الطّابق. إنّه هو بالفعل من كانت تبتسم له دون أدنى شكّ، من كانت تحيّيه. تقدّم نحوها.
لكن، حين كان جدّ قريب منها، وفي اللحظة التي مدّ إليها يده، توقّف فجأة، وقد احتقن وجهه من الحرج. المرأة لم تكن تنظر إليه، لا تنظر إلى أحد؛ أكثر من ذلك، غير قادرة على النّظر بالرّغم من عينيها الزّرقاوين المفتوحتين على سعتهما. كانت دمية لعرض الملابس. الوضوح يصيب بالعمى : خلال برهة وجيزة، ، كان الشاب قد استسلم لجمال اصطناعي، خلال بعض ثوان، تخلّى عن حذره، وفاقدا للإدراك، أحبّ صورة لا حياة فيها، جثّة متصلّبة اكتسبت الحركة بصورة مفاجئة، اكتسبت مظهر حياة، روحا مطلقة.
لمّا أدرك أنّه ضلّ، استعجل مغادرة المكان، ( لم يكن ببعيد عن باب الخروج ) كلصّ ظُبط متلبّسا، أحسّ بنفسه مذنبا بشكل كبير إلى درجة اعتقاده أنّه أوّل رجل تقع له مثل هذه الحادثة المؤسفة. لم يكن يدري أنّ شخصية من ألف ليلة وليلة أدّت التحيّة، بصوت مرتفع وواضح، لملكة ميّتة كانت، وهي محنّطة، تبدو حيّة. وكان يجهل أنّ بشرا من أزمنة ماضية كانوا يفقأون عيونهنم، يخصون أنفسهم أو ينقطعون عن النّاس حتى لا يحدث الاستسلام لإغراء الشّهوة. الشّهوة لم تكن شيئا آخر غير فتنة الصّور. إذا كانت قلّة ثقافته تمنعه التحرّر من الشّعور بالذّنب، فعلى الأقلّ ستلطّفه وتقلّل منه.
أصبحت المرأة ــ الدّمية، بالنسبة إليه، كائنا منذرا بالكارثة، يلزم تجنّب رؤيته تحت طائلة الانقياد من جديد لفتنته المتلفة. لم تكن مجرّد امرأة، لم تكن كذلك أيضا مجرّد دمية، كانت كائنا ملتبسا، امرأة ودمية في الآن نفسه، حياة وموتا. كان يخشى أن يراها تنبعث فيها الحياة من جديد، وغير مكتفية بأن تتبسّم له وترحّب به، أن تتقدّم نحوه وأن تكلّمه.
لكن، ماذا كان يصنع في القسم المحجوز للنّساء؟ لماذا انسلّ إلى هذا المكان المحظور حيث لا رجل يجازف بالدّخول إليه إطلاقا إلاّ أن يكون لصّا، أو إلاّ أن يكون مرافقا بامرأة، بحارسة ؟ كان قد تخاصم مع خطيبته التي يصادف عيد ميلادها بعد غد. وبما أنّه سألها ــ بشكل أخرق، صحيح ــ ما في وسعه أن يهديها بهذه المناسبة، انزعجت جدّا. عليه أن يبرهن عن مخيّلته، أن ينتقي بنفسه الهديّة الجديرة بإرضائها... تركه هذا المطلب متضايقا وكان أكثر تضايقا عند مغادرة المتجر. كان لديه شعورأنّ أحدا يتعقّبه، لكن من قبل من؟ كعوب أحذية تضجّ خلفه، حين يلتفت، لم يكن ليرى أحدا. المرأة ــ الدّمية كانت تلاحقه حيثما ذهب. كان يحسّّها وراءه، غير منظورة وموجودة.
عاد في الغد إلى المتجر، كان قد عزم على شراء قطعة لباس لخطيبته، لكن ربّما يكون قد صمّم أيضا أن يطلب من المرأة ــ الدّمية أن تكفّ عن تعقّبه، أن تدعه هادئ البال. قد يكون يرغب ربّما في شيء آخر... في جميع الأحوال، اتّخذت الأحداث منحى أبعد من أن يتوقّعه، وإن كان يتمنّاه سرّا، دون التجرّؤ على الإقرار به.
صعد الدّرجات، وقد وصل إلى الطّابق، أحسّ أنّها تنتظره. نظر إليها، غير أنّ نظرته توقّفت عند الذّقن؛ كان يعلم أنّه لو رأى وجهها، ولاسيّما عيونها، فإنّه مفقود. "كلّ هذا، كان يقول في نفسه، غير معقول، لقد أتيت لشراء قطعة لباس وليس لتصفية حساباتي مع شبح". أتت إحد البائعات في الحين تسأله إن كان لها أن تساعده. نشرت أمامه قطع ملابس، قطع ملابس، ودائما قطع ملابس. لم يتوصّل إلى حسم اختياره. ثمّ أصابه الدّوار من جديد. في الحقيقة، كان قد اختار، لكنّه كان يقاوم، يبحث عن كسب الوقت.
قطعة اللّباس التي يودّ شراءها هي نفسها التي تحملها الدّمية. إلاّ أنّ البائعة أعلمته أن لا مثيل لها آخر في المتجر. انتابه الغيظ والارتياح في الوقت ذاته. الصّدفة بتّت في أمره. لم يكن له سوى ان يذعن ويذهب إلى حال سبيله. لسوء حظّه، ترك أن تفلت منه هذه الكلمات : " خطيبتي لها نفس المقاس كهذه الدّمية".
البائعة، وقد أدركت جيّدا ما يرمي إليه، لم تخف استياءها : " لقد خضعت لعملية جراحية، وممنوع عليّ رفعل أدنى حمل، ولا أحد هنا يمكن ان يساعدني". تمتم : " سأساعدك". استشاطت البائعة غضبا، لكنّها ليس في مقدورها أن تقول لا. دنا من الدّمية و، متحاشيا النّظر إليها، رفعها؛ كانت ثقيلة، جدّ ثقيلة. "ضغها على هذه المنصّة !" أمرت البائعة، وقد أصبحت العلاقة مع الشاب متوتّرة. بدأ خلع الملابس.
عليّ هنا أن أفتح قوسين لأقول إنّ المرأة ــ الدّمية في المتخيّل الذّكوري، هي جسم يثير المسرّة والغبطة لأنّها، ببساطة، لا تحمل ملابس داخلية. غلاف رقيق يكسوها؛ بحركة واحدة، وها هي عارية. بين الرّغبة وتحقيقها، ليست هناك إلاّ حركة صغيرة يلزم القيام بها. مجرّد حجاب يجب إزاحته. هذا على الأقل ما كان يفكّر فيه شابّنا. إلاّ أنّه كان مخطئا. اتّضح أن تعرية الدّمية عمل مرهق، شاق، معيب. لم تتمكّن البائعة من انتزاع قطعة الثّوب؛ كانت تردّد بين شفتيها : " لن أقوم بمثل هذا العمل أبدا. وأقول إنّي خضعت لعملية جراحية وأنّي خرجت من المستشفى !"
قاصدا الاعتذار، انحنى الشاب لمساعدتها، لكنّها ضربته على يده، وانفجرت في الحال بالبكاء. هدأت، مع ذلك، سريعا واستأنفت عملها بشجاعة؛ صراع من دون رحمة كان يجمعها بالمرأة ــ الدّمية الرّافضة أن تتعرّى. صرخت في الأخير : "سأظفر بك أيّتها السّافلة". لم يكن من أحد سوى الشاب يحضر مشهد الاغتصاب هذا، بعض نسوة متقدّمات في العمر إلى حدّ ما اقتربن وهززن رؤوسهنّ علامة استهجان. عامل بثياب العمل ، والذي كان يبدو شبقا، غمز الشاب بغمزة متواطئة. هذا الأخير، وقد تجاوزته القوى المجهولة التي تسبّب في إطلاقها، لم يعد يدري كيف يتصرّف. "هذا ما تريده، قالت البائعة، مكان الدّفع في الأسفل". لقد أتت على نيل انتصار مرير.
حين وجد نفسه في الشارع، شعر بنفسه أحسن حالا. لم تعد المرأة ــ الدّمية تتعقّبه، أطلق تنهيدة ارتياح وأقسم أن لا يرجع ثانية إلى المتجر أبدا، أن لا يبتغي رؤية المخلوقة المؤذية الملقاة، دون شك، في مخزن ما وسط دمى أخريات، جثّة من بين جثث. استولت عليه رغبة مجنونة في أن يعود لرؤية خطيبته؛ كان في حاجة، بعد الذي جرى له، إلى حماية، إلى ملاذ. صارت الخطيبة فجأة لا تعوّض، لا غنى عنها.
والحزمة تحت إبطه، دقّ جرس الباب. تباطأت في أن تفتح له الباب، فقد الصّبر، وحينما ظهرت أخيرا، تلقّى ضربة في صميم القلب. لم تكن خطيبته التي يراها أمامه، وإنّما هي الأخرى. كانت ملتفة في منشفة كبيرة، خرجت من الحمّام وشعرها كان مبتلاّ. وإذ ظلّ مسمّرا في مكانه، جذبته إلى داخل الشقّة وأعادت إغلاق الباب. أدرك الشاب حينئد إدراك يقين أنّ هذا الباب ينغلق عليه إلى الأبد.

ترجمة : إسماعيل أزيات.

( Abdelfattah Kilito, Le jeune homme et la femme,REGARDS sur, N° 1, 1988, p: 50 _ 51 )



إسماعيل أزيات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى