ماجد سليمان - أدب المجالس والسَّمَر

قرون طويلة من التراكم الـمعرفي الأدبي، حيث أجاد الأدباء الأوائل في انتخاب النوادر والأخبار والأنثار والأشعار، وأحسنوا تقسيمها إلى أبواب إما على الـموضوعات أو على الـمعاني، شارحين وباسطين ما اتصل بـها من لغة وأنساب وعادات، وراسـمين مظاهر الـحياة وتفاصيلها، فجاءت مصنفاتـهم مـجالس يطّرد فيها القول من فن إلى آخر، خليطه الظرف والفكاهة والنادرة، مُغذية القارئ بثقافة مُتنوعة في فنون القول، ومُنمّية ذوقه الأدبي ووعيه الثقافي.

مَرّت آداب العرب بـمراحل ثلاث، بدأت بإنتاج النصوص، ثم تدوينها، ثم الاصطفاء منها، وتقديـمها، وبذلك ملأوا رحـمهم الله هذا الفراغ الكبير في الثقافة العربية، وأتـمّوا أصول هذا الأدب، وأوجدوا جذوره، فصار ما جاء بعده فرع منه.

هكذا هم أهل الأدب، موسوعيون، لا تـحدّهم حدود، يقرؤون في اللغة والأنساب والأخبار، وقبلها يسافرون في فهم القرآن، ثم ينسجون نصوصهم الأدبية مُشبعة بالـمعاني، فجاءت مُصنّفاتـهم دائرة واسعة من الـمعارف.

إني شغوف بقراءة أخبار ونوادر وأشعار الطبقات الاجتماعية، وباستمرار أُعيد النظر في السرديات الأولى ــ الينابيع الصافية ــ وهي في أصالتها البكر، ولـمعان سبائكها الـخام، مُستقصياً ومُكتشفاً ملامح التعبير عن عصور ومـجتمعات لـم يُلوثها الزّيف، أو تُفسدها الأدلـجة، مُتشاغلاً عن فكرة أنـها إرث لتاريخ اجتماعي في لبوس أدبي لا غير، بل حقلاً خصباً لا حدود له، ينتظر من يـحصده بـمناجل البحث واستخراج ما لـمع وتـجانس من كنوزه الـمدفونة في مناجم الـمصنفات وأمهات الكتب، ثم ضمّها إلى بعضها.

إن الأسـمار والأخبار مُركَّبة من أدب وتاريخ اجتماعي، والأدب قائم على الانتخاب بعين الـمبدع الفنان، ومن ثم تـجسيد الـمُتخيل مُـحيياً التاريخ الاجتماعي، وجاعله أكثر جاذبية، ومُـصوراً مشاعر البشر وسلوكياتـهم في أطراف كثيرة من شارع الـحياة، وكله بطرق أدبية فنية، فالنثر بكل أشكاله يعيش مُتغذياً من التاريخ والوصف الاجتماعي، مُراوحاً بين الـحقيقي والأسطوري، غير خارجٍ عن السياق الاجتماعي.

إن أخبار وسِيَر العرب الأوائل أهم وأصدق من التي يُسمّونـها اليوم كُتب السيرة الذاتية، خصوصاً سِيَر الـمسؤولين ورجال الأعمال، التي تُشعرني بالنفور لسذاجتها وجحودها لتوفيق الله، وتـهويل الكفاح في زمن انبساط الأمن، واتساع الرخاء وسهولة الـحياة، فأخبار وسِيَر العرب الأوائل حقق أصحابـها الشاعرية والفروسية والعدالة الاجتماعية في زمن الـجوع وانعدام الأمن، وشيوع التـحالف القَبَلي، لذا أخبارهم وسِيَرهم وغيرهم من أهل تلك الـمرحلة، لـها وزنـها وقيمتها التي تنهل معانيها الأجيال، لا سِيَر وأخبار الـمعاصرين الـمُنَعّمين أُولي الـحياة التجارية أو الوظيفية الروتينية التي لا تـختلف عن حياة أيّ شخص يعيش عصرنا.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ماجد سليمان، أديب سعودي
صدر له حتى الآن أكثر من 20 عملاً أدبياً
تنوَّعت بين الشعر والرواية والمسرحية والقصة وأدب الطفل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى