كلما اقترب منها، اشتّمت رائحة امرأة أخرى. لم يكن من السهل عليها تقبل الأمر و كأن شيئاً لم يكن، لكنها تبتلع الأيام على مضض
كثيرًا ما حدّثتها نفسها "ألا يتساءل يوماً أنني قد أعاقبه بالمثل؟، أن أجعل حياته كابوساً من الشك و الغيرة و الألم؟ "
ها هو ككل ليلة يأتي منتشياً، رائحة الكحول تفوح منه كلما نطق فوهُ، " عليّ أن أتصنع الغباء، كأني لا أرى، لا بل أغيّبُ حواسي الخمس .. و أضحك في وجهه ضحكتي المصطنعة الواجبة". تضحك والدته عندما تشتكي لها، تضحك.. وتربت على يدها
-عليك أن تتحملي، معظم الرجال يجهلون، ألا يعود إليك كل ليلة ليدفئ فراشك؟ فليفعل ما يفعل، أخر الأمر هو يعود، أليس كذلك؟ إذًا كل شيء بخير.
" يدفئ فراشك"! كم تمقت هذه العبارة التي كانت تسمعها من حماتها، من جارتها المسنّة، وحتى من والدتها.. فتنكفئ على نفسها رغماً عنها.
و كعادتها في أيامها الخوالي، تقضي على وحدتها وتهدهد خيبتها، بدسّ رأسها في هاتفها، تلك الليلة، تنبّهت لرسالةٍ أتتها عبر الفيسبوك
-مساء الخير .
ارتبكت، راحت عيناها تدور في أرجاء الغرفة.. يداها ترتعشان على لوحة المفاتيح، و غير حيرة اعتلت روحها، أ تأخذ الأمر على هونٍ، و تجيب؟ أم تئد هذا الأمر في مهده..
البروفايل لرجل أربعيني الملامح، حدثتها نفسها، " لم لا، ربما أتخلص من كل هذا الجمود، أحسّ أنني سأصاب بالتوّحد. لن يتعدى الأمر حديثاً عادياً و.. فقط"
-مساء الخير..
كانت القطرة التي سبقت الغيث، و ها هو الحديث يطول، و يتكرر .. قد أصبح متنفسها الوحيد، و كلها ثقة أنها، كما صار يردّد لها عادة و مرارًا، المرأة التي أخرجته من غربته، من حزنه، من ذاك الغرق في الفقد بعد وفاة زوجته.
هو يراهن على تعلّقها به، لم يعدم وسيلةً تمكنه من استدرار عاطفتها، و كلّما امتدت ساعات الحديث بينهما، أحس بنشوةٍ غامرة، ربما لأنه قد اقترب.
هي لم تعد تهتم لذاك الذي يأتيها ليلاً و قد أزكمت رائحته البيت كله، لم تعد تهتم لرائحة النساء العالقة في ثنايا ثيابه أو ذاك البريق الذي يعتلي جسده. يأتي ليتابع حفلة انتشائه بها. ينهش جسدها، ثم يرتدّ منهكًا يوليها ظهره ليغرق في نومٍ عميق. كم مرة بكت بعد كل ليلةٍ يُباشرها فيها، تُهرع إلى الحمام كأنها تهرب من لعنةٍ تلاحقها، تزيل عن جسدها كل أثرٍ له، و كأنها تغتسل من رجس، تسكب عليه من دموعها أكثر مما تسكب من الماء.
هذه المرة، لم تبكِ. لم تُهرع إلى الحمّام. جلست على طرف السرير، وراحت تنظر إليه وهو يغطّ في نومٍ عميق، فمه نصف مفتوح، وشخيره يكاد يشقّ جدران روحها. شعرت باشمئزاز لم تعرفه من قبل. لم يكن فقط نفورًا، بل رغبة في الخلاص، في اجتثاث هذا المتكوّم بجانبها من حياتها.
صباحًا، أعدّت له قهوته كالعادة، وضعت فيها القليل من السكر، كما يحب. لم يلحظ، هو دائمًا لا يلحظ تفاصيلها الصغيرة التي تعنيها كثيرًا، شيئٌ صغيرٌ، وصلها في طردٍ بريدّي من رجل الفيسبوك. كانت مزحة منه أولاً، ضحكت حينها، لكنها لم تنسَ الجملة.
شرب قهوته، صامتًا كعادته، لا يتبادل معها كلمة، وكأن الكلمات قد ماتت في فمِه، فقد تعطّلت لغة الحوارِ بينهما منذ وقت ليس بالقريب. غادر المنزل، يصفقني الفراغ خلفه كعادتي أيضًا. جاء المساء دونه.
اتصال هاتفي من قسم الشرطة، يخبرها أنهم عثروا عليه جثةً هامدة، سقط ضحية نوبة قلبية مفاجئة في سيارته على هامش الطريق. صدّقت الخبر، بكت أمام الجميع، لكن داخلها كان هناك صمتٌ مطبقٌ، وهدوءٌ عميق، كمن تنفّس الحياة بعد غرقٍ طويل.
لم تكن الأيام التي تلت سوى ريحٍ تعصف بهدوءٍ مترنّح، ما بين لومٍ و تبرير. أصبح رجل الفيسبوك أقرب إليها من أي وقت مضى.. قال إنه يريد أن يراها. كان وسيمًا، هادئ الملامح، يُنصت أكثر مما يتكلم، وإذا حدّث، كان صوته كأنما يخرج من أعماق بحرٍ ساكن، و عيناه تحملان أسرارًا كثيرة. تحدث عن ألمه، عن خسارته، عن وحدته.. لكن ليس عن زوجته. في تلك اللحظة شعرت أنها ترى نفسها فيه، "ها قد ابتسم حظي أخيرًا"، هكذا حدّثتها نفسها. وكأن الجليد الذي كان يلف قلبها قد بدأ يتحطم، و العاصفة بدأت بالسكون، و أن سفينها قد وجدت مرساها أخيرًا. وبينما كان يُخرج محفظته لدفع الحساب، سقطت صورة صغيرة من جيبه، التقطتها قبل أن يدرك، و…تجمّدت.
كانت صورة قديمة… لزوجها يضحك و ذراعه تحيط بكتف رجلٍ آخر… هو نفسه من تجلس أمامه الآن.
ارتجف قلبها، نظرت إليه و قد ارتدت نظراتها قميص الحيرة و تساؤلات تعلن حالة استنفار! هو أيضًا تجمّد…قال بهدوء قاتل:
“كنتُ صديقه الأقرب… الحميم، هل تفهمين؟ أحببته بقدر ما كرهتك….”
ثم أردف
“لكنّه خانني و… تزوّجك"
سمية الإسماعيل/ سورية
كثيرًا ما حدّثتها نفسها "ألا يتساءل يوماً أنني قد أعاقبه بالمثل؟، أن أجعل حياته كابوساً من الشك و الغيرة و الألم؟ "
ها هو ككل ليلة يأتي منتشياً، رائحة الكحول تفوح منه كلما نطق فوهُ، " عليّ أن أتصنع الغباء، كأني لا أرى، لا بل أغيّبُ حواسي الخمس .. و أضحك في وجهه ضحكتي المصطنعة الواجبة". تضحك والدته عندما تشتكي لها، تضحك.. وتربت على يدها
-عليك أن تتحملي، معظم الرجال يجهلون، ألا يعود إليك كل ليلة ليدفئ فراشك؟ فليفعل ما يفعل، أخر الأمر هو يعود، أليس كذلك؟ إذًا كل شيء بخير.
" يدفئ فراشك"! كم تمقت هذه العبارة التي كانت تسمعها من حماتها، من جارتها المسنّة، وحتى من والدتها.. فتنكفئ على نفسها رغماً عنها.
و كعادتها في أيامها الخوالي، تقضي على وحدتها وتهدهد خيبتها، بدسّ رأسها في هاتفها، تلك الليلة، تنبّهت لرسالةٍ أتتها عبر الفيسبوك
-مساء الخير .
ارتبكت، راحت عيناها تدور في أرجاء الغرفة.. يداها ترتعشان على لوحة المفاتيح، و غير حيرة اعتلت روحها، أ تأخذ الأمر على هونٍ، و تجيب؟ أم تئد هذا الأمر في مهده..
البروفايل لرجل أربعيني الملامح، حدثتها نفسها، " لم لا، ربما أتخلص من كل هذا الجمود، أحسّ أنني سأصاب بالتوّحد. لن يتعدى الأمر حديثاً عادياً و.. فقط"
-مساء الخير..
كانت القطرة التي سبقت الغيث، و ها هو الحديث يطول، و يتكرر .. قد أصبح متنفسها الوحيد، و كلها ثقة أنها، كما صار يردّد لها عادة و مرارًا، المرأة التي أخرجته من غربته، من حزنه، من ذاك الغرق في الفقد بعد وفاة زوجته.
هو يراهن على تعلّقها به، لم يعدم وسيلةً تمكنه من استدرار عاطفتها، و كلّما امتدت ساعات الحديث بينهما، أحس بنشوةٍ غامرة، ربما لأنه قد اقترب.
هي لم تعد تهتم لذاك الذي يأتيها ليلاً و قد أزكمت رائحته البيت كله، لم تعد تهتم لرائحة النساء العالقة في ثنايا ثيابه أو ذاك البريق الذي يعتلي جسده. يأتي ليتابع حفلة انتشائه بها. ينهش جسدها، ثم يرتدّ منهكًا يوليها ظهره ليغرق في نومٍ عميق. كم مرة بكت بعد كل ليلةٍ يُباشرها فيها، تُهرع إلى الحمام كأنها تهرب من لعنةٍ تلاحقها، تزيل عن جسدها كل أثرٍ له، و كأنها تغتسل من رجس، تسكب عليه من دموعها أكثر مما تسكب من الماء.
هذه المرة، لم تبكِ. لم تُهرع إلى الحمّام. جلست على طرف السرير، وراحت تنظر إليه وهو يغطّ في نومٍ عميق، فمه نصف مفتوح، وشخيره يكاد يشقّ جدران روحها. شعرت باشمئزاز لم تعرفه من قبل. لم يكن فقط نفورًا، بل رغبة في الخلاص، في اجتثاث هذا المتكوّم بجانبها من حياتها.
صباحًا، أعدّت له قهوته كالعادة، وضعت فيها القليل من السكر، كما يحب. لم يلحظ، هو دائمًا لا يلحظ تفاصيلها الصغيرة التي تعنيها كثيرًا، شيئٌ صغيرٌ، وصلها في طردٍ بريدّي من رجل الفيسبوك. كانت مزحة منه أولاً، ضحكت حينها، لكنها لم تنسَ الجملة.
شرب قهوته، صامتًا كعادته، لا يتبادل معها كلمة، وكأن الكلمات قد ماتت في فمِه، فقد تعطّلت لغة الحوارِ بينهما منذ وقت ليس بالقريب. غادر المنزل، يصفقني الفراغ خلفه كعادتي أيضًا. جاء المساء دونه.
اتصال هاتفي من قسم الشرطة، يخبرها أنهم عثروا عليه جثةً هامدة، سقط ضحية نوبة قلبية مفاجئة في سيارته على هامش الطريق. صدّقت الخبر، بكت أمام الجميع، لكن داخلها كان هناك صمتٌ مطبقٌ، وهدوءٌ عميق، كمن تنفّس الحياة بعد غرقٍ طويل.
لم تكن الأيام التي تلت سوى ريحٍ تعصف بهدوءٍ مترنّح، ما بين لومٍ و تبرير. أصبح رجل الفيسبوك أقرب إليها من أي وقت مضى.. قال إنه يريد أن يراها. كان وسيمًا، هادئ الملامح، يُنصت أكثر مما يتكلم، وإذا حدّث، كان صوته كأنما يخرج من أعماق بحرٍ ساكن، و عيناه تحملان أسرارًا كثيرة. تحدث عن ألمه، عن خسارته، عن وحدته.. لكن ليس عن زوجته. في تلك اللحظة شعرت أنها ترى نفسها فيه، "ها قد ابتسم حظي أخيرًا"، هكذا حدّثتها نفسها. وكأن الجليد الذي كان يلف قلبها قد بدأ يتحطم، و العاصفة بدأت بالسكون، و أن سفينها قد وجدت مرساها أخيرًا. وبينما كان يُخرج محفظته لدفع الحساب، سقطت صورة صغيرة من جيبه، التقطتها قبل أن يدرك، و…تجمّدت.
كانت صورة قديمة… لزوجها يضحك و ذراعه تحيط بكتف رجلٍ آخر… هو نفسه من تجلس أمامه الآن.
ارتجف قلبها، نظرت إليه و قد ارتدت نظراتها قميص الحيرة و تساؤلات تعلن حالة استنفار! هو أيضًا تجمّد…قال بهدوء قاتل:
“كنتُ صديقه الأقرب… الحميم، هل تفهمين؟ أحببته بقدر ما كرهتك….”
ثم أردف
“لكنّه خانني و… تزوّجك"
سمية الإسماعيل/ سورية