المكان موحش، الوحشة تأتي من الروح وتعم المكان، الأصدقاء بعيدون، القريبون لا وجود لهم، الذكريات تبدو باهتة، تمر سريعاً، لا تريد التوقف عند خط المرض، ترغب فقط بأن تظل متوهجة كما كانت في بداية الشوط لا كما انتهت إليه، طوفان من الصور الضبابية يركض كما الغيم للابد في طيات الليل..لماذا لم أعد أعبأ بالوقت، ولماذا ترحل الأحلام بلمح البرق، على الرغم من أنني لمّا ازل أتشبث ببقايا أفكار لحكاياتي القادمة؟
امرأة لا أعرفها، تجاورني في السرير المقابل، نزلت بعد طول صمت وجلست على طرف سريري، ملامحها تشي باللامبالاة، يخيل لي بعد ثوان بأنني أعرفها، ثم بعد ثوان أخرى أكون شبه متأكدة بأنني لا أعرفها، تسألني: متى يحين دوري أيتها السيدة المبجلة؟ لا أدري أي دور تقصد، وفيما إذا كنتُ مبجلة حقاً، ماذا فعلت لأكون مبجلة؟ أغمض عينيّ وأفتحهما، وما تزال المرأة تنظر إليّ بعينين كليلتين ووجه شاحب، ترمقني بغرابة، هل تبحث مثلي عن إجابة لتعرف لماذا تخرج الوحشة من الروح وتحط على المكان؟ وأي مكان هذا الذي نحن فيه؟ وعندما أغمضت عينيّ وفتحتهما للمرة الثانية لم أجد المرأة، حتى أنني لم أسمع خطواتها حين خرجت، ولم أسمع صوت باب يفتح أو يغلق، السرير المقابل فارغ، هل كانت ثمة امرأة ترقد عليه أم أنني توهمت؟
تُدهشني تلك المأذنة التي تلوح عن بعد من النافذة، في الليل تتحول الى لون أخضر، فيما تتبارق عيون السيارات بلون أصفر وبرتقالي، ويختفي الغيم، تختفي الوجوه، وتتلاشى حدود الأشياء، ليتكرر الأمر في الأيام التالية، تنزل المرأة من سريرها وتجلس على طرف سريري، تسألني السؤال ذاته ثم تختفي، كما لو أنه فيلم يعاد كلما انتهى، الحياة مثل لعبة جر الحبل، تنتهي بسحبك الى حيث لا تريد بعد أن تتشفى بخسارتك.. ترى ماذا كنت تريد من الحياة بالضبط؟
شريط حياتي الماضية ركض سريعاً، أنا التي كنت أظن بأنني أتحكّم بإخراجه، أخرجني عنوة من بين زحام الأحباب والأصدقاء، والأعداء أيضاً، هم وحدهم من لاحقوني لينتزعوا مني دور البطولة... هل قلتُ البطولة؟ حسنٌ، إنها زائفة، ورقة يانصيب خاسرة، هكذا تبدو لي بعد هذا العمر الطاعن في الترحال.
ألاحق أنفاسي المضطربة والمشروخة مع ظلال كثيفة تحط على عيني، ينفتح الباب، أرى طفلة بثوب أزرق مطبوعة عليه زهرات حمر، تحمل وردة قرنفل بيضاء، تقدمت مني وهي تبتسم دون أن تنفرج شفتاها، عيناها عسليتان، ضفائرها سود طويلة، وضعت الزهرة بين يدي واستدارت لتخرج، خانتني شفتاي بقول كلمة شكراً، ركضت الطفلة وهي تكركر تاركة في نفسي حنيناً جارفاً لاحتضانها، وراودني شعور بأنني سبق أن رأيت هذه الطفلة منذ زمن بعيد، قبضتُ على غصن الوردة وأغمضت عيني، وبعد قليل سمعت حركة الباب، كنت أظن بأنها عادت، لكن الرجل ذا الرداء الأبيض الذي يأتي من حين لآخر هو الذي جاء، تغيب ملامحه حين يقترب من سريري، أراه كتلة ضبابية لكنني أسمع صوته إذا ما تحدّث، في بعض الأحيان أفرزن ما يقول، وفي أحيان أخرى تضيع كلماته دون أن أمسك بها، بدأ بكلام في الوقت الذي كنت منشغلة عنه بالبحث عن الوردة، عبثت أصابعي بين الأغطية ولم أفهم ماقال، وحين انتبه لحركة يدي راح ينظر في المكان، قلت له بأنني أبحث عن وردة قرنفل بيضاء؟ سألني: أية وردة؟ قلت: تلك التي أهدتني إياها الطفلة ذات العيون العسلية.. راح يقلّب الغطاء ثم انحنى ونظر الى أسفل السرير لعلها تكون قد سقطت، بعد ذلك وكمن انتبه سألني: أية طفلة ومتى جاءت؟ شعرتُ بأنني متعبة جداً وبأن الكلمات بدأت تصطدم على شفتي وتصبح مجرد تمتمات لكلام لا أفهمه، أو أفهمه لكنني أعجز كيف أصنّفه أو الى أي مرحلة من عمري ينتمي، يلوح لي وجهي في مرآة متشظية فأراني امرأة متعددة الوجوه.. كلا كلا، لم أكن أقصد بأن لي وجوهاً متعددة، لقد أخطأت التعبير، بل أعني بأنني أرى وجوهاً متعددة للحياة التي عشتها، ولطالما وجدتُ بدائل لكل ما يضيع من بين يدي، الآن، لستُ متيقنة تماماً بأنني سأستطيع إيجاد بدائل لما عليه الوضع الراهن، أو ما ستأتي به اللحظة القادمة، كيف لي أن أعرف، أنا العاجزة عن ملاحقة الصور في رأسي والكلام على شفتي،، العاطلة بين غمامات الألوان الباهتة؟
ومع كل هذا العجز مازلتُ ممسكة بالحبل، لم يسحبني بعد ولم تسقطني الحياة من سجلاتها، هذا ما قلته للرجل ذي الرداء الأبيض، الرجل الشاحب شحوب الصور في رأسي، أمسك بيدي ليضخ لي دفق الأمل فقلت له في لحظة صحو: أنا لا أخاف الموت بل أخاف من مشاكساته السمجة، إنه ينظر لي كما لو أنني طريدة تحاول الفرار من بين مخالبه، أنا فعلاً أحاول الفرار على الرغم من أنني لا أذهب بعيداً لكي لا أفلت الحبل الذي لا أدري كيف أمسك به من الطرف الآخر وراح يتوعدني، لكنني لا أبالي، وهذا ما يزعجه، إنه يترصدني وأنا أخاتله وأنصب الكمائن، أو لأقل بأنني أوهم نفسي بنصب الكمائن لأزوغ من بين أصابعه.
هل قلتُ ذلك للرجل ذي الرداء الأبيض أم أن الكلام دار في رأسي فقط؟ لا لم أزغ ولم أنصب الكمائن، بل يزوغ بصري في البياض الغارق بزرقة سماوية تتغلغل في عيني وتُراكِم الصور في مخيلتي، صور وجوه أعرفها لكنني لم أفرزنها، تجيء على عجل وتخطف أشياء لم تتضح تماماً لي، هل جاءت لأنها نسيت لديّ دفاتر مذكراتها؟ لماذا تزدحم من حولي ثم تتفرق وتعود ثانية لتزدحم؟ أم أنني أهذي، وليس ثمة امرأة ترقد في السرير المقابل، أو طفلة ذات عيون عسلية أهدتني وردة قرنفل، بيضاء أو رجل شاحب الوجه أقول له بأنني لا أخاف الموت؟ بل حتى هذا المكان الذي أنا فيه لا أعرفه، هل هو بيتي أم غرفة في مستشفى أم أنني معلقة في الهواء؟
أغمضت عيني تماماً هذه المرة، لم تعد الصور تثقب رأسي، بينما بدأت الموجودات من حولي تغيب شيئاً فشيئاً وتتلاشى، وحدها الطفلة ذات العيون العسلية بقربي تحمل وردة القرنفل البيضاء وتبتسم، لا أدري كيف عادت بمجرد إغماض عيني، وثمة ضوء شديد السطوع يحاول الاقتراب مني، يوجه مركز سطوعه على جبيني، ربما يريد اختراق رأسي، شعرت بسلام تام مع نفسي كأنني أتخلص من عبء كان يثقل علي، وبأنني لست في الزمن الذي كنت فيه.... هل أفلتُ الحبل؟
امرأة لا أعرفها، تجاورني في السرير المقابل، نزلت بعد طول صمت وجلست على طرف سريري، ملامحها تشي باللامبالاة، يخيل لي بعد ثوان بأنني أعرفها، ثم بعد ثوان أخرى أكون شبه متأكدة بأنني لا أعرفها، تسألني: متى يحين دوري أيتها السيدة المبجلة؟ لا أدري أي دور تقصد، وفيما إذا كنتُ مبجلة حقاً، ماذا فعلت لأكون مبجلة؟ أغمض عينيّ وأفتحهما، وما تزال المرأة تنظر إليّ بعينين كليلتين ووجه شاحب، ترمقني بغرابة، هل تبحث مثلي عن إجابة لتعرف لماذا تخرج الوحشة من الروح وتحط على المكان؟ وأي مكان هذا الذي نحن فيه؟ وعندما أغمضت عينيّ وفتحتهما للمرة الثانية لم أجد المرأة، حتى أنني لم أسمع خطواتها حين خرجت، ولم أسمع صوت باب يفتح أو يغلق، السرير المقابل فارغ، هل كانت ثمة امرأة ترقد عليه أم أنني توهمت؟
تُدهشني تلك المأذنة التي تلوح عن بعد من النافذة، في الليل تتحول الى لون أخضر، فيما تتبارق عيون السيارات بلون أصفر وبرتقالي، ويختفي الغيم، تختفي الوجوه، وتتلاشى حدود الأشياء، ليتكرر الأمر في الأيام التالية، تنزل المرأة من سريرها وتجلس على طرف سريري، تسألني السؤال ذاته ثم تختفي، كما لو أنه فيلم يعاد كلما انتهى، الحياة مثل لعبة جر الحبل، تنتهي بسحبك الى حيث لا تريد بعد أن تتشفى بخسارتك.. ترى ماذا كنت تريد من الحياة بالضبط؟
شريط حياتي الماضية ركض سريعاً، أنا التي كنت أظن بأنني أتحكّم بإخراجه، أخرجني عنوة من بين زحام الأحباب والأصدقاء، والأعداء أيضاً، هم وحدهم من لاحقوني لينتزعوا مني دور البطولة... هل قلتُ البطولة؟ حسنٌ، إنها زائفة، ورقة يانصيب خاسرة، هكذا تبدو لي بعد هذا العمر الطاعن في الترحال.
ألاحق أنفاسي المضطربة والمشروخة مع ظلال كثيفة تحط على عيني، ينفتح الباب، أرى طفلة بثوب أزرق مطبوعة عليه زهرات حمر، تحمل وردة قرنفل بيضاء، تقدمت مني وهي تبتسم دون أن تنفرج شفتاها، عيناها عسليتان، ضفائرها سود طويلة، وضعت الزهرة بين يدي واستدارت لتخرج، خانتني شفتاي بقول كلمة شكراً، ركضت الطفلة وهي تكركر تاركة في نفسي حنيناً جارفاً لاحتضانها، وراودني شعور بأنني سبق أن رأيت هذه الطفلة منذ زمن بعيد، قبضتُ على غصن الوردة وأغمضت عيني، وبعد قليل سمعت حركة الباب، كنت أظن بأنها عادت، لكن الرجل ذا الرداء الأبيض الذي يأتي من حين لآخر هو الذي جاء، تغيب ملامحه حين يقترب من سريري، أراه كتلة ضبابية لكنني أسمع صوته إذا ما تحدّث، في بعض الأحيان أفرزن ما يقول، وفي أحيان أخرى تضيع كلماته دون أن أمسك بها، بدأ بكلام في الوقت الذي كنت منشغلة عنه بالبحث عن الوردة، عبثت أصابعي بين الأغطية ولم أفهم ماقال، وحين انتبه لحركة يدي راح ينظر في المكان، قلت له بأنني أبحث عن وردة قرنفل بيضاء؟ سألني: أية وردة؟ قلت: تلك التي أهدتني إياها الطفلة ذات العيون العسلية.. راح يقلّب الغطاء ثم انحنى ونظر الى أسفل السرير لعلها تكون قد سقطت، بعد ذلك وكمن انتبه سألني: أية طفلة ومتى جاءت؟ شعرتُ بأنني متعبة جداً وبأن الكلمات بدأت تصطدم على شفتي وتصبح مجرد تمتمات لكلام لا أفهمه، أو أفهمه لكنني أعجز كيف أصنّفه أو الى أي مرحلة من عمري ينتمي، يلوح لي وجهي في مرآة متشظية فأراني امرأة متعددة الوجوه.. كلا كلا، لم أكن أقصد بأن لي وجوهاً متعددة، لقد أخطأت التعبير، بل أعني بأنني أرى وجوهاً متعددة للحياة التي عشتها، ولطالما وجدتُ بدائل لكل ما يضيع من بين يدي، الآن، لستُ متيقنة تماماً بأنني سأستطيع إيجاد بدائل لما عليه الوضع الراهن، أو ما ستأتي به اللحظة القادمة، كيف لي أن أعرف، أنا العاجزة عن ملاحقة الصور في رأسي والكلام على شفتي،، العاطلة بين غمامات الألوان الباهتة؟
ومع كل هذا العجز مازلتُ ممسكة بالحبل، لم يسحبني بعد ولم تسقطني الحياة من سجلاتها، هذا ما قلته للرجل ذي الرداء الأبيض، الرجل الشاحب شحوب الصور في رأسي، أمسك بيدي ليضخ لي دفق الأمل فقلت له في لحظة صحو: أنا لا أخاف الموت بل أخاف من مشاكساته السمجة، إنه ينظر لي كما لو أنني طريدة تحاول الفرار من بين مخالبه، أنا فعلاً أحاول الفرار على الرغم من أنني لا أذهب بعيداً لكي لا أفلت الحبل الذي لا أدري كيف أمسك به من الطرف الآخر وراح يتوعدني، لكنني لا أبالي، وهذا ما يزعجه، إنه يترصدني وأنا أخاتله وأنصب الكمائن، أو لأقل بأنني أوهم نفسي بنصب الكمائن لأزوغ من بين أصابعه.
هل قلتُ ذلك للرجل ذي الرداء الأبيض أم أن الكلام دار في رأسي فقط؟ لا لم أزغ ولم أنصب الكمائن، بل يزوغ بصري في البياض الغارق بزرقة سماوية تتغلغل في عيني وتُراكِم الصور في مخيلتي، صور وجوه أعرفها لكنني لم أفرزنها، تجيء على عجل وتخطف أشياء لم تتضح تماماً لي، هل جاءت لأنها نسيت لديّ دفاتر مذكراتها؟ لماذا تزدحم من حولي ثم تتفرق وتعود ثانية لتزدحم؟ أم أنني أهذي، وليس ثمة امرأة ترقد في السرير المقابل، أو طفلة ذات عيون عسلية أهدتني وردة قرنفل، بيضاء أو رجل شاحب الوجه أقول له بأنني لا أخاف الموت؟ بل حتى هذا المكان الذي أنا فيه لا أعرفه، هل هو بيتي أم غرفة في مستشفى أم أنني معلقة في الهواء؟
أغمضت عيني تماماً هذه المرة، لم تعد الصور تثقب رأسي، بينما بدأت الموجودات من حولي تغيب شيئاً فشيئاً وتتلاشى، وحدها الطفلة ذات العيون العسلية بقربي تحمل وردة القرنفل البيضاء وتبتسم، لا أدري كيف عادت بمجرد إغماض عيني، وثمة ضوء شديد السطوع يحاول الاقتراب مني، يوجه مركز سطوعه على جبيني، ربما يريد اختراق رأسي، شعرت بسلام تام مع نفسي كأنني أتخلص من عبء كان يثقل علي، وبأنني لست في الزمن الذي كنت فيه.... هل أفلتُ الحبل؟