أيمن أبومصطفى - افتراضي حجاجية التشبيه دراسة تحليلية لشواهد عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة

حجاجية التشبيه:
عرض الجرجاني ( عبد القاهر) في أسراره التي حاول أن يقف فيها على الأسرار الجمالية للبلاغة العربية مجموعة من الأمثلة الشعرية التي تظهر أهمية وجمال التشبيه ، وفيما يلي توضيح ذلك وتفصيله:


النموذج الأول:

قال المتنبي ( ):
فإن اتفق الأنام وأنت منهم = فإن المسك بعض دم الغزال ( )


التشبيه هنا تشبيه ضمني، سمي ضمنيا؛ لأنه يفهم ضمن القول وسياق الكلام. فقد أراد أنه فاق الأنام وفاتهم إلى حدٍّ بَطَل معه أن يكون بينه وبينهم مشابهةٌ ومقاربةٌ، بل صار كأنه أصلٌ بنفسه وجنسٌ برأسه، وهذا أمرٌ غريب، وهو أن يتناهى بعض أجزاء الجنس في الفضائل الخاصّة به إلى أن يصير كأنه ليس من ذلك الجنس، وبالمدَّعِي له حاجة إلى أن يصحّح دعواه في جواز وجوده على الجملة إلى أن يجيء إلى وجوده في الممدوح، فإذا قال: فإن المسك بعض دم الغزال، فقد احتجّ لدعواه، وأبان أن لما ادّعاه أصلاً في الوجود، وبرّأ نفسه من ضَعَة الكذب، وباعَدها من سَفَه المُقدِم على غير بصيرة، والمتوسِّع في الدعوى من غير بيّنة، وذلك أن المسك قد خرج عن صفة الدم وحقيقته، حتى لا يُعَدُّ في جنسه، إذ لا يوجد في الدم شيء من أوصافه الشريفة الخاصة بوجه من الوجوه، لا ما قلّ ولا ما كثُر، ولا في المسك شيء من الأوصاف التي كان لها الدم دماً البتة" ( ).
- استشهد عبد القاهر الجرجاني وهو يعدد أغراض التشبيه حيث أورده تحت قوله:" بيان إمكان المشبه بإيراد التشبيه كبرهان له"
- وقد استخدم الشاعر التشبيه حجة لإقناع المخاطب بتفرده، فإنه يقال إن هناك غزلان معينة تسمى غزال المسك يمرنونها على رياضات معينة ثم ينفتح في بطنها سرة ويحكمون عزل هذه السرة عن بقية البدن بخيط يربطونها جيداً حتى لا يصل إليها الدم وبعد مدة تنفصل تيبس تنفصل هذا الدم الذي فيها هو المسك وهو من أطيب أنواع الطيب أصل هذا المسك ما هو؟ ما أصله؟ الدم ومع ذلك صار طيباً لا نظير له، أنت أيضاً يقول أنت أيها المخاطَب أنت من الأنام من تراب ثم من نطفة ولكنك تفوقهم كما يفوق المسك دم الغزال.
- وقيمة التشبيه لا ترجع فقط للعلاقة بين طرفيه، فقد ذكر الدكتور رجاء عيد في فلسفة البلاغة أن قيمة التشبيه مكتسبة من الموقف التعبيري ( ) فالتشبيه -هنا- ليس حلية أو زينة لفظية بل هو يعبر عن النفس، ويصور ما يدور في الخاطر والعقل ، ويقرب المسافات بين ما هو محسوس وما هو ملموس ، فيجعل العقل يقبل العلاقات القائمة بين الأشياء، بل قد يقيم علاقات يأبى العقل أن يقبلها ، فيجعل العقل يسلم بها ويقرها لا لشيء إلا لأنها اشتملت على طرافة وإبداع.
- وقد ظهر ذلك جليا خلال هذا البيت الذي به من الطرافة ما يدهش العقل ويحير اللب، فالمتنبي امتلك ناصية اللغة وأخذ بزمامها، فهي تنقاد له انقياد الدابة لصاحبها، فقد أراد أن يمدح سيف الدولة، فكيف يمدحه ؟ أيمدحه بوصفه بالبحر أو الأسد أو غير ذلك ؟ إن هذه الصور عفا عليها الزمن، إن المتنبي يبحث عن الجديد، ليس جديدا في المعنى فقط ، بل جديدا في التراكيب، في النظم على حد تعبير عبد القاهر الجرجاني( )، إنه يبحث وينقب عن هياكل أسلوبية لم تسبق، وقد أتحف السامع بهذه الصورة التي تستوقف الفكر والوجدان كليهما، إنه أراد أن يقول للممدوحة أنت الذي لا مثيل لك في الأنام ، وهذا يمكن أن يتهم القائل به بالمبالغة أو النفاق ، فالوصف يجب أن يكون قريبا من الموصوف ، وإن لم يكن كذلك فليكن بأوصاف معروفة عند الناس ، أما أن تدعي شيئا ، وتزعم أنه حقيقة، لأنك ستجد من يقف أمامك ويقول ما حجتك ؟ ولذا فقد كان المتنبي حاضر الذهن، حيث جاء بالحجة الدامغة، والدلالة القاطعة؛ لأن المسك بعض دم الغزال.
- حجة عقلية لا ينكرها العقل تعتمد على القياس المضمر، فللتشبيه قيمة حجاجية كبيرة، حيث يميل الإنسان بفطرته إلى التأكد من أن السامع استوعب الفكرة تماماً كما هي في نفسه ويرغب المتكلم أن يشعر بأن السامع أدرك الصورة التي يريد أن ينقلها إليه مثلما أحس بها هو وشاهدها ويشعر المرء بالارتياح والسعادة إذا استطاع أن ينقل إلى الآخرين ما عنده من فكر وما مر به من تجربه ولذا فإنه يركن إلى التشبيه بوصفه وسيلة حجاجية تمكنه من توصيل المعنى إلى قلب السامع .
- وبذلك نجد أن التشبيه الحجاجي لا يؤتى به ليكون زينة زخرفية تحسينية، بل ليزيد المعنى وضوحا فيقتنع به المتلقي، وذلك لأن " الصورة التشبيهية أو التمثيلية تتعاون قوى النفس "الفكر والخيال" في فهمها، لذلك كان التشبيه أداة ناجحة في الوصول إلى الهدف ، لما يترتب عليه من شغل الباطن، وشغل الحس الظاهر، فهي تمتلك النفوس بكل ما فيها من قوى فكرية أو خيالية، علاوة على أن النفس بها آنس ، ولها أميل ( )".
- ولم يأت التشبيه وحده، أو لنقل: إن التشبيه لم يكن ليكون بهذه الروعة والطرافة، لولا مجيئه في هيكل أسلوبي رائع ،فالفاء في قوله:" فإن المسك" للتعليل، وجواب الشرط محذوف، تقديره: فلا غرابة في ذلك.
- والحذف باب من أبواب البلاغة العربية معروف، والقرآن قد اعتمد عليه اعتمادا كبيرا؛ لما فيه من إثارة للذهن، وشد للانتباه، وإعمال للعقل، ونجد أنه ذكر جملة "وأنت منهم" ليزيد الغرابة، وقد تغنى المتنبي بهذه المزية ونسبها لنفسه، فقال:
وما أنا منهم بالعيش فيهم ولكن معدن الذهب الرغام.
- فالشعر يأتي بحجج عقلية لما يدعيه لنفسه أو لغيره، وهذا ما يطلق عليه عند لبلاغيين " المذهب الكلامي" وهو نوع كبير من البلاغة نسبت تسميته إلى الجاحظ (ت255هـ)، وهو في الاصطلاح: أن يأتي البليغ على صحة ودعواه، وإبطال دعـوى خصمه، بحجة قاطعة عقلية تصح نسبتها إلى علم الكلام، إذ علم الكلام عبارة عن إثبات أصول الدين بالبراهين العقلية القاطعة ( ).
وعرفه البقاعي بقوله:" هو إيراد حجـة تكـون بعد تسليم المقدمات مستلزمة للمطلوب " ( ).


النموذج الثاني:

أنا نارٌ في مُرْتَقَى نَظَرِ الحا = سِدِ، ماءٌ جارٍ مع الإخوان
يشرح عبد القاهر وظيفة التشبيه فيقول: ".. وهل تشك في أنه يعمل عمل السحر فى تأليف المتباينين حتى يختصر ما بين المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المشئم والمعرق ، وهو يريك للمعانى الممثلة بالأوهام شبها فى الأشخاص الماثلة ، والأشباح القائمة ، ينطق لك الأخرس ، ويعطيك البيان من الأعجم ، ويريك الحياة فى الجماد ، ويريك التئام عين الأضداد ، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماء والنار مجتمعين.كما يقال:
أنا نارٌ في مُرْتَقَى نَظَرِ الحا = سِدِ، ماءٌ جارٍ مع الإخوان"
إن عبد القاهر في هذه الفقرة من أسرار البلاغة يضع بين أيدينا أسرار جمال التشبيه ، فقيمة التشبيه ترجع إلى تأثيره في النفس، فهو يصور المحسوس بالملموس ، ويأتي بالحياة في الجماد ، ويجمع بين المتناقضين في موطن واحد،وهو أيضا يعتمد في غير التشبيه المفصل على الحذف ، وفيه إعمال للعقل وإثارة للذهن فهو أمتع وأوقع على النفس إن كان مجملا ، ويزداد حسنا إن كان بليغا ؛ لأن التشبيه المفصل أطول ، كما أن التشبيه المفصل أقل امتاعا من التشبيه المجمل أو البليغ ،لما فيه من حذف وإضمار؛ وهذا الإضمار أو الحذف هو ما يطلق عليه د . عبد الله صولة " المحل الشاغر ، ويقصد به المعنى الثاني ، أو معنى المعنى ، فالصورة تترك عادة محلا شاغرا في الكلام ، وهذا المحل الشاغر يؤدي إلى جعل الكلام نصفين منطوقا ( مصرحا به) أو مفهوما ( ضمنيا) يأتي لسد ذلك المحل الشاغر .
وعن مكانة التشبيه عند العرب يقول قدامة : "وأما التشبيه فهو من أشرف كلام العرب، وبه تكون الفطنة والبراعة عندهم" .
كما أن القاضي الجرجاني هنا أشار إلى جمال آخر وهو الجمع بين الضدين ، وهو ما يسمى التطابق أو التضاد فقد تكلم عن أهميته في تشكيل الصورة الفنية قائلاً في حديثه عن التمثيل، وتأثيره في النفس: (وهل تشك في أنه يعمل عمل السّحر في تأليف المتباينين حتى يختصر لك بعد ما بين المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المشئم والمعرق.. ويريك التئام عين الأضداد، فيأتيك بالحياة بعد الموت مجموعين، والماء والنار مجتمعين، كما يقال في الممدوح وهو حياة لأوليائه، موت لأعدائه ويجعل الشيء من جهة ماء، ومن جهة أخرى ناراً.)
خاطب الجرجاني العقل في أثناء كلامه على التضاد، ومعنى ذلك أنه يدرك أثر الثنائيات الضدية المتشكلة ضمن أنساق ضدية في خلق المعنى في النص.
فلقد جمع بين (ماء ونار) و(حاسد وإخوان) في سياق واحد ، بل في بيت واحد ليبين أنه شديد البطش بالأعداء ، شديد الحب للرفقاء ، ونحن نعلم أن الجميع يدرك مقدار الفجوة بين هاتين الثنائيتين ، وهذا التباعد هو مصدر الجمال في هذا البيت .


النموذج الثالث:

فأصبحت من ليلى كقابـض = على الماء خانته فروج الأصابع
" فالشاعر أراك رؤية لا تشك معها ولا ترتاب أنه بلغ من خيبة ظنه ، وبوار سعيه إلى أقصى المبالغ ، وانتهي فيه إلى أبعد الغايات ، حتى لم يحظ لا بما قل ولا ما كثر " .
فالتشبيه هنا يجسد في الواقع درجة الخيبة التي مُنِيَ بها الشاعر ، والتي مثلها في صورة القبض على الماء ، الذي يوحي بأكبر مظاهر الخيبة والحرمان ، وعدم القدرة على المقاومة ، غير أن الأمر لا يقف عند هذا الحد ، وإنما نرى أن الصورة توحي بمعان أخر ، وهي إذا كانت هذه المرأة التي يعشقها قد قابلته بالحرمان وعدم الاستجابة، فإن هذا الأمر مما اعتاد عليه في حياته بقبضه على الماء ، ومع ذلك لا يكف عنه ولا يتركه ، ومن ثم فإن " الشاعر لا يتذكر خيبته أو ما فقده فحسب ، بل يحب هذه الخيبة ويعشق مواقفها الأليمة الضائعة ، وكأن الشاعر عدل من فهمنا للخيبة ودعانا من طريق غير مباشر إلى أن نبحث عن العلاقة بين الخيبة، وعشق مواقفها الضائعة في إطار من التشبيه وفي سياق من التشكيل الحسي " . وأصبح الموقف لا يعبر عن حالة وجدانية خاصة فحسب وإنما تجاوز ذلك ، من خلال التفاعل بين الطرفين ، إلى تجسيد رؤية شعرية لموقف من المواقف الإنسانية .
وإما أن يكون لبيان إمكان وجوده ، " وذلك إذا كان المشبه حالة غريبة ربما تدعي الاستحالة فيها ، فتلحق بحالة مسلمة الإمكان لوقوعها في وجه جامع لهما ، وهو منشأ تلك الغرابة فيسلم إمكان المدعي" .
فليس يخفى أن ليلى تخلف الوعد والعهد. وأن ذلك يقع في قلب العاشق موقعاً مؤلماً، يتعاظم مع تكرارها الخلف والتمادي فيه. ولسنا ندرك مقدار ذلك الوجع في قلبه لو راح يحدثنا عنه حديث الكم والكيف. إنها النقطة التي قلنا عنها إن المشبه يقف فيها منهكاً يحتاج إلى رافد يحمل عنه عبء الثقل الدلالي الذي يرومه.. إنه لن يستطيع أن يمضي بعيداً فيما يريد ولو حشد من التفسيرات ما حشد، بل ستكون محض ثرثرة لا تغني في شيء. عندها يكون التشبيه ضرورة شعرية يتدخل فيها الشعب لينشعب بالدلالة إلى وجهة أخرى تفتح أمام التلقي عالماً –حسياً كان أو معنوياً –تسلك الشحنة العاطفية شعابه من جديد، فتجد فيه من السعة ما يمكِّنها من الانتشار الدلالي، من غير أن تركب متن الثرثرة والحشو. فالتشبيه محو للحشو وإبطال للثرثرة المشينة من هذا الوجه.‏
إن المتلقي إزاء مشهد "القابض على الماء" يجسد صورة عدم الجدوى من جهة، وصورة الرجاء الكاذب من جهة أخرى. وهي دلالات ذات أبعاد معنوية لا يمكن نقلها على هيئتها تلك، إلا من خلال مشهد الواقف على الماء يحاول المسك به، فيراه ينسرب بين فروج أنامله. إن الوعود في تلاشيها لا تختلف في شيء من الماء الجاري بين الأصابع. وليس تغنينا المقابلة بين الوعد والماء، ولا المشابهة بينهما، ولا المقايسة.. بل الذي يؤثر فينا هو المشهد الذي أفلح التشبيه في إقامته سنداً للدلالة الأولية في البؤرة الشعرية. فالصورة المأساوية للقابض على الماء، وهو يكرر المحاولة إثر المحاولة، تتمّ عن قلة حيلة وضيق حال، وصبر تتداعى جوانبه.‏
ولذا فلقد كان التشبيه مؤثرا فقد يكون (التشبيه) أدعى من الاستعارة للتعبير عن معنى معين، نظراً لخصوصيته التركيبية التي تميزه من سواه من التقنيات الصورية، إذ إنه يمثل التقنية الصورية الوحيدة التي تعقد علاقة موازاة بين طرفي الصورة على المستوى السطحي للنص. نظراً لخصوصيته التركيبية التي تميزه من سواه من التقنيات الصورية، إذ إنه يمثل التقنية الصورية الوحيدة التي تعقد علاقة موازاة بين طرفي الصورة على المستوى السطحي للنص. وبذلك يكون لأداة التشبيه دور فاعل في ذاك الربط المتحقق على ظاهر النص، ولاسيما الكاف، إذ إن "الحرف أداة في التركيب لا اعتبار لـها ولا معنى إلا من خلال وظيفة الربط بين عناصر الكلام. وهو بدوره هذا، لا يقل شأناً عن الاسم والفعل في النهوض بالدلالة والمساهمة في جمال النظم وحسن الترتيب"


النموذج الرابع:

وَطُولُ مُقَامِ الْمَرءِ في الْحَيِّ مُخْلِقٌ = لديباجتَيْهِ، فَاغتْتَرِبْ تَتَجــــَدَّدِ
فَإنِّي رَأَيْتُ الشَّمْسَ زيدَتْ مَحبــَّةً = إلى النَّاسِ أنْ لَيْسَتْ عَلَيْهِم بسرمد( )

المفردات:
(الديباجة: الشخصية. أراد الوجه والمكانة الأدبية. وأخلق: عطل وأفسد. وسرمد: دائم).
التشبيه هنا أيضا ضمني ، حيث يفهم من الأبيات أنه شبه حالة الحل والارتحال في نفعها بحالة غروب الشمس وشروقها ، فلا ينبغي أن تطول مخالطة الناس حتى لا يُمل الإنسان ، فجمال الشمس وحب الناس لها راجع إلى تجددها وعدم ثبوتها .
ونلاحظ أن الشاعر استخدم التشبيه استخداما حجاجيا ؛ حيث عرض فكرة ثم عرض الدليل عليها ، فكان لذلك تأثير في النفس ؛لتتقبل هذه الفكرة .
كما نلاحظ أن أبا تمام اعتمد على التصوير بشكل ظاهر، يهدف استخدامه إلى التجسيد المعنوي وإعطائه أبعادا مادية محسوسة حتى ليمكن رؤيته أمام ناظريك. فهو يجسد الفكرة الذهنية ليسهل على العقول إدراكها بمساعدة الشعور والخيال، فالصورة إذن لا تخاطب العقل، وإنما المشاعر والخيال.
فالصورة لغرابتها تلفت الانتباه لكونها غريبة غير متوقعة ؛ لذا تكون قادرة على الإقناع والحجاج , فقد قال الجاحظ في قول قتيبة ابن مسلم : " فعجب الناس من حسن ما قسم وفصل" وهذا العجب هو المطلوب لأنه يسهل الإقناع ,وهذا كله يتوافق مع أرسطو الذي اعتبر الاستعارة بمعناها عنصر إغراب، يحدث الهيبة والعجب يقول: " وإنما كانت الألفاظ المغربة تعطي في المعنى أمرا زائدا لمواضع الغرابة فيها، فإنه كما يعرض لأهل المدينة أن يتعجبوا من الغرباء الواردين عليهم، وتخشع لهم أنفسهم كذلك الأمر في الألفاظ الغريبة عند ورودها على الأسماع"

فهو يَرى أن مَن طال مكوثه في قوم هان لديهم، وأنفوا منه، كالثوب الذي ذهبت ديباجته، وزينته، ورونقه، فإذا اغترب تجدد، وغدا موضع اشتياق، مثله مثل الشمس التي إذا غابت أثارت الشوق إليها في كل غداة. فالبيت الأول حكمة مستقلة تامة قائمة بذاتها، تصلح أن تكون مثلاً لشيوعها، وهي مزيج بين قضيتين: معنوية، وحسية، إلا أنها تجتمع في مسألة تقريرية، تتمثل في التجدد والتجديد، وهي خلاصة تجربة ومشاهدة، تعالج، بل تضع قانوناً يمكن أن يطبق في كل حالة مماثلة، في حسن تشبيه، عبر الزمن، لأنها تصلح لكل زمان ومكان. إذن، هي عبارة عن مشاهدات وملاحظات، ترصد الواقع، وتبيّن، العلاقات بين الأسباب والمسببات، وخاصة حينما يوردها الشاعر في ربط الاغتراب بالتجدد، فالعلاقة بينهما علاقة أبدية لا تنفك عراها ولا تنفصم، ولا تتحقق الثانية دون الأولى، فلابدّ من وجود الاغتراب حتى يتحقق التجدد، فالتجدد دون الاغتراب مستحيل. وعلى أية حالة، فإن هذا يتمثل في افتراض ـ على الرغم من أنه أصبح قانوناً مسلَّما به ـ يحتاج إلى إقامة الدليل، وإثبات البرهان على صحته... فيأتي البيت الثاني ليعبر عن معنى حسي، يسلم به الجميع، ويقرونه، وهو صالح أن يكون حكمة مستقلة أيضاً، لكنه يتحد مع الأول، ويقويه، ويؤكده، فيجعل منهما مقدمة ونتيجة، ويبدع في رسم صورة كلية بديعية منهما، وإن كانت تلامس الذهن، وتُدرك بالعقل، من خلال إخضاعها لعلم فلسفي منطقي، يقوم على المجادلة والبرهان، والشعر ليس بحاجة إلى ذلك.
وقد ذكر ابن الأثير أن هذا المعنى مبتدع لم يسبق إليه الشاعر، وغيره كثير( ). ويذكر ابن رشيق القيروان أن أبا تمام: "كان أكثر المولّدين اختراعاً، وتوليداً فيما يقول الحذاق..."( )، ويذهب القيرواني إلى التفريق بين الإبداع والاختراع ـ وإن كان معناهما في العربية واحداً ـ قائلاً: "إن الاختراع خَلْقُ المعاني التي لم يسبق إليها، والإتيان بما لم يكن منها قطّ. والإبداع: إتيان الشاعر باللفظ المستظرف الذي لم تجر العادةُ بمثله، ثم لزمته هذه التسمية حتى قيل له: بديع، وإن كثر وتكرر الإبداع، فصار الاختراع للمعنى والإبداع للفظ، فإذا تم للشاعر أن يأتي بمعنى مخترع في لفظ بديع، فقد استولى على الأمد، وحاز قصب السبق".

تعليقات

أ
جزاكم الله خيرا لنشركم بحثي هذا وأسأل الله تعالى أن ينفع به.
د.أيمن أبومصطفى
دكتوراه في البلاغة والنقد
 
تحية وتقدير د. أيمن ابو مصطفى .. ونرحب بكم بهذا الفضاء المكرس لنشر المعرفة والفكر العربي
 
أعلى