تَسلَّل عطرُها في هدوءٍ ليُعلن عن مجيئها، كوشوشةٍ قديمةٍ يعرفها القلب قبل الأنف. توقّفت أنفاس القاعة. تحوّلت الأعين عن المحاضر الماتع، واشرأبَّت الأعناق إليها في شَغف، كأنها الحلم حين يمشي على أطراف الوقت.
تهادَت بين الصفوف في شموخ لا يطلب اعترافًا، لا تعبأ بهمهمة الانبهار ولا بالعيون الفاحصة التي تتأملها كما تُقرأ القصائد النادرة. بلغت المقعد المخصص لها، الذي شاء القدر أن يكون بجواري.
لم أنظر إليها مباشرة، فقط سَرقتُ لحظةً من طرف العين. التقَت نظراتُنا كبرقٍ خاطفٍ يُشعل سماء الذكرى. ارتجَّت الذاكرة، وتفتَّحت فيها أبواب كانت مغلقة منذ زمن. لون شعرها الكستنائي، ابتسامتها الساكنة، رائحة حضورها... كلها أشياء أيقظتني من غفلة العُمر.
لم أتجرأ على الكلام. كان اسمها يلامس لساني دون أن ينطق، وكانت الحكاية تطرق باب قلبي دون أن أدعوها. كيف أعيد النبض لاسمٍ قد يكون مات في وجدانها؟ كيف أناديها بأحرف ربما ذابت في صمت السنين؟ ماذا لو لم تتذكرني؟ ماذا لو كانت قد طوت الصفحة وأنا مازلتُ أقرأ السطر الأول؟
بعد انتهاء الندوة، لم أغادر. بقيتُ في مكاني كما لو أني أترقَب حدثًا سِريًا لا يعلمه سواي. راقبتُ القاعة وهي تفرغ، الحضور يغادرون تباعًا، وهي وحدها تبقى، كأنها تنتظر.
حدَّثتني نفسي: إنها تنتظرك، هذا البطء ليس عشوائيًا، بل توقّفٌ محسوب على حدود اللقاء. نشوتي بهذا الاحتمال كانت تكفي لتوقظ الجرأة في صدري لكنني... تراجعتُ من جديد.
مَن قال إنها تنتظرني؟ لعلها فقط تسكن هدوءها كما يسكن الغَيم قِمَم الجبال، بلا قصد ولا نية. لَعلِّي أنا من يَنسج الأمل من دخان.
وقفتُ أخيرًا، عزمتُ على الخروج، فاعترضَتْ طريقي كما لو أن الكون رتَّب لنا لقاءً غير مُرتَّب. نظرتُ إليها وسألت: "أتنتظرين أحدًا؟
قالت اسمي. نطقتُه بحنين لا يَتعثر، كأنها تُخرجه من دفء قلبها لا من فمها، ثم أضافت بابتسامتها التي تفوح كالعطر: "نعم.. أنتظركَ أنت".
ارتدَّ صدى الكلمات داخلي كأنها نُبوءة تحققت أخيرًا. نظرتُ حولي، وجدتُني وحيدًا. لا صَوت. لا أحد. القاعة خالية إلا منِّي والمقعد الذي كانت تجلس فيه. نظرتُ إليه طويلًا، وهمَستُ لنفسي: كانت هنا.
تهادَت بين الصفوف في شموخ لا يطلب اعترافًا، لا تعبأ بهمهمة الانبهار ولا بالعيون الفاحصة التي تتأملها كما تُقرأ القصائد النادرة. بلغت المقعد المخصص لها، الذي شاء القدر أن يكون بجواري.
لم أنظر إليها مباشرة، فقط سَرقتُ لحظةً من طرف العين. التقَت نظراتُنا كبرقٍ خاطفٍ يُشعل سماء الذكرى. ارتجَّت الذاكرة، وتفتَّحت فيها أبواب كانت مغلقة منذ زمن. لون شعرها الكستنائي، ابتسامتها الساكنة، رائحة حضورها... كلها أشياء أيقظتني من غفلة العُمر.
لم أتجرأ على الكلام. كان اسمها يلامس لساني دون أن ينطق، وكانت الحكاية تطرق باب قلبي دون أن أدعوها. كيف أعيد النبض لاسمٍ قد يكون مات في وجدانها؟ كيف أناديها بأحرف ربما ذابت في صمت السنين؟ ماذا لو لم تتذكرني؟ ماذا لو كانت قد طوت الصفحة وأنا مازلتُ أقرأ السطر الأول؟
بعد انتهاء الندوة، لم أغادر. بقيتُ في مكاني كما لو أني أترقَب حدثًا سِريًا لا يعلمه سواي. راقبتُ القاعة وهي تفرغ، الحضور يغادرون تباعًا، وهي وحدها تبقى، كأنها تنتظر.
حدَّثتني نفسي: إنها تنتظرك، هذا البطء ليس عشوائيًا، بل توقّفٌ محسوب على حدود اللقاء. نشوتي بهذا الاحتمال كانت تكفي لتوقظ الجرأة في صدري لكنني... تراجعتُ من جديد.
مَن قال إنها تنتظرني؟ لعلها فقط تسكن هدوءها كما يسكن الغَيم قِمَم الجبال، بلا قصد ولا نية. لَعلِّي أنا من يَنسج الأمل من دخان.
وقفتُ أخيرًا، عزمتُ على الخروج، فاعترضَتْ طريقي كما لو أن الكون رتَّب لنا لقاءً غير مُرتَّب. نظرتُ إليها وسألت: "أتنتظرين أحدًا؟
قالت اسمي. نطقتُه بحنين لا يَتعثر، كأنها تُخرجه من دفء قلبها لا من فمها، ثم أضافت بابتسامتها التي تفوح كالعطر: "نعم.. أنتظركَ أنت".
ارتدَّ صدى الكلمات داخلي كأنها نُبوءة تحققت أخيرًا. نظرتُ حولي، وجدتُني وحيدًا. لا صَوت. لا أحد. القاعة خالية إلا منِّي والمقعد الذي كانت تجلس فيه. نظرتُ إليه طويلًا، وهمَستُ لنفسي: كانت هنا.