[HEADING=2]بورتريه...[/HEADING]
(1)
"يبدو أننا جميعا
في سراح مؤقت".
لا تحمل القلم وتذهب صوب الكتابة؛ إلا حين تتأبط القضية وتسير نحو الحرية. وهنا، في مسافة ثكلى بين إشهار صرخة وتربية أمل، تقف كتاباتها شاهدة؛ بالصوت والحبر، على زمن وجدنا أنفسنا فيه ونحن "نتمرَّن على الفقدان" !
هي ذي جملتي / مفتاحها، ما إن عثرت عليها حتى جاءني الإدراك بأنها حين احترمت قدسية الكلمة؛ احترمها صدق الحرف. أوليست هي من أرشدتني إلى بصيرة بصري، لما أجهرت، بعلو نادر في زمن الهبوط المزمن، قائلة "معذرة على عجزي، لا أملك إلاَّ الكلمات، فقط الكلمات الباردة، وإحساس مُلتهب بالخوف.." !؟
إذن، كل بلاغة تسعى إلى تقصي ميزات فاطمة الإفريقي؛ مقدورها أن تصاب بهيبة حبر. كل فصاحة هنا، لا أرى مصيرها سوى التلعثم إزاء هذا المزيج الخلاق من التميز والفرادة والعمق؛ الذي يستدعي الحذر من تبديات الإغواء المدهش للمعانها !
"الشعور بالخوف
ليس جريمة".
(2)
"أراقب ذاتي عن كثب،
وأرصدها كي لا تنبعثَ فيها روحٌ أخرى..
أحرس ذاتي بذاتي،
دون أن أهدرَ وقتَ الحرَّاس..".
علي أن أتمرَّن على أغوار صوتها؛ قبل أن ألج صبوات نصها. ليس لأن صوتها هو مشتل يدها؛ بل لأن نصها هو أرخبيل صوتها. ولذا، علي أن أحاول تجريب الابتعاد عنها، لكي أقترب منها؛ لأنها دعتنا إلى "تجريب الحياة بأرواح مبتورة وأيادٍ صامتة..".
"أراقب ذاتي ذاتياً،
فأجد نفسي أكتب مديحاً مرتَّبا عن
بلدي،
لا أفهمه، يشبه الخَشب".
والآن، أنا أمارس انتقالي من ضفة تعبير جلي، يشي برشاقة الذات؛ إلى ضفة دلالات مسكونة بحرائق الوطن. ضفتان تكتنز بهما فاطمة، عبر الأولى تعثر على جرأتها في حفر يتقصى شسوع الموقف؛ ومن خلال الثانية تجد شروقها في أعالي المصداقية.
وإني هناك رابض بين ضفتيها، فماذا أرى ؟! ثمة زوابع بحجم امرأة مثيرة لجدل الإعجاب، وليس، فقط، لأنها تتخطى الاعتداد بالممكن، إلى الاعتداد بالمستحيل، وإنما، كذلك؛ لأنها ترى الواقع الماثل أمام عينيها يتناقض مع الوطن المرسوم في قلبها !
"تنكمشُ ذاتي وتتقلصُ،
وتستسلم مرتجفةً،
فتراقب ذاتها بذاتها، بحرصٍ
شديد،
وتكتفي بتغيير الوضع العام
لأحمر الشفاه على شفتيها
المطبقتين".
(3)
"لسنا زبناء ورعايا،
نحن مواطنون".
تقطن فاطمة الإفريقي في منتصف الأشياء؛ لكي تقبض على مآلات الأعماق. ومثلما تعري "صور البؤس.. وبؤس الصور"، ترى "الحق في الفرح، والحق في الغضب"؛ ثم تعلو فوق العابر، كي تقول: "ما أحلى الرجوع اليه"؛ إلى الوطن الذي يضيق معناه حين "يصير بحجم كرةٍ وصورةٍ فوتوغرافية وقميصٍ أحمرَ وهدفٍ في مرمى.." !
"في مرات كثيرة
أقف أمام المرآة وأنظر جيدا إلى نفسي،
وأفتش عن أخطائي وعيوبي".
وهي لا تنفي "عيوب" شجاعتها، بل هي تشهرها على ملإ من جرأة انتمائها، بيد أن كل التهم التي أشهروها في وجه حبرها، في مناعة صوتها، وفي طغيان حضورها، هي تهم تليق بها، تجيء على مقاس مسارها المشاكس الذي استعصى على أيما ترويض، أو تدجين؛ لأنه قد من صلابة لينها "عشم إبليس في الجنة" !!
"في فضاء آخر، أزرق، وشفّاف،
ومفتوح، وآني، وحر وتفاعلي،
صار الرقيب شبحا من الماضي،
وصار التعتيم مهمة مستحيلة".
(4)
"لا أدري لماذا ينسون وجودنا كمواطنين
حين يوزعون بينهم ثروات الوطن؟،
وكيف يتذكروننا فجأة حين يحتاجون
إلى عرضٍ احتفالي لإثبات الشرعية ؟..".
في بدء بزوغ ضوئها، كانت هي، ما سواها، من عقدت صلحا بيننا وبين شاشة لا تمثلنا، عبر "مساء الفن"، البرنامج الذي راهن كثيرا، وبقتالية؛ على أهمية الفن في بناء مجتمع متوازن.
وفي منتهى إشعاع حبرها، كانت هي من ٱل بنا يراعها المشاغب، المنفلت من سلطة الرقابة، إلى تلقي تفاؤل قلم في وطن متشائم، عبر تفرد الرؤية، وشرف الكلمة؛ ورسوخ القناعة.
إن ظهورها الباذخ على شاشة التلفزة، وشكل تعاطيها مع شجون الفن، هو، نفسه، بروزها المثير للجدل على "أخبار اليوم"، والفارق يتجلى في تمكنها من وعي الضوء هناك؛ ويتبدى في انتمائها الثر لقدسية الكلمة هنا.
"القطب العمومي متخلف، وانتقائي،
وشعبوي في مقاربته للمنتوج الفني".
ولأنها سيدة المساء بلا منازع، وأيقونة الصباح بلا مثيل، جاهرت بالرأي الحر من كل عبودية، دون أن يتمكنوا من وأد صوتها، وكل قبر حفروه لها لم يتسع لجسدها الذي هو بشسع وطن !
"لهم وطنهم، ولي وطني.
يختنق صوتُ الوطن،
فيصير صياحا نشازا وشعارا بلا
صدى
ولازمةَ نصرٍ في خاتمة أغنية
شعبية..".
(5)
"نعم، النساء كائناتٌ بلوريّة،
من السهل كسرها في مجتمع ذكوري..
لكن، هناك نساءٌ يخبئن خلف البِلوّر الهش
ضوئا ساطعاً بالشجاعة، وتهشيم قشرة البلور،
لا يزيدهن إلاَّ إشراقاٌ وإحراقاً..".
أنا لم أتوقع، يوما، من الحالة الاستثنائية المسماة فاطمة الإفريقي، توقيعا "بقلم أحمر الشفاه"، لا لأنها تنفي بلورها الأنثوي، وإنما لأنها تؤكد هشاشة الثقافة الذكورية. لذا، يبدو لي توقيعها مثل خطوها تماما: عصارة عمر، وكثافة حياة.
ولا أخفيكم جهرا، إني حين أستشعر خطر وأد هنا، أو يصلني نعي إجهاض هناك، أبحث عن رأي فاطمة، المرأة والكاتبة معا، كي أدرك الفرق المغوي بين سر يخفي فقر الاستعباد، وعلانية تنتنصر لثراء الحرية.
"حزينة كامرأة،
لأنه في بلدي لا تزال النساء
تتعرضن للرجم الرمزي،
وتُسَقن مُهانات إلى الزنازن
بتهم عاطفية..".
ولم تسمح، ولو لحظة من أزمنة أحبارها، بوضع مقالاتها المنتصرة للأنوثة قيد أي مساومة. وكل لحظة بدت أكبر من أن يرتعد قلمها أمام أباطيل يراد لها أن تغدو حقائق، تحت ضغط مد ذكوري؛ نراه وهو يتفشى في ثقافة وطن عاق ومعاق !!
"لا بأس !
دعوهم يرجمون البِلوّر المهشم،
فنحن لا نرى إلاَّ النور الساطع
للحقيقة".
وقبل أن أغادر هذه الفقرة، سأقرأ لكم ما تيسر من فتوحات يدها الواهبة، من كشوفات محبرتها الهطالة، ومن جوامع التقصي الذي تضيء به دهاليز الأفكار، وأغوار النصوص:
"حين يكتب الرجل، نسبح في روح المعنى..
وحين تكتب المرأة، ننشغل بجسد الحرف.
في كتابات الرجل نبحث عن الأدب،
وفي كتابات المرأة نترصد قلة الأدب..".
(6)
"ألستم أنتم من قلتم يوما:
«صوتنا فرصتنا ضد الفساد
والاستبداد»،
فإمَّا أنكم أخطأتم التعبير،
أو أننا أخطأنا الفهم".
من أوائل التسديد وإلى آخر طلقة، تضغط فاطمة على زناد الكلمة، وتضع حماة الوقت المعطوب في مهب السؤال / الفخ؛ لكي تكشف هشاشة الوطن على مرأى من بهتان السياسة.
كل عبارة تسديدة؛ وكل نص طلقة. وما من هدنة على جبهات حبر راصد لتجليات السقوط؛ ومرابط خلف نوازل شعب يراه يئن لفرط التفاقم المهول في أعداد سُرّاق الوطن !
"ما نستحقه مجانا،
نشتريه بلا تفاوض،
وما يستحق منا ثمنا،
«نختلسه» بالمجان...".
وكثيرا ما انتقلت بها النصوص من موقع الكلمة إلى مقام الصَّفَّارَة، فتحولت إلى حَكَم يدير مباراة ساخنة بين مغرب نحلم به، وآخر نستيقظ على كَوَابِيسه !!
فإذا قرأتم / رأيتم فاطمة الإفريقي تشهر الورقة الحمراء في وجه حُماة الأوضاع المعاقة، وعلى مرأى من جمهور مغلوب على شتى أموره، فاعلموا أنها ارتدت بِذْلة الحَكَم !
"وهل نقدر اليوم،
على وقف انتشار رأي معارض
بوضع كاتبه داخل زنزانة
انفرادية ؟؟…".
(7)
"لن أقترف، بعد اليوم،
جُرْم الكتابة...".
إني أمام كاتبة غير مُهادِنة؛ عرفت كيف تحول أسلوبها إلى عنوان دال على مسارها. من بَدْء يراع حَتَّى تراكم نصي، أدركت، بألمعية، أن الكِتَابَةَ ليست إلاَّ جُرْمًا في زمن مُغَيَّب، وداخل مجتمع تكتنفه شتى المَقَاييد، وفي ظل سياسات منزوعة الأمل.
"أيها الحراس المُرابضون بمدافعهم
الرشاشة
خلف أكياس رمل الذكريات والأحلام
بجمجمتي..
فهمتكم، أيها المفتشون بين ثنايا ضعفي
عن أخطاء محتملة،
أرفع الراية البيضاء وأعلن هزيمتي،
وسأنسحب مستسلمة من حلبة المعركة".
كان هذا في "المقال الأخير"، الذي أدمى قراءتنا، وآل بنا صوب ما أحزن فرحنا بها. كنت أفتش عن "خيط أريانة" في إجهاشها الذي ظل طي ذاكرتي:
"احتلوا حديقتي السرية
وزرعوا بين ورودها ألغاما متفجرة،
سأنسحب..
لأنهم يخيروني بين الكلام أو بسمة
أطفالي،
سأخرس…”.
(
"كعاشقة ممنوعة من الحب،
أتمرد على أعراف القبيلة
لأختلس لحظة عشق مع
القلم..".
بين توتر: "سأنسحب"، وصعقة: "سأخرس"، جاء الفرج: "ما أَحلىٰ الرُّجوعَ إِلَيهِ". وكان الرجوع، استمر الحلم، تدفق القلم، و"لابد مما ليس منه بد"، بعبارة سيد المبصرين طه حسين.
وفي إِبَّان استشراء صمتها، أنا توقعت منها أن تجهر: "عذرا قلمي لأنني هجرتك يوما..". مثلما توقعت أن تهمس في آذاننا: "سأكتب وأواصل نشر حلمي وجنوني"، لأجل "ذلك الوطن الذي يخفق مع قلبي كقصيدة حب وأغنية صوفية...".
"انسحبوا
من مملكتي..”.
كم عسير علينا أن نلبي نداء غضبها؛ وكم مفيد لنا أن نعصي أمر فداحتها. ذلك لأن انسحابنا منها لا يعني سوى خروجها منا؛ وهذا أكبر من أن تتحمله قلوبنا التي تقرأ لها قبل العيون.
"هل قلت يوما لن أعود إليه ؟
لا تصدقوا العشاق حين يغضبون،
فبدون أن أدري، تركت للقلم يدي
لتنام كالعصفور بين يديه..
كم قلت إني غير عائدة للكتابة ورجعت..
ما أحلى الرجوع إليها، وما أمر خيبات
الوطن
حين تحفر عميقا في الجرح
فتستفز الصمت وتهزم الخوف
وتفجره بركانا غاضبا من الكلمات..".
(1)
"يبدو أننا جميعا
في سراح مؤقت".
لا تحمل القلم وتذهب صوب الكتابة؛ إلا حين تتأبط القضية وتسير نحو الحرية. وهنا، في مسافة ثكلى بين إشهار صرخة وتربية أمل، تقف كتاباتها شاهدة؛ بالصوت والحبر، على زمن وجدنا أنفسنا فيه ونحن "نتمرَّن على الفقدان" !
هي ذي جملتي / مفتاحها، ما إن عثرت عليها حتى جاءني الإدراك بأنها حين احترمت قدسية الكلمة؛ احترمها صدق الحرف. أوليست هي من أرشدتني إلى بصيرة بصري، لما أجهرت، بعلو نادر في زمن الهبوط المزمن، قائلة "معذرة على عجزي، لا أملك إلاَّ الكلمات، فقط الكلمات الباردة، وإحساس مُلتهب بالخوف.." !؟
إذن، كل بلاغة تسعى إلى تقصي ميزات فاطمة الإفريقي؛ مقدورها أن تصاب بهيبة حبر. كل فصاحة هنا، لا أرى مصيرها سوى التلعثم إزاء هذا المزيج الخلاق من التميز والفرادة والعمق؛ الذي يستدعي الحذر من تبديات الإغواء المدهش للمعانها !
"الشعور بالخوف
ليس جريمة".
(2)
"أراقب ذاتي عن كثب،
وأرصدها كي لا تنبعثَ فيها روحٌ أخرى..
أحرس ذاتي بذاتي،
دون أن أهدرَ وقتَ الحرَّاس..".
علي أن أتمرَّن على أغوار صوتها؛ قبل أن ألج صبوات نصها. ليس لأن صوتها هو مشتل يدها؛ بل لأن نصها هو أرخبيل صوتها. ولذا، علي أن أحاول تجريب الابتعاد عنها، لكي أقترب منها؛ لأنها دعتنا إلى "تجريب الحياة بأرواح مبتورة وأيادٍ صامتة..".
"أراقب ذاتي ذاتياً،
فأجد نفسي أكتب مديحاً مرتَّبا عن
بلدي،
لا أفهمه، يشبه الخَشب".
والآن، أنا أمارس انتقالي من ضفة تعبير جلي، يشي برشاقة الذات؛ إلى ضفة دلالات مسكونة بحرائق الوطن. ضفتان تكتنز بهما فاطمة، عبر الأولى تعثر على جرأتها في حفر يتقصى شسوع الموقف؛ ومن خلال الثانية تجد شروقها في أعالي المصداقية.
وإني هناك رابض بين ضفتيها، فماذا أرى ؟! ثمة زوابع بحجم امرأة مثيرة لجدل الإعجاب، وليس، فقط، لأنها تتخطى الاعتداد بالممكن، إلى الاعتداد بالمستحيل، وإنما، كذلك؛ لأنها ترى الواقع الماثل أمام عينيها يتناقض مع الوطن المرسوم في قلبها !
"تنكمشُ ذاتي وتتقلصُ،
وتستسلم مرتجفةً،
فتراقب ذاتها بذاتها، بحرصٍ
شديد،
وتكتفي بتغيير الوضع العام
لأحمر الشفاه على شفتيها
المطبقتين".
(3)
"لسنا زبناء ورعايا،
نحن مواطنون".
تقطن فاطمة الإفريقي في منتصف الأشياء؛ لكي تقبض على مآلات الأعماق. ومثلما تعري "صور البؤس.. وبؤس الصور"، ترى "الحق في الفرح، والحق في الغضب"؛ ثم تعلو فوق العابر، كي تقول: "ما أحلى الرجوع اليه"؛ إلى الوطن الذي يضيق معناه حين "يصير بحجم كرةٍ وصورةٍ فوتوغرافية وقميصٍ أحمرَ وهدفٍ في مرمى.." !
"في مرات كثيرة
أقف أمام المرآة وأنظر جيدا إلى نفسي،
وأفتش عن أخطائي وعيوبي".
وهي لا تنفي "عيوب" شجاعتها، بل هي تشهرها على ملإ من جرأة انتمائها، بيد أن كل التهم التي أشهروها في وجه حبرها، في مناعة صوتها، وفي طغيان حضورها، هي تهم تليق بها، تجيء على مقاس مسارها المشاكس الذي استعصى على أيما ترويض، أو تدجين؛ لأنه قد من صلابة لينها "عشم إبليس في الجنة" !!
"في فضاء آخر، أزرق، وشفّاف،
ومفتوح، وآني، وحر وتفاعلي،
صار الرقيب شبحا من الماضي،
وصار التعتيم مهمة مستحيلة".
(4)
"لا أدري لماذا ينسون وجودنا كمواطنين
حين يوزعون بينهم ثروات الوطن؟،
وكيف يتذكروننا فجأة حين يحتاجون
إلى عرضٍ احتفالي لإثبات الشرعية ؟..".
في بدء بزوغ ضوئها، كانت هي، ما سواها، من عقدت صلحا بيننا وبين شاشة لا تمثلنا، عبر "مساء الفن"، البرنامج الذي راهن كثيرا، وبقتالية؛ على أهمية الفن في بناء مجتمع متوازن.
وفي منتهى إشعاع حبرها، كانت هي من ٱل بنا يراعها المشاغب، المنفلت من سلطة الرقابة، إلى تلقي تفاؤل قلم في وطن متشائم، عبر تفرد الرؤية، وشرف الكلمة؛ ورسوخ القناعة.
إن ظهورها الباذخ على شاشة التلفزة، وشكل تعاطيها مع شجون الفن، هو، نفسه، بروزها المثير للجدل على "أخبار اليوم"، والفارق يتجلى في تمكنها من وعي الضوء هناك؛ ويتبدى في انتمائها الثر لقدسية الكلمة هنا.
"القطب العمومي متخلف، وانتقائي،
وشعبوي في مقاربته للمنتوج الفني".
ولأنها سيدة المساء بلا منازع، وأيقونة الصباح بلا مثيل، جاهرت بالرأي الحر من كل عبودية، دون أن يتمكنوا من وأد صوتها، وكل قبر حفروه لها لم يتسع لجسدها الذي هو بشسع وطن !
"لهم وطنهم، ولي وطني.
يختنق صوتُ الوطن،
فيصير صياحا نشازا وشعارا بلا
صدى
ولازمةَ نصرٍ في خاتمة أغنية
شعبية..".
(5)
"نعم، النساء كائناتٌ بلوريّة،
من السهل كسرها في مجتمع ذكوري..
لكن، هناك نساءٌ يخبئن خلف البِلوّر الهش
ضوئا ساطعاً بالشجاعة، وتهشيم قشرة البلور،
لا يزيدهن إلاَّ إشراقاٌ وإحراقاً..".
أنا لم أتوقع، يوما، من الحالة الاستثنائية المسماة فاطمة الإفريقي، توقيعا "بقلم أحمر الشفاه"، لا لأنها تنفي بلورها الأنثوي، وإنما لأنها تؤكد هشاشة الثقافة الذكورية. لذا، يبدو لي توقيعها مثل خطوها تماما: عصارة عمر، وكثافة حياة.
ولا أخفيكم جهرا، إني حين أستشعر خطر وأد هنا، أو يصلني نعي إجهاض هناك، أبحث عن رأي فاطمة، المرأة والكاتبة معا، كي أدرك الفرق المغوي بين سر يخفي فقر الاستعباد، وعلانية تنتنصر لثراء الحرية.
"حزينة كامرأة،
لأنه في بلدي لا تزال النساء
تتعرضن للرجم الرمزي،
وتُسَقن مُهانات إلى الزنازن
بتهم عاطفية..".
ولم تسمح، ولو لحظة من أزمنة أحبارها، بوضع مقالاتها المنتصرة للأنوثة قيد أي مساومة. وكل لحظة بدت أكبر من أن يرتعد قلمها أمام أباطيل يراد لها أن تغدو حقائق، تحت ضغط مد ذكوري؛ نراه وهو يتفشى في ثقافة وطن عاق ومعاق !!
"لا بأس !
دعوهم يرجمون البِلوّر المهشم،
فنحن لا نرى إلاَّ النور الساطع
للحقيقة".
وقبل أن أغادر هذه الفقرة، سأقرأ لكم ما تيسر من فتوحات يدها الواهبة، من كشوفات محبرتها الهطالة، ومن جوامع التقصي الذي تضيء به دهاليز الأفكار، وأغوار النصوص:
"حين يكتب الرجل، نسبح في روح المعنى..
وحين تكتب المرأة، ننشغل بجسد الحرف.
في كتابات الرجل نبحث عن الأدب،
وفي كتابات المرأة نترصد قلة الأدب..".
(6)
"ألستم أنتم من قلتم يوما:
«صوتنا فرصتنا ضد الفساد
والاستبداد»،
فإمَّا أنكم أخطأتم التعبير،
أو أننا أخطأنا الفهم".
من أوائل التسديد وإلى آخر طلقة، تضغط فاطمة على زناد الكلمة، وتضع حماة الوقت المعطوب في مهب السؤال / الفخ؛ لكي تكشف هشاشة الوطن على مرأى من بهتان السياسة.
كل عبارة تسديدة؛ وكل نص طلقة. وما من هدنة على جبهات حبر راصد لتجليات السقوط؛ ومرابط خلف نوازل شعب يراه يئن لفرط التفاقم المهول في أعداد سُرّاق الوطن !
"ما نستحقه مجانا،
نشتريه بلا تفاوض،
وما يستحق منا ثمنا،
«نختلسه» بالمجان...".
وكثيرا ما انتقلت بها النصوص من موقع الكلمة إلى مقام الصَّفَّارَة، فتحولت إلى حَكَم يدير مباراة ساخنة بين مغرب نحلم به، وآخر نستيقظ على كَوَابِيسه !!
فإذا قرأتم / رأيتم فاطمة الإفريقي تشهر الورقة الحمراء في وجه حُماة الأوضاع المعاقة، وعلى مرأى من جمهور مغلوب على شتى أموره، فاعلموا أنها ارتدت بِذْلة الحَكَم !
"وهل نقدر اليوم،
على وقف انتشار رأي معارض
بوضع كاتبه داخل زنزانة
انفرادية ؟؟…".
(7)
"لن أقترف، بعد اليوم،
جُرْم الكتابة...".
إني أمام كاتبة غير مُهادِنة؛ عرفت كيف تحول أسلوبها إلى عنوان دال على مسارها. من بَدْء يراع حَتَّى تراكم نصي، أدركت، بألمعية، أن الكِتَابَةَ ليست إلاَّ جُرْمًا في زمن مُغَيَّب، وداخل مجتمع تكتنفه شتى المَقَاييد، وفي ظل سياسات منزوعة الأمل.
"أيها الحراس المُرابضون بمدافعهم
الرشاشة
خلف أكياس رمل الذكريات والأحلام
بجمجمتي..
فهمتكم، أيها المفتشون بين ثنايا ضعفي
عن أخطاء محتملة،
أرفع الراية البيضاء وأعلن هزيمتي،
وسأنسحب مستسلمة من حلبة المعركة".
كان هذا في "المقال الأخير"، الذي أدمى قراءتنا، وآل بنا صوب ما أحزن فرحنا بها. كنت أفتش عن "خيط أريانة" في إجهاشها الذي ظل طي ذاكرتي:
"احتلوا حديقتي السرية
وزرعوا بين ورودها ألغاما متفجرة،
سأنسحب..
لأنهم يخيروني بين الكلام أو بسمة
أطفالي،
سأخرس…”.
(
"كعاشقة ممنوعة من الحب،
أتمرد على أعراف القبيلة
لأختلس لحظة عشق مع
القلم..".
بين توتر: "سأنسحب"، وصعقة: "سأخرس"، جاء الفرج: "ما أَحلىٰ الرُّجوعَ إِلَيهِ". وكان الرجوع، استمر الحلم، تدفق القلم، و"لابد مما ليس منه بد"، بعبارة سيد المبصرين طه حسين.
وفي إِبَّان استشراء صمتها، أنا توقعت منها أن تجهر: "عذرا قلمي لأنني هجرتك يوما..". مثلما توقعت أن تهمس في آذاننا: "سأكتب وأواصل نشر حلمي وجنوني"، لأجل "ذلك الوطن الذي يخفق مع قلبي كقصيدة حب وأغنية صوفية...".
"انسحبوا
من مملكتي..”.
كم عسير علينا أن نلبي نداء غضبها؛ وكم مفيد لنا أن نعصي أمر فداحتها. ذلك لأن انسحابنا منها لا يعني سوى خروجها منا؛ وهذا أكبر من أن تتحمله قلوبنا التي تقرأ لها قبل العيون.
"هل قلت يوما لن أعود إليه ؟
لا تصدقوا العشاق حين يغضبون،
فبدون أن أدري، تركت للقلم يدي
لتنام كالعصفور بين يديه..
كم قلت إني غير عائدة للكتابة ورجعت..
ما أحلى الرجوع إليها، وما أمر خيبات
الوطن
حين تحفر عميقا في الجرح
فتستفز الصمت وتهزم الخوف
وتفجره بركانا غاضبا من الكلمات..".