كان علوان واقفا في أسفل الجبل الشاهق حين أشار الى أعداد هائلة من الشبان موزعين على مساحات شاسعة في تلك البقعة السهلة من المنطقة الجبلية ..
انظر قالها ملوحا بيده اليمنى مرات متتالية ,محاولا جذب انتباه والده وإخراجه من قلقه..
انظر ردد مرة أخرى .. أنا مثل هؤلاء جميعا .
جاءت زيارة والده اليه بعد وصوله من ثكنة السوق الأولى بأيام قليلة.
اختلطت عليه الأمور حين عاد .
على ركبتيك
امسك بأذنيك ..
ازحف .. أمره الضابط الغر ..
الأرضية كانت مكتسية بحصى خشنة , حادة كالسكاكين .. عند التباطؤ كان السوط ينهال على ظهره فترسل آلاما شديدة تنفذ لعروقه الدموية بضغط قوي يكاد يحس بها تخرج متفجرة من أنفه .. ركلات قوية على مؤخرته فيسقط عائما على وجهه .. يغصب فيما بعد على معاودة الزحف من جديد ..
هنا مصنع الرجال .. صرخ الضابط ..
ركلة ,سقطة , تجريد من كبرياء لن يعود , كرامة لن تسترجع..
ألبسة,دخان مهرب, ألا تعلم بأنك تضر بالاقتصاد الوطني.
سمع بعض الهمس والوشوشة ثم أردف أحدهم قائلا لقد تحدثنا مع من ذكرت , عندئذ بدأ علوان ينظر اليهم وابتسامة مفعمة بالثقة والتباهي طغت على ملامحه , لقد أبلغنا أنه للتو قد قدم بلاغا عن سرقة سيارته العسكرية وبطاقة بحث عنك.
تذكر عودته الى الثكنة مطرودا بعد شراء قائمة طويلة من المستلزمات المنزلية من زوجة معلمه لأنه أبدى عدم ارتياحه للبقاء معها في المنزل.
علوان الابن البكر في عائلة قوامها ستة أطفال ,أربعة فتيات وشقيق واحد , كان أملا تترقبه العائلة , حين أنهى أعوام
دراسته لبى نداء الوطن. الصباح الباكر من ذلك اليوم الطويل من بداية فصل الخريف التي غطت زوابع من غبار خانق المدينة الصغيرة , تحول الى حدث تاريخي نحت في ذاكرته ولم تغادره يوما واحدا بل ولا لحظة واحدة.
أجمل لحظة كانت تلك التي يخلو بها بنفسه مطلقا العنان لخياله الجامح, محلقا بعيدا عن أجواء السجن الكئيبة المليئة بالفظاظة, الخشونة, الرعونة , الكلمات البذيئة و المبتذلة, الى عالم ملؤه السحر, الفتنة, الجمال, الرقة ..
الى أحضان حبيبة الفؤاد .. يرتوي من الحنان ,اللطف ..مستعيضا وحشة الظرف وقفرة المكان.
كان قد التقى بها فقط مدة شهر واحد قبل أن يشدّ أمتعته للحاق بالخدمة, جالسا في صحبة بعض الأصدقاء , مرّت بالقرب منهم , لمح جانبا من وجه ملائكي, أحس بقوة عارمة تجذبه إليها نهض من مكانه ,سارع بخطاه لكي يراها وتراه. التفت اليه فالتقت أعينهما لثواني , رمقته بنظرة سحرية بريئة , بقي مصعوقا,مبهورا بإشعاعات النور المسترسل من محياها وشعور النشوة من تلقي نظراتها.حضورها البهي ملأ سوق المدينة بنبض الحياة . تبعها بحركة لا ارادية وكأنه متأثر بتنويم مغناطيسي فاقد القدرة على التحكم بسلوكه , نسي كل شيء اخر,سار خلفها , مقتفيا خطاها وسط الزحام ..اقترب منها أكثر .. اشتم عبق رائحتها العطرة , أحسّ بضربات قلبها تخفق بسرعة واضطراب ,اقترب أكثر..فأكثر حتى بدأ يحس بدفء ملامسة ناعمة تهزّ كيانه , همس في أذنها كم أنت جميلة , رائعة , ملاك , نظرت اليه باستحياء وهي تحاول اخفاء ابتسامة كادت تفضحها.
اضطرت على الرضوخ لرغبة الأهل والقبول بالزواج من أحد المتقدمين اليها. كان هذا اخر خبر ترده عنها.
كانت رقعة المكان لا تزيد عن عشرة أمتار تزاحم فيها أكثر من ثلاثين شخصا حين دفعه الشرطي الى داخل الزنزانة.
2013-01-12
فرمز حسين
انظر قالها ملوحا بيده اليمنى مرات متتالية ,محاولا جذب انتباه والده وإخراجه من قلقه..
انظر ردد مرة أخرى .. أنا مثل هؤلاء جميعا .
جاءت زيارة والده اليه بعد وصوله من ثكنة السوق الأولى بأيام قليلة.
اختلطت عليه الأمور حين عاد .
على ركبتيك
امسك بأذنيك ..
ازحف .. أمره الضابط الغر ..
الأرضية كانت مكتسية بحصى خشنة , حادة كالسكاكين .. عند التباطؤ كان السوط ينهال على ظهره فترسل آلاما شديدة تنفذ لعروقه الدموية بضغط قوي يكاد يحس بها تخرج متفجرة من أنفه .. ركلات قوية على مؤخرته فيسقط عائما على وجهه .. يغصب فيما بعد على معاودة الزحف من جديد ..
هنا مصنع الرجال .. صرخ الضابط ..
ركلة ,سقطة , تجريد من كبرياء لن يعود , كرامة لن تسترجع..
ألبسة,دخان مهرب, ألا تعلم بأنك تضر بالاقتصاد الوطني.
سمع بعض الهمس والوشوشة ثم أردف أحدهم قائلا لقد تحدثنا مع من ذكرت , عندئذ بدأ علوان ينظر اليهم وابتسامة مفعمة بالثقة والتباهي طغت على ملامحه , لقد أبلغنا أنه للتو قد قدم بلاغا عن سرقة سيارته العسكرية وبطاقة بحث عنك.
تذكر عودته الى الثكنة مطرودا بعد شراء قائمة طويلة من المستلزمات المنزلية من زوجة معلمه لأنه أبدى عدم ارتياحه للبقاء معها في المنزل.
علوان الابن البكر في عائلة قوامها ستة أطفال ,أربعة فتيات وشقيق واحد , كان أملا تترقبه العائلة , حين أنهى أعوام
دراسته لبى نداء الوطن. الصباح الباكر من ذلك اليوم الطويل من بداية فصل الخريف التي غطت زوابع من غبار خانق المدينة الصغيرة , تحول الى حدث تاريخي نحت في ذاكرته ولم تغادره يوما واحدا بل ولا لحظة واحدة.
أجمل لحظة كانت تلك التي يخلو بها بنفسه مطلقا العنان لخياله الجامح, محلقا بعيدا عن أجواء السجن الكئيبة المليئة بالفظاظة, الخشونة, الرعونة , الكلمات البذيئة و المبتذلة, الى عالم ملؤه السحر, الفتنة, الجمال, الرقة ..
الى أحضان حبيبة الفؤاد .. يرتوي من الحنان ,اللطف ..مستعيضا وحشة الظرف وقفرة المكان.
كان قد التقى بها فقط مدة شهر واحد قبل أن يشدّ أمتعته للحاق بالخدمة, جالسا في صحبة بعض الأصدقاء , مرّت بالقرب منهم , لمح جانبا من وجه ملائكي, أحس بقوة عارمة تجذبه إليها نهض من مكانه ,سارع بخطاه لكي يراها وتراه. التفت اليه فالتقت أعينهما لثواني , رمقته بنظرة سحرية بريئة , بقي مصعوقا,مبهورا بإشعاعات النور المسترسل من محياها وشعور النشوة من تلقي نظراتها.حضورها البهي ملأ سوق المدينة بنبض الحياة . تبعها بحركة لا ارادية وكأنه متأثر بتنويم مغناطيسي فاقد القدرة على التحكم بسلوكه , نسي كل شيء اخر,سار خلفها , مقتفيا خطاها وسط الزحام ..اقترب منها أكثر .. اشتم عبق رائحتها العطرة , أحسّ بضربات قلبها تخفق بسرعة واضطراب ,اقترب أكثر..فأكثر حتى بدأ يحس بدفء ملامسة ناعمة تهزّ كيانه , همس في أذنها كم أنت جميلة , رائعة , ملاك , نظرت اليه باستحياء وهي تحاول اخفاء ابتسامة كادت تفضحها.
اضطرت على الرضوخ لرغبة الأهل والقبول بالزواج من أحد المتقدمين اليها. كان هذا اخر خبر ترده عنها.
كانت رقعة المكان لا تزيد عن عشرة أمتار تزاحم فيها أكثر من ثلاثين شخصا حين دفعه الشرطي الى داخل الزنزانة.
2013-01-12
فرمز حسين