بهاء المري - رجْع المقعد الخالي...

تَسلَّل عطرُها في هدوءٍ ليُعلن عن مجيئها، كوشوشةٍ قديمةٍ يعرفها ‏القلب قبل الأنف. توقّفت أنفاس القاعة. تحوّلت الأعين عن المحاضر ‏الماتع، واشرأبَّت الأعناق إليها في شَغف، كأنها الحلم حين يمشي على ‏أطراف الوقت. ‏
تهادَت بين الصفوف في شموخ لا يطلب اعترافًا، لا تعبأ بهمهمة ‏الانبهار ولا بالعيون الفاحصة التي تتأملها كما تُقرأ القصائد النادرة. بلغت ‏المقعد المخصص لها، الذي شاء القدر أن يكون بجواري.

لم أنظر إليها مباشرة، فقط سَرقتُ لحظةً من طرف العين. التقَت ‏نظراتُنا كبرقٍ خاطفٍ يُشعل سماء الذكرى. ارتجَّت الذاكرة، وتفتَّحت فيها ‏أبواب كانت مغلقة منذ زمن. لون شعرها الكستنائي، ابتسامتها الساكنة، ‏رائحة حضورها... كلها أشياء أيقظتني من غفلة العُمر.‏
لم أتجرأ على الكلام. كان اسمها يلامس لساني دون أن ينطق، ‏وكانت الحكاية تطرق باب قلبي دون أن أدعوها. كيف أعيد النبض لاسمٍ ‏قد يكون مات في وجدانها؟ كيف أناديها بأحرف ربما ذابت في صمت ‏السنين؟ ماذا لو لم تتذكرني؟ ماذا لو كانت قد طوت الصفحة وأنا مازلتُ ‏أقرأ السطر الأول؟ ‏
بعد انتهاء الندوة، لم أغادر. بقيتُ في مكاني كما لو أني أترقَب ‏حدثًا سِريًا لا يعلمه سواي. راقبتُ القاعة وهي تفرغ، الحضور يغادرون ‏تباعًا، وهي وحدها تبقى، كأنها تنتظر.‏
حدَّثتني نفسي: إنها تنتظرك، هذا البطء ليس عشوائيًا، بل توقّفٌ ‏محسوب على حدود اللقاء. نشوتي بهذا الاحتمال كانت تكفي لتوقظ الجرأة ‏في صدري لكنني... تراجعتُ من جديد. ‏
مَن قال إنها تنتظرني؟ لعلها فقط تسكن هدوءها كما يسكن الغَيم ‏قِمَم الجبال، بلا قصد ولا نية. لَعلِّي أنا من يَنسج الأمل من دخان.‏
وقفتُ أخيرًا، عزمتُ على الخروج، فاعترضَتْ طريقي كما لو أن ‏الكون رتَّب لنا لقاءً غير مُرتَّب. نظرتُ إليها وسألت: "أتنتظرين أحدًا؟
قالت اسمي. نطقتُه بحنين لا يَتعثر، كأنها تُخرجه من دفء قلبها ‏لا من فمها، ثم أضافت بابتسامتها التي تفوح كالعطر: "نعم.. أنتظركَ أنت".‏
ارتدَّ صدى الكلمات داخلي كأنها نُبوءة تحققت أخيرًا. نظرتُ ‏حولي، وجدتُني وحيدًا. لا صَوت. لا أحد. القاعة خالية إلا منِّي والمقعد ‏الذي كانت تجلس فيه. نظرتُ إليه طويلًا، وهمَستُ لنفسي: كانت هنا.‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى