جــودت هوشيار - لماذا يجب أن نقرأ الكتب؟..

لم يعد الجيل الجديد يقرأ الكتب، الا نادراً، ويعتقد البعض أن عزوف الشباب عن القراءة، عموماً، وقراءة الكتب خصوصاً، يرجع إلى عدة أسباب، لعل في مقدمتها، ظهورالإنترنت، ووسائل الإعلام المتعددة، وضيق الوقت، ومشاغل الحياة اليومية، وارتفاع أسعار الكتب . ولكن هذه الأسباب لن تقف حائلاً أمام من يحرص على القراءة كطقس دائم من طقوس حياته.

وربما كان السبب الرئيس وراء العزوف عن قراءة الكتب الجادة ، هوعدم شعور الشباب بالحاجة إلى القراءة. وهذا أمر مؤسف، ربما لأنهم لا يعرفون قيمة الكتب في حياة الناس وتطور المجتمعات وفي تأريخ البشرية، فالقراءة إحدى سمات المثقف الواعي والأمم المتحضرة، يحث عليها علماء النفس، ولا يملّ المربون من تأكيد ضرورتها لكل الفئات العمرية، فهي وحدها تفتح أمام القارئ عوالم لا نهائية من العلم والمعرفة والمتعة، وهي مفتاح الثقافة والحصارة والتقدم.

وكل كتاب جيد – خبرة جديدة وتواصل مع العقول الذكية، عقول العظماء، الذين يدفعون بالقارئ إلى التفكير في أمور لم تخطر بباله، أو لم يكن يعرف عنها كثيراً، ولا يحسن التعبير عنها… كما يجد فيها القارئ وصفاً لتلك المواقف والمشاكل الحياتية التي قد تواجهه، وأجوبة عن الأسئلة التي تعذبه.

إننا عندما نتحدث عن قراءة الكتب، لا نعني بذلك هواية اقتناء الكتب لغرض تزيين رفوف المكتبة البيتية أو صالون الاستقبال، من أجل التباهي بثقافة صاحب الدار، فثقافة المرء لا تقاس بعدد الكتب التي يمتلكها، بل بعدد الكتب الكلاسيكية الخالدة والكتب الجديدة القيمة، في شتى ميادين المعرفة والثقافة، التي قرأها بتمعن وتمحيص وتفاعل مع مضامينها وأطال التفكير فيها واستخلص منها ما هو مفيد له في الحياة، وما يعينه على بلوغ مرتبة أعلى من الأنسنة، إن صح التعبير.

يتباهى البعض بكثرة الكتب لديه وبضخامة المكتبة التي يمتلكها، وعندما تتحدث إليه ، لا تشعر على الإطلاق بأنه استفاد حقاً ولو قليلا من الكتب التي قرأها، والأرجح أنه لم يقرأ معظم ما يمتلكه من كتب، أو أنه قرأها بلا مبالاة ودون التعمق في معانيها، ولم يتفاعل معها قط، حيث لا يظهر شيء من أثر القراءة المعمقة في ثقافته وسلوكه وأسلوبه في الكلام.

قراءة أفضل الكتب بتمعن شيء، وقتل الوقت بالقراءة السطحية شيء آخر تماماً. في هذا المبحث القصير نتحدث عن القراءة الجادة، التي ترتقي إلى مستوى التفاعل مع آراء المؤلف وأفكاره. مثل هذه القراءة لها فوائد معرفية وثقافية وصحية واجتماعية عديدة ، نحاول إيجازها في نقاط محددة:

ماذا وكيف نقرأ؟

قراءة الكتب بتمعن مفيدة في مختلف مراحل العمر، والمهم، هو ماذا نقرأ؟ من المشكوك فيه أن تلعب القراءات الخفيفة المسلية أي دور في إثراء معلوماتنا أو تنمية عقولنا. من الممكن أن نقرأ لغرض الترفيه عن النفس وتمضية الوقت أو لمجرد حب الاستطلاع، ولكننا إذا قرأنا شيئاً من روائع الأدب الكلاسيكي ونتاجات الفكر الإنساني، فإننا نعتاد عليها ولا يمكننا الإقلاع عنها بسهولة.

الكتب الخالدة عبر التأريخ الأنساني، تتضمن عصارة الفكر ونتاج العلم وخلاصة الفهم ودوحة التجارب وعطية القرائح وثمرة العبقريات على حد وصف (تريستان تزارا )، ينبغي لكل مثقف أن يقرأها. مثل هذه النتاجات لن تفقد قيمتها العظيمة بمرور الزمن أبداً، رغم تغير الأجيال ونظم الحكم، والتقدم الحضاري.
tristan_tzara

تريستان تزارا

قراءة الكتب العلمية عن نشوء الكون ونظام المجموعة الشمسية تؤدي الى توسعة مداركنا ومخيلتنا وتحسن تصوراتنا وفهمنا لقوانين الطبيعة. و الكتب الثقافية والتأريخية تزيد من معلوماتنا، وقد نستخلص منها العبر والدروس لبناء حاضرنا ومستقبلنا.

أما قراءة كتب السيرة الذاتية والمذكرات الشخصية، فإنها تتيح لنا الاطلاع على خلاصة التجارب الحياتية لشخصيات مثيرة للاهتمام، أسهمت في صنع التأريخ أو كانت شاهدة عليها.

ويمكننا بكل تأكيد الاستفادة من تجاربهم وخبراتهم الحياتية، التي قد تفيدنا مستقبلاً في حياتنا العملية.

وصفوة القول إن قراءة الكتب القيمة سواء كانت تخصصية أو ثقافية عامة، لا غنى عنها لكل انسان يعرف قيمة التراث الإنساني العظيم في العلم والفكر والثقافة. الإنسان الذي لا يقرأ يعيش حياة واحدة فقط، هي حياته، أما من يطلع على تجارب الآخرين، فإنه يعيش حيوات كثيرة .

الكتاب ومصادر المعلومات الأخرى:

كانت النخبة المثقفة تقرأ كثيراً حتى إلى عهد قريب، ربما بسبب عدم وجود مصادر كثيرة للمعلومات، والتسلية والترفيه. لم يكن هناك إنترنت ولا الهواتف الذكية، أما قنوات التلفزيون فقد كانت محلية وعددها محدوداً وتقدم برامج بريئة بالقياس إلى ما تعرضه القنوات الفضائية راهناً .

العزوف عن القراءة ظاهرة عالمية غير مقصورة على بلادنا، وربما يظن البعض من المثقفين الكورد، أن قراءة الكتب في الدول الغربية هي اليوم في أوج ذروتها وازدهارها، وهذا أمر يثير الاستغراب حقاً، وينم عن عدم الإحاطة بمدى تراجع قراءة الكتب في تلك الدول. صحيح أن الإقبال على قراءة الكتب في الغرب لا يزال كبيراً، ولكنه انخفض كثيراً منذ ظهور الإنترنت. الجيل الجديد في كل أنحاء العالم، يبحث عن بدائل أخرى للكتاب عبر المدونات والمنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي، ولكن لا شيء يمكن أن يكون بديلاً للكتب الجيدة. هي وحدها تزودنا بالمعارف المتعمقة وتؤثر في تشكيل رؤيتنا للحياة والعالم .
إن المستوى الثقافي للمجتمع لا يتحدد فقط بمدى شيوع ثقافة القراءة فيه، اومعدل عدد الكتب التي يقرأها المواطن سنوياً، بل أيضاً، بمدى توافر حرية التعبير.koutoub

في المجتمع العلماني المفتوح، الذي يحترم عقل الإنسان ويتيح الفرصة للاطلاع على ثقافات شعوب العالم، ثمة إمكانات أكثر لتطور شخصية الإنسان.

الكتاب، بخلاف التلفزيون، حر من الأغراض النفعية . التلفزيون يعتاش على الإعلان وكثيراً ما يدفعنا إلى شراء هذه السلعة أو تلك ، ومشبع أحياناً بـ (البروباغاندا) السياسية والإيديولوجية. أما مؤلف الكتاب، فلا حاجة له لوضع الإعلانات بين السطور، من اجل الحصول على مال أكثر.

الحياة المعاصرة تتيح للإنسان امكانات كبيرة للتراخي الذهني، أكثر من التفكير العميق والتأمل.

إذا كان المرء يكتفي بمشاهدة برامج التلفزيون وتبادل الآراء والصور في العالم الافتراضي، فهذا شيء عابر لا يلبث في الذهن طويلاً ولا يلعب دوراً يذكر في تنمية الثقافة الحقيقية، أما الكتاب الجاد، فأنه يسهم في تربية الإنسان ويقدم له غذاءً للتفكير في حياته وفي العالم من حوله.

ويوصي الخبراء بتخصيص ساعتين في اليوم لقراءة الكتب الأدبية الجيدة ، وهم على قناعة تامة بان الكتاب المقروء، أفضل من الفيلم المقتبس من الكتاب ذاته، والسبب يكمن في حقيقة أن القراءة لا تحد الخيال البشري . ولهذا السبب تحديداً، وكقاعدة عامة، فإن الفيلم المأخوذ من رواية ما، لا يلبي توقعات الجمهور الذي رسم في ذهنه صورة مغايرة لمحتوى الكتاب.

ومما يؤسف له أن عدد الناس الذين يشعرون بالحاجة إلى قراءة الروايات العظيمة يتضاءل باستمرار، فهم يفضلون مشاهدة برامج التلفزيون والانغماس في ألعاب الكومبيوتر، التي تعرقل تطور الذكاء.

لن تختفي الكتب بطبيعة الحال ولكن الأشكال الجديدة لمصادر المعلومات تضيّق دون ريب المساحة التي كانت تشغلها الكتب في حياة الناس. كتاب المستقبل سوف يصبح أفضل طباعة وأجمل إخراجاً، وقد يكون صالحاً لتقديمه كهدية، تسر العين وتزين رفوف المكتبة البيتية، أكثر من كونها مصدراً للمعرفة، لأن الجمهور القارئ في الإنترنيت أو في الأجهزة المخصصة لخزن وقراءة الكتب، في تزايد مستمر.

القراءة تمرين ذهني:

قامت الباحثة ( نتالي فيليبس) من جامعة (أوكسفورد) بتجارب علمية لدراسة عمل الدماغ الإنساني خلال عملية القراءة، وبرهنت، أن القراءة الجادة تحفز العقل، وتدفعه للعمل بنشاط وتركيز، وتنظم التفكير، وتعمل على تطور الذكاء البشري، بالإضافة إلى فوائدها المعرفية. واثبتت الباحثة أن القراءة لا تقل فائدة عن التمارين الرياضية، لأنها (القراءة) تمرّن الدماغ بأسره.

واتضح من خلال التجربة أنه عند الانتقال من القراءة السطحية من أجل تمضية الوقت إلى الاستيعاب النقدي للمعلومات، يجري في الدماغ تغيير حاد في نوع النشاط العصبي، وفي الدورة الدموية.

القراءة تؤثر في الدماغ البشري بآليات مختلفة، حسب طريقة قراءة الكتاب. وتشير نتائج تلك التجارب إلى أن كل نوع من الحمل العصبي يفيد الدماغ ويمرّنه على نحو مختلف.
al jahez

الجاحظ

عند القراءة يتدفق الدم إلى أجزاء الدماغ المسؤولة عن القدرة على التركيز والاستيعاب المعرفي . في حين أن مشاهدة التلفزيون وعملية اللعب الكومبيوتري، ليس لهما مثل هذا التأثير.

ومن أجل الحفاظ على وضوح العقل في جميع مراحل الحياة، لا بد من التمرين المتواصل للدماغ، ولعل واحدة من أفضل الطرق للقيام بذلك – هي القراءة بشكل منتظم ومدروس. والناس الذين يفضلون القراءة لديهم فرص أفضل لبناء مستقبل مهني ناجح، وعلاقة أفضل في الأسرة.

ومن المعروف علمياً أن جسم الأنسان يشيخ على نحو أسرع، عندما يشيخ الدماغ. القراءة تجبرالدماغ على العمل المتواصل، وبذلك تتأخر الشيخوخة ويبدو الإنسان أصغر سناً من عمره الحقيقي ويعيش حياة أطول.

زيادة الحصيلة اللغوية:

قراءة كتب المؤلفين، الذين يمتازون بجمال اللغة، تعمل على تحسين قدرات الإنسان اللغوية وتطويرها ويساعده على التعبير عن نفسه بشكل أفضل وتجعله متحدثاً أكثر إثارة للاهتمام في عيون الآخرين .

ولعل (الجاحظ ) قد سبق الجميع في بيان مدى تأثير القراءة في شخصية القارئ و تجويد لغته: “والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجوّد بيانك، وفخّم ألفاظك… إن الناس يتحدثون بأحسن ما يحفظون، ويحفظون أحسن ما يكتبون، ويكتبون أحسن ما يسمعون.
لذا لا عجب أن يقول العلماء: إن الناس صنفان: أولئك الذين يقرأون الكتب، وأولئك الذين يستمعون إلى الذين يقرأون.

التأثير النفسي للقراءة:

أثبتت تجارب علمية عديدة أن عملية القراءة تهدئ الأعصاب وتزيل التوتر والقلق، وتخفض من مستوى الإجهاد، على نحو أسرع من الاستماع إلى الموسيقى أو ممارسة رياضة المشي.

فالقراءة رياضة نفسية مريحة للأعصاب، ومتعة في متناول الجميع، وتزود العقول بمواد المعرفة وخبرات البشرية، وتعلمنا، أن نحب وأن نغفر ونتعاطف مع الآخرين .

القراءة قادرة على التأثير الفعال في الحالة العاطفية للإنسان، ويمكن أن تكون وسيلة ناجعة للتغلب على الاكتئاب . فهي تبعدنا عن صراعاتنا النفسية الداخلية، الناجمة عن المشاكل الخارجية، وتعزلنا مؤقتاً عن الواقع بكل توتراته ومشاكله وتساعدنا على الاسترخاء والهدوء.

القراءة تساعد على التواصل مع الآخرين:

القراءة تنمي ثقافة القارئ وتساعده على ايصال أفكاره للآخرين، والتعبير الجيد عما يود قوله وتجعله قادراً على فتح موضوع مع أي كان، مما يساهم بشكل كبير في نجاح علاقاته مع الآخرين، ويحظى باهتمامهم وتقديرهم .وقد دلت البحوث الميدانية، أن من يقرأ كثيرأ يشارك أكثر من غيره في الفعاليات الثقافية والاجتماعية .

وبطبيعة الحال فإن ثقافة اإأنسان لا تتوقف على مقدار ما يقرأ، بل على عدد الكتب الجيدة التي فهمها واستوعبها واستفاد منها في حياته العملية. وكلما قرأ اإأنسان أكثر أصبح أقل شبهاً بالآخرين .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى