شهادات خاصة منير مزليني - عبدالحميد شكيل (شاعر التحدي)

عرفته قبل ثلاثين عاما، حينها كان اسمه قد تجذر في حقول الشعر وبرز كشاعر المدينة وأحيانا أخرى كان يلقب بشاعر الماء !.. هو حاضر باستمرار في المنابر الأدبية للصحف والمجلات الوطنية والعربية أحيانا، بل لا يكاد يخلوا عدد منها من أحد نصوصه. وقد دأب على هذا الحضور والنشاط منذ أن عرفته إلى لحظة كتابة هذه السطور.. هذا النشاط الدؤوب والحضور المستمر إضافة إلى تميز نصه لغة وشكلا عن بقية التجارب الأخرى جلب إليه أنظار النقاد والدارسين الجامعيين . وقد تناولته العشرات ـ إن لم تكن أكثرـ من الرسائل الجامعية والدراسات الأكاديمية لكونه رائدا من رواد الشعر النثري عندنا الذين ظهروا في فترة السبعينيات إلا أن أغلبهم ـ إن لم أقل جلهم ـ قد اختفوا أو تحولوا إلى ألوان أدبية أخرى، بخلاف صاحبنا الذي ظلّ على العهد محافظا رافعا لواء (القصيدة النثرية) أو (النثيرة) أو (الشعر النثري) أو سمّ ما شئت أن تسمّ ! ومن يومها وهو يشتغل عليها ويطور تجربته ويلون في قاموسه الشعري بشكل ملفت للانتباه ، إذ أنه يمتلك قاموسا لغويا خاصا وإيقاعا مختلفا عن الايقاعات التي تعودنا عليها في التجارب الأخرى ولو كانت من جنسه نصوصه النثرية. ورغم صعوبة التواصل مع أشعاره وقلة التفاعل معها من ناحية التلقي، إلى درجة أنه قلما تجد أحدا يستطيع أن يذكرك بمقطع للشاعر أو يحفظ جملة شعرية واحدة له! إلا أن شاعرنا لا يلتفت لهذا الأمر ولا يدعه يؤثر على نشاطه واستمراريته ، بل انه كثيرا ما كان يخرج للقراء بمقال يشرح فيه رأيه ويبدي فيه فلسفته الشعرية وهو يستعير في ذلك مقولة للعقاد :" أنا لا أريد أن أكون مروحة للكسالى النائمين ! " . هذا التحدي الصعب والخطير جعل من الشاعر علما يبرز فيه اسمه أكثر من نصوصه ، وهو الأمر الذي جعلني اختار اسمه عنوانا لهذه القراءة بدل ذكر عنوان آخر.
ورغم معرفتي بالشاعر والذي أعده صديقا، ورغم تناولي للعديد من الأسماء الشعرية والأدبية بالقراءة والنقد إلا أنني لم أتحمس يوما للكتابة عن تجربة الشاعر "عبد الحميد شكيل" خوفا من أن أظلم نفسي وأظلم الشاعر معي. إذ أن أكبر اشكالية يتلقاها القارئ أو الناقد في عملية تلقي النصوص ليست هي النصوص في حدّ ذاتها، بل في التصورات والمعارف المسبقة التي يحملها كل متلقي عن اللون المراد قراءته. فلكل واحد من المتلقين تصور ومفهوم خاص للشعر، فإذا ما وجد نصا مختلفا عن تصوره أخرجه من دائرة الشعر والابداع عموما. فيما أن القراءة الموضوعية تستوجب النظر في النص كما هو وفي الشكل الذي هو عليه لكون الابداع حرية وكسر للقيود والأغلال مقابل عنصر المسؤولية الذي يتحملها المبدع نفسه تجاه نصوصه وتجربته، إذ أنه هو الذي ينجحها أو يسقطها من دائرة الابداع . والمتلقي في شكله العادي لا يمتلك غير الانجذاب أو النفور. في حين أن القارئ المبدع أو الناقد يمتلك ملكة السبر والغوص في أغوار النصوص والحفر في ثناياها للكشف عن أسرارها ومخابئها القريبة حينا والمفخخة والملغمة أحيانا أخرى .
ورغم أن هناك العشرات من المقاربات و الدراسات الجامعية التي تناولت تجربة الشاعر عبد الحميد شكيل إلا أنني أراها لم تنجح في مقاربة هذه التجربة وتقديمها بشكل واضح وصريح للقارئ ، إذ أرى أن تلك الدراسات كانت تقرأ نفسها وتستعرض نظرياتها المدرسية والأكاديمية على حساب تجربة الشاعر ونصوصه ، فهي بالعادة دراسات نظرية وتطبيقية تهتم بتحليل الخطاب بشكل عام أو تفكيك النصوص والحفر فيها لا بقصد قراءتها واخراجها للتلقي بقدر ما كانت تحاول مقاربة النظريات والمناهج المطبقة بشكل علمي انثروبولوجي أكثر من قراءته أدبيا فنيا ، ولذلك كانت ربما تنجح أكاديميا لكنها تفشل أدبيا وفنيا . لأن الخطاب بالنسبة لها هو بمثابة عينة أو جسد ميت خاضع للتشريح والتحليل وإقامة التجارب بغية الكشف عن تاريخه وماضيه الأنثروبولوجي، في حين أن النص الأدبي أو الشعري هو كائن حي يحمل مشاعر وخيالا وأفكارا وتصورات خاصة وذاتية منبعثة من أغوار النفس والروح والعقل الذاتي والجماعي لا من أطراف الجسد وخلاياه الجذرية وكروموسوماته الوراثية. فمثل تلك الدراسات سواء تناولت خبرا محليا من جريدة يومية أو نصا شعريا وطبقت عليه مناهجها ونصوصها فستخرج بنفس النتائج لأنها تهتم بالجسد وتهمل الروح . ذلك لأنها تحاول أن تحدو حدو العلوم المادية والطبيعية فتطبق مناهج التجربة العلمية في العلوم الانسانية والأدبية وهذه اشكالية أخرى ليس اليوم مجال الخوض فيها. كما أن قراءة النصوص الأدبية والأعمال الفنية بشكل عام لا يمكن أن تنجح وتظهر جمالياتها وأسرارها إلا لقارئ مبدع مثله ، ويجب هنا التنبيه إلى أمر مهم والتفرقة بين دارس الأدب والأديب مثلما هو الحال بين دارس الفلسفة والفيلسوف حتى يتضح الأمر أكثر ، فنيل شهادة دكتوراه في الأدب لا تجعل منك أديبا ، والعكس كذلك صحيح أن تكون شاعرا أو أديبا لن يجعل منك دارسا أكاديميا أو دكتورا ، حتى وإن نلت الشهادة فخريا.
وبعد تَوضُحِ هذا الأمر، وجدتني مضطرا لقراءة هذه التجربة أخيرا، ولم أجد لنفسي مهربا من مقاربتها وقراءتها لسببي اثنين ، الأول حتى لا يقال أننا نهدم ولا نبني أو أننا نقول ولا نفعل ، والسبب الثاني أن تجربة عبد الحميد الشاعر قد فرضت نفسها على الساحة الأدبية وأصبحت ظاهرة متميزة لا يمكن تجاهلها أو انكارها هذا من ناحية ومن ناحية ثانية أن نصوص الشاعر في حدّ ذاتها تحمل مميزات فنية وأدبية ولغوية خاصة يلتف حولها ابهام وغموض يستوجب الاستكشاف والمعرفة .
ولعليَّ أبدأ هذه المقاربة أو الاستكشاف بطرح جملة من الاستفهامات المعرفية والاجراءات القرائية ، منها : هل يوجد تفسير واحد للنص الشعري الواحد أم هناك تفسيرات متعددة !؟ بل، هل من المحتم أن نفسر النصوص الابداعية ؟! وهل نقرأ تلك النصوص بما نملك ونعرف من مفاتيح ومناهج أو بما تشتمل عليه النصوص في حد ذاتها من مفاتيح ومناهج ؟!
عادة قراءة الرسومات أو اللوحات التشكيلية تعتمد على حاسة البصر وما نتلقاه من اللوحة عن طريق النظر إليها بأعين مفتوحة ، لكن القراءة الحقيقية والابداعية للوحة لا تقف عند حاسة البصر بل هي تتعادها إلى حواس أخرى كالخيال وأحيانا قد تساعدنا حاسة السمع أو الشم أو اللمس في فهم اللوحة ، إذ الفن الحقيقي والابداع المجدد ليس في نقل الواقع كما هو أو محاكاته بل هو التعبير عن طريق الخيال عن الأحاسيس والمشاعر والأفكار التي ينقلها لنا ذلك المشهد الواقعي، أي أن المبدع يعبر عن العالم والوجود كما يراه ويحسه لا كما يبدو في الواقع أو كما هو عليه. واستحضر هنا ما وقع للرسام "بيكاسوا" مع عجوز وجدها في الكازينو فراح يرسمها، ولمّا أتمها قدمها إليها، وحين رأتها قالت له:" هذه ليس أنا ! " فقال:" لها هذه أنت لكن كما أراك أنا وليس كما ترين نفسك !". وهنا كان الفن والتميز لأنه لو نقلها كما هي لكان مجرد فوتوغرافي لا يختلف عن بقية المصورين العاديين . ومنه فباستعمال الخيال واطلاق قدراته وطاقاته التصورية يمكننا لمس اللوحة والاستماع إلى موسيقاها وشم رائحتها ! كذلك الأمر في الفنون الأخرى ، والشعر خاصة فهو يعتمد على القدرات الخيالية المبهرة والعبقرية الخارقة لقراءته وإبداعه سواء بسواء.. فالتعبير الكتابي للشعر لا يقف عند الألفاظ الصماء والشرح القاموسي للكلمات ، بل تلك بوابة أولى أو المدخل لعالم النص، فالنص الحقيقي هو ما وراء الألفاظ وما توحي به اللغة ولا تفشيه .. فاللغة ليست وعاء للأفكار فحسب بل هي أحاسيس ومشاعر وذاكرة حسية عميقة ، فحينما أقول أشم رائحة التراب ، فهنا الذاكرة الحسية تنفتح على عوالم كثيرة وتنقلنا إلى أبعاد زمنية عديدة قد تكون الطفولة واللعب بالتراب، وقد تكون الفلاحة والعمل الدؤوب في الحقول، وقد تكون الموت على تراب الوطن، ومنه تنتقل إلى عوالم حسية أخرى كشم رائحة خبز الأم وسماع عثاء الخرفان أو هدير البحر أو خرير الجداول أو حفيف أوراق الأشجار.. الخ .
والقارئ لنصوص عبد الحميد شكيل يكون مخطئا إذا ما حاول مقاربتها من خلال مفهومنا المسبق عن الشعر ، فليس هو عنده ذلك الكلام الموزون المقفى ، ولا هو التفعيلة الحرة، ولا هو حتى ذلك الشعر النثري الذي نلقاه عند أدنيس أو سعدي يوسف أو أنسي الحاج أو بول شاوول وانما هو نص "عبد الحميد شكيل" ذاته، يحمل توهجاته وثقافته وأحاسيسه وتجربته الحياتية ، وقراته لا تكون بشكل الفهم المباشر ولا نتوقع منه تلك اللغة الشعرية الرومنسية أو الحالمة ولا حتى تلك اللغة الفلسفية ، فعبد الحميد شكيل كما أتصوره يستعمل في أغلب نصوصه ـ من حيث يدري أو لا يدري ـ تقنيات فن الرسم أو الفن التشكيل التجريدي ، فليس هناك موضوع صريح بل ليس هناك موضوع أصلا ، توجد فقط ألوان وخطوط متداخلة لا تتوقع منها فهما معينا أو فلسفة معينة، بل إيحاء خاص وردة فعل خاصة عادة ما تعتمد على ثقافة المتلقي اللونية ، وأراه أٌقرب ما يكون لفن (الحروفية) أي تستعمل الحروف في اللوحة بشكل جمالي معين وبتوزيع فني خاص لكنها لا تكتب جملا أو تقرأ أية قرآنية مثلا، بل هي حروف حرة مكتفية برسمها الخاص وجمالها الذاتي، فالشاعر "عبد الحميد شكيل" في أغلب نصوصه يعتمد على اللغة بل على اللفظة المنفردة يقولها في صيغ مختلفة وتوليدات خاصة غالبا ما تكون على حساب الموسيقى والمعنى ، وكأني به يبني بيتا بأحجار منحوتة بشكل هندسي فيه الكثير من الفوضى والتحدي ، وكأنه بذلك يكسر قواعد الهندسة المعمارية للقصيدة والنصوص الشعرية . هو يفعل ذلك عن قصد ووعي، وهنا تكمن ميزة الشاعر وخصوصيته، أين ينمق نصه معتمدا على الصنعة والدربة لا على الموهبة والمشاعر. فهو ينتقي من القاموس ويولد منه الألفاظ دون المعاني، هو لا يريد أن يقول أو يفهم شيئا معينا ، بل هو يريدنا أن نستمع لتلك الألفاظ ونحس بإيقاعاتها القوية والمدوية في نفوسها، وهذه الخاصية تظهر عندما يقرأ نصوصه بنفسه فهو يعطيها هذا الوقع الحسي الجمالي الخاص ، في حين أن المتلقي العادي كان يتوقع منه أن يدغدغ مشاعره بمعاني رومانسية أو صور فنية أو محسنات بيانية و بديعية مثل تلك التي يتعلمها في المدرسة ، ولكن الشاعر يقدم له قراءة أخرى للشعر مغايرة لتصوراته المسبقة وتوقعاته المتأملة، كما أنها ليست نصوصا تثقيفية تحيلك على قراءات معرفية أو تاريخية أخرى مثلما يفعل أدونيس أو محمود درويش وغيرهما، ولكنه يصدمك بإيقاع لفظي معين، وتخريجات لغوية معينة ، أين تستعرض اللغة في رواق معرضه الشعري توليدات جديدة وتخريجات مختلفة . وقد يتخير الشاعر لنصوصه كلمات مخبأة في أعماق القواميس المنسية ولا يكتفي بقاموسيتها، وإنما يخرجها في توليدات مهجورة وغريبة غير دارجة أو مستعملة، ثم يشكل منها جملا لغوية مفخمة بالاستعلاء القاموسي ، ويخرج من خلالها صورا سريالية فوق عادية تصدم مخيلة المتلقي العادي مخالفة بذلك تصوراته المسبقة عن الصورة الشعرية المعتادة، وهو الأمر الذي غالبا ما يجعله يتراجع عن المتابعة في التلقي .. في حين أن الشاعر يجد في ذلك متعة المتوفق المعجز وهو يتحدى المتلقي واللغة المعتادة والقصيدة المكرسة .. إذ يقول في نص " خيول البياض " مثلا:
كيف أسحب الليل من ليله
وأدسه في لباب الحقيقة
ثمة شطط في تقليص المراحل
يناكفني في عمار القصيدة
ينازعني في احتلام البهاء
في هذا المقطع الموارب للمعنى الصريح وكأني بالشاعر يحاول أن يبوح بحقيقة تصوره للشعر ويعبر عن صراعه مع المعنى المكرس له ، فيقول مستفهما كيف أُفهمكم وكيف أرفع سواد الغبش عن المعنى الذي أراه حقيقة بالنسبة للشعر والقصيدة التي التف حولها الشطط عبر الأزمان وغيب عنها الجمال الحقيقي والبهاء المستحق لها !؟ ،،
ثم يستمر في مقطع ثان من النص نفسه ليعبر عن الشعر كيف يكون بحسب تصوره لكنه لا يشرح بل بقول الشعر كما يراه ويتصوره ، فيصوغ النص في صبغة المخاطب ليتوشح النص بعباءة الحكمة ، إذ يقف الشاعر على قمة العرش متيمنا صولجان اللغة ، ليقول ما خفي وما هو موارب وراء ستار الليل ، فيصوغ النص في بناء لغوي خاص يزاوج فيه بين ما هو روحي معنوي مع ما هو مادي واقعي، فيخلق بذلك صورا شعرية مبهمة بمفردات تبدو غير مترابطة ومتناسقة بغية خلق عنصر الصدمة والاختلاف داخل النص فيربط مثلا بين الماء والصولة والمعطف والريح في سطر واحد وكأنه يصوغ عقدا غريب الطراز والشكل بمفردات متباينة وتراكيب غريبة ، فيقول من النص نفسه :
للماء صولة في معاطف الريح
للريح هبة في إلتماز التوافق
أيها الراشح في غسق الشجو
قد لا ترى وجدك الهالك
معتقا في لقى الأساطير ال...
في نشوق الكلام
وحدك تحدق في برار التباشير
وحدك تجهش في مهب صباح آيل للبياض
وحدك في مهب طول
لها لكنة في دورة الأفناك
مصورة بالهفوات ال...
في غرر وقت مزاحم
لخيول البياض المهيب
متسع في نصوص التراشق .
ولو رجعنا إلى السطر الذي يقول : "أيها الراشح في غسق الشجو " وحاولنا أن نفكك على السطر من ألغامه القاموسية ونستبين معانيه ، لوجدنا أن الرَاشِحَ هنا بكسر الشين وحسب الأصمعي تعني( الولد إذا قوي ومشى مع أمه فهو راشح وأمه مرشحة) . الغسق هو أول عتمة الليل وجاء هنا للدلالة على الظلمة والالتباس ، أما الشجو فتعني الهم والحزن .. ولما نعيد تركيب السطر بألفاظه المتداولة لأصبح كالتالي : "أيها الطفل الماشي في عتمة الهم والحزن " ربما أن التركيب بهذه الصيغة يكون أفضل لدى المتلقي وأقرب إلى الشعرية ، لكن الشاعر يصر على أن يلجأ للصيغة القاموسية الخاصة والتركيبة المختلفة حتى يخرج عن المعنى المتداول والنمط الإيقاعي المعتاد .
كذلك فعل في السطر القائل : "في نشوق الكلام" .. والنشوق هنا تعني الشم ..
والشاعر لا يكتفي في نصه باستعمال الألفاظ الغريبة والقاموسية فقط، بل يعمد أيضا إلى عنصر المراوغة ومخالفة التصور المسبق .. كقوله : " وحدك تجهش في مهب صباح آيل للبياض " إذ جاءت هنا كلمة (البياض) وهي اللفظة المخاتلة والمفاجئة في مكان اللفظ المتوقع المسبق (السقوط) .. أيضا تقنية قلب المعنى بقلب التركيبة والمبنى ،، مثل قوله : " أرى السماء طحطاحة .. " و (الطحطاحة كلمة فصحى تعني المكان الواسع الذي يكون غالبا بجانب البيت في الريف ، وكانت تستعمل لأغراض الفلاحة كدرس القمح ، ثم أصبحت تطلق على أي مكان واسع ... ) وما هو معروف أن السماء أوسع من الطحطاحة ، فكيف يكون هنا الموصوف أو المشبه أبلغ من المشبه به ؟! فالشاعر لا يجد حرجا في ذلك وكأني به يحاول أن يرتب عالما خاصا به مختلف عما هو كائن بل قد يكون مناقضا له ومتضاد معه تماما .. وكأني به يرى العالم على غير ما نراه ويفهمه بخلاف ما نعيه ، وقد عبر عن ذلك بقوله :
أرى السماء طحطاحة
في هيئة الرمل
أرى الشبيهات مُلآت
في نكهة الضوء
أرى ما أٍرى
سوى هتف
في كنف الظل
مسحم بظل ناشب من سواد البياض .
ثم يأتي في مقطع آخر مخاطبا في تحد من يحاول عبثا قراءة نصه المبهم، وكأنه يقدم له مفاتيحه فيقول :
أيها المتربص بقامة نص
له في نجمة الريح
مساطب زهو
لا تكن في الوقت الجزاف
لا ..
ولا بالضجع الهتاف ..
لا ...
ولا بذكاء الحكمة
بل في جراب الصدف !
إن الشاعر لا يتحدى المتلقي والقارئ العادي فحسب بل يتحدى المتلقي المبدع والناقد المتمرس ويقول له أيها المتربص والمترصد بنصي عبثا تحاول الامساك بصوصي فهي مثل النجمة المعلقة في السماء بعيدة المنال فلا تطلها بالهتاف والمدح ولا بالتحليل والتفكيك والتقصي وإنما هي هكذا نجمة ساطعة في السماء لا تسمح إلا بالنظر والتأمل. وقد لا يتوانى الشاعر عن التصريح بذلك التفرد والخصوصية التي يتميز بها عن غيره من الشعراء فيعبر عن ذلك التفرد بطريقته الخاصة وبلغته المواربة المخاتلة، فيقول في نصه الموسوم بـ " أَعشاشٌ.. الرّيحُ العقيمةُ" :
"أنا الهاربُ من ظلِّ الوقت
سأظلُّ أفتشُ عن طيفِهاَ
في نزوحِ المحاقْ...!!
توبةٌ
أقلدُّ
الماءَ في تفرُّدهِ
البهيِّ..
لماذا الرّذاذُ يرفُو في السّباسِبِ..
لماذا يصهَلُ في عبوقِ الطّلُولْ..؟؟.
ورقةٌ..
أقتاتُ
منْ
صنيعَةِ
الرّجعِ..
لِي مزيةُ التعاريجِ..
تكرعُ ماءَ الظّمأْ..
كيمَا تخبُو جذوةُ الضَّمِّ..
حالَ ضمورِ الصّواعقِ..
معزّزةً
باهتزازِ
السّكونْ..!! "
الحقيقة نقولها مجازا، ولكن الأصح ، نقول في الواقع أن الشاعر عبد الحميد شكيل قد شق طريقا صعبا في عالم الشعر ، وقد رفع تحديات كبيرة في وجه المتلقي بنوعيه العادي والمبدع ، كما تحدى أيضا الشعر ذاته بالخروج عن أنماطه المتعارفة وأشكاله المتداولة ولم يكتف بذلك، بل زاد وأن رفع سقف التحدي بالغلو في التجريب والانغماس في متاهات الذات والخصوصية . وعلى كل حال هذه لم تكن ميزته لوحده في هذا العالم ولكنها قد تكون مشكلة العصر الحديث في جميع الفنون والتي عرفت تفجيرات كبيرة في عالم الفن، وقد تميزت هذه التجارب بالفردانية والغلو في الخصوصية والتوغل في أعماق التجريب والتجريد وكسر القواعد المكرسة والقوالب الجاهزة، وقد عرفت بتمردها عن كل ما هو متعارف ومتداول. وإذا كان الشاعر عبد الحميد شكيل قد مشى في هذا الطريق بإرادته وعزمه على هذا الأسلوب من الكتابة فإنه لوحده من سيجني ثمار ذلك إن كان شوكا أو وردا .
لكن رغم ذلك فقد عرف الشاعر ألوانا أخرى من الكتابة وكانت له تجارب نثرية في شبه قصص أو نصوص مفتوحة تميزت بحلاوة الأسلوب ورشاقة التعبير مثل نصه الجميل الذي لا ينسى (بوحمره الرجل الذي أكلته النساء " فقد تميز بجزالة السرد وشاعرية لغته .. وبحكم معرفتي بالشاعر ومجالستي له المعتادة ، فهو يمتلك موهبة خالصة ،ربما لم ينبته إليها ،وبحسب رأيي كان سيوفق فيها جدا لو انتبه إليها ، وهو كونه روائيا ممتازا لم يعرف نفسه بعد ، فهو يمتلك حسا سرديا متميزا وذوقا قصصيا جذابا ويتميز سرده بالتفاصيل الدقيقة والذاكرة البعيدة والمنتبهة لدقائق الأمور وأصغرها، وهي مميزات تقل عند الكثير من الكتاب والمبدعين ، فليت عبد الحميد شكيل ينتبه لهذه الموهبة ويضيف لصفة الشاعر لقب الروائي وقد يكون نجيب محفوظ المدينة وهو الذي يمتلك من أسرارها وألغازها ما يمتلك إضافة إلى لغته الشعرية الحالمة.

عنابة في : 22/07/2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى